عناصر الخطبة
1/ انقسام السعادة إلى قسمين: سطحية وإيمانية 2/ انقطاع السعادة الغريزية لارتباطها بالشهوة وتحصيلها بها 3/ مفهوم السعادة الإيمانية وديمومتها ومعالمها وانعكاسها على الأخلاق 4/ طمأنينة المؤمنين وربط الله تعالى على قلوبهم 5/ ابن تيمية نموذجا لتحصيل السعادة الإيمانية رغم ظروف العيش القاسيةاهداف الخطبة
اقتباس
السعادة الإيمانية أنْ لَا يحزنك شيء فاتك من الدنيا حزنا مُقْعِدَاً؛ بل هو صبر واسترجاع، ويقين بخير العاقبة، وهو مصداق قوله -جل وعلا- في القضاء والقدر: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
السعادة شعور جميل يسعى لتحصيله جميع الناس بشتى الوسائل، وكلامنا اليوم -إن شاء الله- ليس عن تحقيق السعادة، بقدر ما هو النظر في مفهوم السعادة.
أيها الإخوة: السعادة سعادتان: سعادة غريزية سطحية، وسعادة قلبية إيمانية؛ فالسعادة الغريزية هي السعادة المشهورة المتداولة بين الناس، والتي تظهر معالمها على الإنسان بمظاهرها المعروفة مثل كثرة الضحك، أو التفاعل الاجتماعي والنشاط والحيوية، أو سعة العلاقات وحسنها، والإحساس بلذة المال، وعظمة السلطة، والاستمتاع بالمطاعم والمشارب، والفرح بامتلاك البيوت الفخمة، والسيارات الفارهة، وما شابهها بالمظاهر التي يُظَنُّ بمن ظهرت عليه أنه سعيد.
فهذه المتع والأحاسيس والملذات هي معالم السعادة الغريزية التي يشترك فيها جميع الناس، مؤمنهم وكافرهم، وهي بلا شك مطلوبة ومرغوبة، بل إنها محل الحسد والتنافس والقتال من قديم الزمان.
لكنها بالرغم من ذلك سعادة هشة معرضة للزوال، بل قد ينتقل صاحبها جراء خبر ما أو حدث ما، أو عارض صحي، من قمة السعادة إلى قعر التعاسة رأسا، لماذا؟ لأن هذه السعادة مرتبطة بالشهوة، والشهوة خاضعة للأقدار ،تأتي وتذهب ولا تدوم.
فقد يسعد صاحبها من شيء يحبه ويشتهيه ثم يُفسد سعادته تلك شيءٌ آخر يكرهه، وقد يسخط حينها، كما هو حال عبد الدينار الذي يدور مع شهوته، بيَّن ذلك -صلى الله عليه وسلم- في وصفه له لما قال: "تعِس عبد الدينار والدرهم والخميصة! إن أُعْطِيَ رَضِيَ، وإن مُنع غضب، تعس وانتكس! وإذا شيك فلا انتقش" أخرجه البخاري.
ولأن هذه السعادة مشتركة في حياة الناس، مؤمنهم وفاسقهم وكافرهم؛ فإنها لا تفرق في سبيل تحصيلها بين الطاعة والمعصية، لا فرق، فقد يطلبها صاحبها عن طريق السرقة أو الرشوة أو الغش والكذب، نعَم، يطلب السعادة بهذه الوسائل؛ وقد يطلبها آخر بظلم الناس وقهرهم، وقد يطلبها غيره في المراقص والحانات، وفي الوقت ذاته قد يطلبها الإنسان المستقيم في المباحات، من سفر مباح، ولهو مباح، ومطعم وملبس؛ فالحاصل أن هذه السعادة لا تفرق بين حلال وحرام، فالشعور بها قد يأتي من الحلال وقد يأتي من الحرام.
وهناك سعادة أخرى خاصة، من نوع آخر، لا يشعر بها على الحقيقة إلا قلة من الناس، وهي "السعادة الإيمانية"؛ وأقولُ "على الحقيقة"؛ لأن الناس فيها متفاوتون، سعادة الرضا بقضاء الله، والأنس بذكره ومحبته، وانشراح الصدر بعبادته، والتفاؤل حين رجائه، وترقُّب عفوِه، واحتساب ثوابه.
