عناصر الخطبة
1/ظاهرة عضل البنات ومنعهن من الزواج 2/من معاناة العوانس وأحزانهن 3/أسباب منع البنات من الزواج 4/تشديد النبي على الإحسان إلى البنات 5/التحذير من الظلم وبيان عواقبهاقتباس
بعض الناس لا يزوج ابنته إلا برجل من قبيلته، وتعظم المصيبة إذا كان هذا الرجل من رؤوس القبيلة، فإنه لا يخرجها إلا لخواص بني عمومته، وإذا أعرض عنها أبناءُ العمومة، فإنها تجلس دون زواج، ويتعلل بأن هذا هو قدرها...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي قضى على كل مخلوق بالفناء، وتفرد بالعز والبقاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه هداة الأنام، ومصابيح الدجى.
أما بعد: فإن الواجب على المسلم إذ أنعم الله عليه بنعمة الذرية، أن يشكر لله -تعالى- نعمته، ويعلم أن هؤلاء الأبناء إنما هم أمانة في يده، إنْ أحسن إليهم أُجر وغنم، وإن ضيّعهم أثم وغرم.
وإننا في هذه الكلمات نريد أن نتكلم عن صورة من صور ضياع الأمانة، يمثلها بعض الآباء الذين دهمتهم الغفلة، وحلت في قلوبهم القسوة، ولم يزدادوا مع مرور الأيام إلا غيّا، ولم يحصدوا مع مضي الأوقات إلا ظلما وبغيا، تمر بهم العبر فلا يعتبرون، وتطرق آذانهم المواعظ فلا يتعظون؛ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)[البقرة: 171].
إنها لمصيبة عظمى، حين يتحول قلب الأب العطوف إلى صخر جلمدي، لا يفكر إلا بجني الأموال، أو مراعاة الأعراف السائدة في مجتمعه أو قبيلته، ولو كان على حساب ضياع بنياته الضعيفات!.
إننا نريد أن نتكلم عن قضية يندى لها الجبين، وتتفطر لها القلوب، وتتصدع لهولها الجبال الراسيات، حول بنيات مضت حياتهن، وتقدم بهن العمر، ولم يزلن بغير زواج، فأصبحن كالأشجار المنحنية التي هاجمتها رياح الخريف؛ فتساقطت أوراقها، ويبست أغصانها، وكالأزهار الذابلة التي ذهب شذى عطرها، وبعضها الآخر الذي شارف على حافات الذبول، فأصبحن حبيسات البيوت، واحتواهن ذلك العالم الحزين، الذي اكتظ بزحام الهموم، وضاق بصيحات الأنين.
فقد كنّ زينة للبيوت، وحصناً للفضيلة، فنُسين في زحمة الحياة، فبقين قابعات في البيوت، محاصرات بالهموم، ينتظرن الأمل الذي يبدد ظلام الوحدة ووحشة الحياة، فمن قائلة: "أصبحت كلمةُ عانس بمثابة الخنجر الذي يصيب صميم فؤادي"، ومن قائلة: " أتوق إلى بيت وأسرة مثل باقي البنات، أصبحت مثل الرجال في تحمّل كل شيء، ولكن قلبي قلبُ طفل، طالما بكيت بيني وبين نفسي حتى لا يراني أحد"، وأخرى يعبر عنها قول القائل:
فعبرتُ سورَ الأربعين ولم تزلْ *** بـي للطفـولـةِ عـــودةٌ وصهيلُ
لقد كثرت الشكوى من كثير من الفتيات، اللاتي يحتجْن إلى الأمل، كما يحتاج الضرير إلى ذبالة نور، تشتكي الواحدة منهن والدَها الذي تسبب في جلوسها عانساً، حبيسة الجدران، من غير زوج يؤنسُ وحشتها، ويعينُها على صعوبة الحياة وقسوتها، وطفل تحتضنه وتلاعبه يكون سبباً في سعادتها.