أقول: الناس في الشعور بها متفاوتون، منهم من كملت في قلبه، ومنهم دون ذلك، وهي سعادة تختلف عن تلك الأولى في استحالة انقطاعها؛ لأنها منفصلة عن الشهوة، فهي حالة من الطمأنينة مستمرة في أعماق النفس، بالرغم من الطوارئ التي تنتابها، كالحزن والبكاء والاضطراب والقلق أحيانا.
ولكن هذا السعيد إذا حزن لا يكسره الحزن، ولا يقنطه، ولا يؤثر في سعادة الإيمان التي تغمر قلبه أبدا، فهو -وإن حزن- فإن قلبه فرِحٌ بالله، وإن بكى فصدره مطمئن بقضائه، وسرعان ما يتغلب على تلك الأحزان بالصبر الجميل، واليقين، والإيمان.
السعادة الإيمانية أنْ لَا يحزنك شيء فاتك من الدنيا حزنا مُقْعِدَاً؛ بل هو صبر واسترجاع، ويقين بخير العاقبة، وهو مصداق قوله -جل وعلا- في القضاء والقدر: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد:22-23].
فهذا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان أسعد البشر بربه طوال حياته، يقول عند وفاة ابنه: "إن القلب لَيَحْزَن، وإن العين لَتَدْمَع، ولا نقول إلا ما يُرضِي ربنا"، سعيد -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان قد حزن على فقد ابنه.
وقال يعقوب عليه السلام: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف:84]، لقد حزن يعقوب، نعم! ولكنه لم يفقد الأمل -عليه السلام-، بل حذر أبناءه من اليأس قائلا: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87].
فالحزن في قلب المؤمن عرَضٌ زائل لا يُلغي سعادته ولا يوقفها، بل إنَّ فرقاً رئيسا بين السعادتين الغريزة والإيمانية، أن السعادة الإيمانية تستغرق الزمان كله بلا انقطاع، وتمتد إلى ما بعد الحياة الدنيا؛ بخلاف السعادة الغريزية التي تنقطع مع انقضاء الشهوة، وتنقضي مع انقضاء اقتضاء الشهوة، فلا حزن يطغي على سعادة الإيمان.
ولذلك؛ لو تأملت لوجدت أن كلمة "تحزن" في جميع القرآن لم ترد إلا مسبوقة بكلمة "لا" دائما، (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ) [التوبة:40]، (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [الحجر:88]، (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل:127]، (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ) [طه:40]، (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ *وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النمل:69-70]، (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ) [القصص:13]، (وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ) [العنكبوت:33]. جميع ما جاء في القرآن من كلمة "تحزن" سبقتها كلمةُ "لا".
بل إن القرآن ربط على قلوب المؤمنين، فهم لا يحزنون أبدا ما داموا مؤمنين: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:139]؛ فمهما أحس قوي الإيمان بالحزن فإيمانه يرفع عنه ذلك الحزن بحسب قوة إيمانه، وعندما مات سعد بن معاذ -رضي الله عنه- حزن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد الحزن، وبكاه الصحابة، وهم أسعد الناس بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
تقول عائشة -رضي الله عنها-: فوالذي نفسي بيده! إني لَأَعْرِفُ بُكاءَ أبي بكر من بكاء عمر وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:29]، قال علقمة، فقلت: أي أماه! فكيف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع؟ قالت: كَانَتْ عَيْنَاهُ لا تَدْمَعُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا وَجَدَ فَإِنَّمَا هُوَ آخِذٌ بِلِحْيَتِهِ. إنه حزن لوعة الفراق، مصحوب بسعادة الرجاء لذلك الصاحب بحسن المقام عند رب العباد.
ولذلك نجد القرآن يذكر الصحابة بعد معركة أحد، المعركة التي حصل للمؤمنين فيها ما حصل من البلاء العظيم: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) [النساء:104]، لا سوء! (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ)، هذا هو الفرق: الله -سبحانه وتعالى- معكم فاسعدوا به، (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ).
معاشر الإخوة: قد يتساءل البعض حول واقعية هذا الكلام، والجواب: نعم، هو واقعي، ولكن ما الذي يبعث على مثل هذا التساؤل؟ إنه القصور في فهم السعادة الإيمانية وعلاماتها؛ فإن الدارج أن السعادة ضحك ومرح وإحساس بالمتعة، فلا سعادة ما لم تظهر لها مثل هذه العلامات، وهذا خطأ في الفهم، فعلامات السعادة الإيمانية فريدة قد تخفى على الكثيرين.