إن من المسلّم بداهة أن الوالد لا يهنأ له بال حتى يرى أبناءه في غاية السعادة، وإن مما يصعب تصوره أن يكون الوالد سبباً في شقاء أبنائه وتعاستهم، ولكن هذا يحدث عندما يتبخر حنان الأبوة من ذلك القلب، وتحل القسوة بدلاً عنه، أو حين يفقد الإحساس ويخيّم الجهل على حياته، وتضرب الغشاوة على عينيه فلا يعود يميز شيئاً، وحينئذٍ فإنَّ كلَّ ما يحدث إنما هو نتيجة طبيعية وردة فعل متوقعة، وعلى اختلاف النتائج والآثار فإن مؤدّاها واحدٌ في الأصل، وسببها يدور حول شيء واحد، هو قسوة الآباء وبعدهم عن مراقبة الله -جل وعلا- وخوفِ عقابه.
واستمع بنفسك لما تقول صاحبة المأساة، حتى تتصور عظم المصيبة، وإلى أي مدى وصلت، فتاة تصرخ: "والدنا حكم علينا بالعنوسة والتعاسة"، وتروي قصتها فتقول: "نحن أربع بنات مستوى عائلتنا متوسط ومستورون، ومشكلتنا -ومع الأسف الشديد- في والدنا، فهو من النوع الذي يعشق المظاهر، وحكمه على البشر يرتكز في الأساس على الناحية المادية البحتة، فالرجل في نظره هو صاحب الجيوب المليئة بالنقود، وليس من يتمتع بأخلاق كريمة عالية من شرف، وشهامة، وثقافة، ورجولة، وهذه هي الطامة الكبرى التي حطمت حياتي أنا وأخواتي.
كنا -نحن البنات الأربع- قمة في الهدوء والنظام والاجتهاد في المدرسة، كانت أمي حريصة كل الحرص على معرفة صديقاتنا والتقرب منهن؛ خوفاً علينا وعلى سلوكيّاتنا، وأنهيت أنا وأخواتي دراستنا الجامعية، ووفقنا الله في أن نتولى وظائف محترمة في سلك التدريس، وبدأت المشاكل عندما تقدم لخطبتي أخٌ لإحدى صديقاتي، وكان شاباً يتمتع بأخلاق عالية، وقد تقدم لخطبتي سبعَ مرات، وفي كل مرة كان والدي يرفض زواجي منه؛ لأنه من عائلة عادية، ولا يملك أموالاً وشركاتٍ وأملاكاً، وحاولت والدتي مساعدتي وإقناع والدي، ولكنها لم تفلح وأصرَّ هو على رفضه، وذهب هذا الشاب وتزوج من أخرى.
بعدها تقدم شابٌ آخر يعمل في سلك التدريس، ومن أسرة طيبة وكريمة لكن ليس له مورد مادي سوى الراتب، وهو يملك السمعة الطيبة والأخلاق الكريمة والسيرة الحميدة، وأيضاً رفضه والدي لأنه فقير، ولا يملك المال والجاه، وبالأصح لأنه ليس بصاحب مظهر كذاب، مدعياً -والدي- بأن هذا الرجل لن يسعدني، وليس بمقدوره ضمان حياة عالية المستوى، وأيضاً ذهب هذا الشاب وتزوج بأخرى.
وفي كل مرة يتقدم لخطبتي شخص يرده والدي؛ لأنه ليس بغني ولا يملك الثروة والجاه، مع العلم أن حالتنا متوسطة ولسنا أغنياء، وكل شخص يتقدم لخطبتي يحكم عليه من المرة الأولى بالفقر وأنه لن يسعدني، وأيضاً قاست أخواتي الثلاثة نفس المعاناة، وشربن من نفس الكأس التي شربت منها، والحقيقة أننا لم نستطع الوقوف والصمود أمام تحكم والدنا، وصرنا نعاني من الألم والحزن؛ بعدما أصبحنا عوانسَ نتحسر على الأزواج والأطفال والحياة الأسرية.
فأصبح عمري تسعة وثلاثين، وأختي في الثامنة والثلاثين، والتي تليها في السادسة والثلاثين، والصغرى بلغت الخامسة والثلاثين.
نعم، أصبحنا عوانسَ أمام الجميع، وأمام أنفسنا، فقد تقدم بنا العمر، وفاتنا قطار الزواج، وجاوزنا العمر المناسب للزواج، وها نحن نعيش مع والدنا وأمامه بكل حزن وألم ولوعة، نعيش الحرمان والأسى، وكل واحدة منا تبكي حظها العاثر، فكل صديقاتنا يعشْنَ حياة زوجية في ظل أسرة سعيدةٍ وأبناء وبنات وزوج، ونحن نعيش الألم والعنوسة، والجميع يقول عنا عوانس، لا أزواج ولا أبناء؛ لأن والدنا حكم علينا هذا الحكم القاسي، فلا زواج إلا من رجل غني يملك فيلا وشركات، وغير ذلك.
هل تصدقون إذا قلت لكم إنه تمر علينا ليالٍ طويلة، وأنا وأخواتي نتحسر على أنفسنا ومشاعرنا وقلوبنا، ونتمنى أن أطفالنا بين أيدينا، نرضعهم، ونربيهم، ونحضنهم بحبنا وعطفنا.
مشكلتنا هذه جعلتنا نفتقر لعامل الاستقرار، وأصبحنا ندلل على أنفسنا بين الخاطبات؛ لعلهن يجدْنَ لنا من تتوفر فيه الشروط التي يريدها والدي، وأيضاً كل هذه المحاولات باءت بالفشل، وأصبحت الحياة لا لذة لها ولا قيمة، وساعاتنا كلها سوداء خالية من البهجة والأمل والفرح.
يكفي أن أقول لكم: إننا فعلاً محرومات من عاطفة الأمومة، ومحرومات من دفء كنف الأزواج، ونهايتنا ستكون التشتت والضياع، ووالدي لا يزال مصرّاً على آرائه وأفكاره وتحكمه، فهو لا يدرك نهايتنا ومصيرنا في المستقبل، فأخبرونا ماذا نفعل بالله عليكم؟".
فهذه مأساة واحدة من بين مئات المآسي، وتصوير دقيق لمعاناة بعض الفتيات، أرسى دعائمها بعض الآباء، بل والمصيبة العظمى أن بعض الآباء قد دفع بابنته -من حيث لا يشعر- نحو الخطأ؛ بسبب رفضه الدائم لتزويجها، وتلبية نداء الفطرة الذي يتحرك في داخلها ويصرخ في أعماقها.
قالت إحدى الفتيات: "كنا مجموعة من الفتيات على استقامة وخلق، وبسبب رفض آبائنا المستمر لمن يتقدم لطلب الزواج منا بحجج واهية، فقد انحرف جميع صديقاتي، وأصبحن من أهل الهواتف والمواعيد؛ لأن آباءهن رفضوا تحصينهن بالزواج الشرعي، وكم من واحدة منهن تقول لي: ماذا تنتظرين؟ وتجدد لي الدعوة بين حين وآخر، وأنا لم أزل أقاوم، ويعلم الله كم أعاني في سبيل القبض على ديني، ولكني أخشى ألاّ يدوم هذا طويلاً، وأنجرف كما انجرف صاحباتي اللاتي كلما عاتبت واحدة منهن على انحرافها تقول: والدي هو السبب".
وأخرى فاتها قطار الزواج، وأصبحت في عداد العوانس، تقول في قصتها: "إنني أعاني أشد المعاناة، وأعيش أقسى أيام حياتي، ذبحني والدي بغير سكين، ذبحني يوم حرمني من الأمان والاستقرار والزواج والبيت الهادئ، بسبب دريهمات يتقاضاها من مرتبي آخر الشهر، يقتطعها من جهدي وتعبي وكدي، أخذ الشيطان بيدي إلى الرذيلة وساقني إلى الشر، فأخذْتُ أعاكس وأتكلم مع الشباب والرجال في الهاتف، حتى أصبحت سمعتي في الحضيض، بسبب رفض أبي لزواجي".
لا تستغرب؛ فإن مثل هذه الواقعة كثير، وهو منظر يتكرر كل يوم، ولا شك أن من أعظم ما جرّ النساء إلى الفواحش والزنا ومنكرات الأخلاق، هو جلوسهن من غير زواج، ولو تزوجن لأحصَنَّ أنفسهن وأزواجهن، واستعففْن في بيوتهن.