فإن من علامات السعادة أخلاق تظهر على العبد، فمنها أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه وحسن خلقه، وزيد في خوفه من الله تعالى، وحذَرِهِ من معصيته، هذا من السعادة؛ وكلما زيد في عمره نُقِص من حرصه على الدنيا، وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، وكلما زيد في قدْره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم.
أما الشقاوة فعلاماتها تختلف، فالشقي عكس السعيد، الشقي كلما زيد في علمه زيد في كبره واعتداده برأيه، وكلما زيد في عمله الخيري زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه على الدنيا، وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره ونشوته في مكانته.
وهذه الأمور كلها ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده، فيسعد بها أقوام ويشقى بها آخرون؛ ولذلك لما تكلم ابن القيم عن حديث فرح الله تعالى بتوبة عبده: "لَلَّهُ أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم..." الحديث المعروف، قال: والجزاء من جنس العمل، أي: إن الله تعالى كما يفرح بتوبة عبده فإنه يمنح عبده التائب من الفرح ما لم يكن في حسبانه.
يقول: فلا ينسى الفرحة التي يظفر بها عند التوبة النصوح، وتأمل كيف تجد القلب يرقص فرحا وأنت لا تدري بسبب ذلك الفرح ما هو، وهذا أمرٌ لا يحس به إلا حي القلب، وأما ميت القلب فإنما يجد الفرح عند ظفره بالذنب، ولا يعرف فرح غيره! نسأل الله السلامة.
يقول: فوازِنْ إذاً بين هذين الفرحين، وانظر ما يعقبه فرح الظفر بالذنب من أنواع الأحزان والهموم والغموم والمصائب، فمن يشتري فرحة ساعة بغم الأبد؟! والمرجع من هذا بقرب العبد من الله أو البعد عنه، فالله تعالى يوفق عبده حسب صدقه وإخلاصه وعمله الصالح.
فوالله لولا اللهُ يُسْعِدُ عبْدَهُ *** بتوفيقهِ واللهُ بالعبدِ أرحَمُ
لمَا ثبَتَ الإِيمانُ يوماً بقلبِهِ *** علَى هذه العِلَّاتِ والأمْرُ أعظَمُ
ولا طاوعَتْهُ النفسُ في ترْكِ شهْوةٍ *** مخافةَ نارٍ جمْرُهَا يتَضَرَّمُ
اللهم أحْيِ قلوبنا بنور الإيمان واليقين، وثبِّتْنَا على هداك يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فاستمع إلى وصف السعادة الإيمانية: يقول ابن تيمية -رحمه الله-: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
ولما أُلقِي به -رحمه الله- في سجن القلعة بدمشق بسبب تقليب الصوفية عليه لفتواه الشهيرة بحرمة شَدِّ الرِّحَال لزيارة القبور، ضيَّقُوا عليه في السجن بشدة؛ ولكنه -رحمه الله- لم يكُفَّ عن إعمال عقله وفكره وتدوين علمه.
ولما رأي خصومُه فيوضات عقله النير تخرج من خلف الجدران والأسوار ممثلة في رسائله ومؤلفاته الفائقة، أرادوا ان يُسكتوا صوت الحق ويطفئوا نور العلم؛ فصادروا أقلامه وأوراقه لمنعه من الكتابة؛ حتى أنه اضطر لأن يكتب لأهله وتلاميذه على الرسائل التي أرسلوها إليه بالفحم المرمي في أرض السجن...
فما كان من أعدائه إلا أن نقلوه إلى زنزانة مظلمة فأضرت ببصره فلم يستطع أن يكتب، فما كان منه بعد ذلك إلا أن أقبل على العبادة من صلاة ودعاء وقراءة قرآن ومناجاة لله تعالى، وهو في أسعد عيش، ويقول: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري؛ إن رحت فهي معي لا تفارقني، إنَّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وقال: المحبوس مَن حبس قلبه عن ربه، والمأسور مَن أسره هواه. وذلك قبل وفاته بخمسة أشهر. يقول تلميذه ابن القيم: ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها قال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) [الحديد:13]؛ كأنه يجد الرحمة داخل السجن!.
ويقول ابن القيم: وعَلِم الله، ما رأيتُ أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم؛ بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرّهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت مِنَّا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة. اهـ.
هذه هي السعادة الإيمانية التي لا تقطعها أصعب الأحداث، والآن: كيف نحصلُ على سعادة الإيمان ونرتقي في منازلها؟.
أسأل الله تعالى أن يُيَسِّرَ مقاماً لذلك...
اللهم أصْلِحْ قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا...
التعليقات