وإن في ذلك لعبرة لمن أراد الحفاظ على عرضه وصون محارمه؛ لأن حالة الضعف طارئة على الإنسان، ولربما في حالة ضعف يحدث من هذه المرأة ما لا يُتوقع حدوثه، وصدق النبي الكريم حيث قال: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".
ولقد تنوعت الدوافع والأسباب لدى هؤلاء الآباء في تحجيرهم على بناتهم، وإرغامهن على الجلوس دون زواج، فبعضهم يدفعه لذلك الطمع براتب ابنته الموظفة، فلا يريد أن يزوجها مخافة أن يفلس مما تدرّه عليه من مبالغ طائلة نهاية كل شهر، وكأنه بذلك يريد أن يأخذ أجْر أبوته وتربيته لها، فيا للأسف، ويا لموت المروءة والشيم عند بعض الناس!.
فترى السنين تمر بها، والأعوام تطوى، وكلما تقدم لها رجل، قال: "إنها لا تريد الزواج"، وراح يعلل بأعذار واهية، وتلفيقات كاذبة، حتى يصرف الخطاب عنها، أحدهم لما عوتب على عدم تزويج ابنته الموظفة، قال: "أُزوّج فلانة، تريدون أن أموت من الجوع؟!"، وبعضهم ينفر الخطاب عنها؛ لأنه يريد أن يبيعها بمبلغ خيالي يسميه مخادعة بالمهر.
ومن الطّوام العظيمة، تمسك بعض الناس بالعادات القبلية البائدة، والأعراف الظالمة، التي لا يقرها الشرع، ولا يقبلها العقل، وذلك أن بعض الناس لا يزوج ابنته إلا برجل من قبيلته، وتعظم المصيبة إذا كان هذا الرجل من رؤوس القبيلة، فإنه لا يخرجها إلا لخواص بني عمومته، وإذا أعرض عنها أبناءُ العمومة، فإنها تجلس دون زواج، ويتعلل بأن هذا هو قدرها، والمصيبة أن بعض هؤلاء يذهب ليتزوج من جميع القبائل، والمرأة يحرم عليها أن تخرج، ليس للقبائل الأخرى، بل حتى لأبناء قبيلتها، بل حتى لأبناء فَخِذِها.
وعلى هذا، فتأمل بأعين الحزن نساءً مُتْنَ ولم يتزوجن، ولا أبالغ، فإن هذا حدث، ونساءً تخطين الشباب إلى الشيخوخة ولم يتزوجن، ولا زال الوالد -صاحب الدم المقدس- على طريقته وأعرافه وعادات القبيلة!.
فيا هذا: نحن نخاطبك بالعقل، ونقول: لا تزوّج أبناء القبائل الأخرى، لكن زوج أبناء قبيلتك، أو زوج من يدانيك في المنـزلة التي تزعمها لنفسك، وإن كان من قبيلة أخرى، واستر عورتك، فإن المرأة عورة، قال بعض السلف: "من تزوجت ابنته، فإنما هي عورة سترت، ومؤنة كفيت".
ومن المحزن أن تجد أحياناً في البيت الواحد أكثر من ضحية على هذه الحال، وكل هذا لا يهم، المهم أن لا يطرأ على العائلة أيّ تغيـير يقدح بالنظام الذي سارت عليه ردحاً من الزمان، فأين الأمانة أيها الآباء؟!.
استمعوا إلى أنين الحيارى، وشكاوى الأيامى، وتحسسوها بقلوبكم وعقولكم، فلربما هي لم تفصح، ولكن أنت ألا تحس؟! استمع إليها تخاطبك:
أبي كنتُ يوماً أعيش الحنــان *** وأحمل حُلمـاً بقلـبي الصغيـرْ
أقوم أناجـي طيـور الصبــاح *** وأغفـو طويـلاً بحُلمٍ كبيــرْ
كبـرتُ وتاهـت بيَ الأمنيـات *** وأبصرتُ عمـري أمامـي يطيرْ
ظمئتُ فلـم ألقَ غيـر السـراب *** وتهتُ ولـم أدر أيـن المسيــرْ
لقد كنـت أحلُـم مثل البنـات *** ببيتٍ سعيدٍ وطفـلٍ صغيـــرْ
فأغمر طفلـي بفيـض حنـاني *** وترفل بنـتي بثـوبٍ حـريـرْ
أبي: قد ركبتُ بحـورَ الأمــاني *** فعدتُ بجرحٍ وقلـبٍ كسيــرْ
سجنتَ فؤادي بحصـنٍ منيــعٍ *** وقطّعتَ دوني جميــعَ الجسـورْ
إذا جاء شخصٌ يريـد عفافـي *** تهيـجُ جنـوناً وتُبـدي النفـورْ
فهذا كبيــرٌ وذاك صغيــرٌ *** وهـذا طـويلٌ وذاك قصيــرْ
فأعرَضَ عني الرجـالُ وصارت *** حياتي شقـاءً وسـاء المصيـرْ
أتوق لكلْمةِ "مـامـا" كما قدْ *** تشوّقَ للضـوءِ شخصٌ ضـريرْ
وزوجٍ يؤانس وحشـةَ روحي *** ألستَ تحـسُّ بهذا الشعــورْ؟!
أبي قد ذبُلـتُ وضاع شبابي *** ولا زلتَ تلهـو بكـل سـرورْ
كأنك ما قـد ظلمـتَ فتـاةً *** تئن وتبكـي لسـوء الأمــورْ
فماذا عسى أن تقـولَ إذا مـا *** بُعثتَ إلى الله يـوم النشــورْ؟
أئنُّ وأشكـو إلى الله حـالـي *** فنعم المعـينُ ونعم النصيـــرْ
الحقيقة أن الأمر غاية في الغرابة، فهذا الرجل وأمثاله ألا يشعرون؟! ألا يتذكر أحدهم الفراغ الذي كان يسيطر على حياته قبل زواجه، ألم يكن محتاجا للدفء العاطفي، والاستقرار النفسي؟ ألم يكن متشوقاً لرؤية أبنائه؟ بل وبصراحة، ألم يكن محتاجاً لقضاء وطره وإشباع غريزته، فلماذا لا يتساءل؟ هل المرأة تختلف؟.
اسمعوا نداء الغريزة: ضرب عبد الملك بن مروان بعثاً إلى اليمن فأقاموا سنين، حتى إذا كان ذات ليلة خرج للعسس، فبينما هو في بعض الطرق إذ هو بصوت امرأة قائمة تصلي، فتسمّع إليها، فلما انصرفت إلى مضجعها قالت: "اللهم مسيّر النجب، ومنزل الكتب، ومعطي الرغب، أسألك أن ترد لي غائبي؛ فتكشف به همي، وتُقِرّ به عيني، وأسألك أن تحكم بيني وبين عبد الملك بن مروان الذي فعل بنا هذا.
ثم أنشأت تقول:
تطاول هـــذا الليل فالعينُ تدمــعُ *** وأرقني حــــــــزن لقلبيَ مــوجعُ
فبتُّ أقاســــــــــــي الليل أرعى *** وبات فـــــــؤادي بالجـوى يتقطـعُ
إذا غاب منها كوكب فـــي مغيـبه *** لمحت بعيني كوكـباً حيـــن يطلعُ
إذا ما تذكرت الذي كـــــــان بينـنا *** وجدت فؤادي حســـــــرة يتصدعُ
وكــل حبيب ذاكــــــرٌ لحبيبـه *** يرجي لقـاه كــــــــل يوم ويطمعُ
فـذا العرش فــرج ما ترى من صبابتي *** فأنت الذي يدعــو العبادُ فيسمـعُ
دعـوتك فــي السراءِ والضرّ على *** حاجـــة بين الشـــراسيف تلذعُ
فقال عبد الملك لحاجبه: تعرف هذا المنزل؟ قال: نعم، هذا منزل يزيد بن سنان، قال: فما المرأة منه؟ قال: زوجته، وكتب ألا يتأخر البعث أكثر من ستة أشهر.
وكان عمر بن الخطاب إذا أمسى أخذ دِرَّته ثم طاف بالمدينة، فإذا رأى شيئا ينكره أنكره، فبينما هو ذات ليلة يعس، إذ مرَّ بامرأة على سطحٍ، وهي تقول:
تطاول هذا الليل واخضل جانبه *** وأرقني أنْ لا خليــــــل ألاعبُـهْ
فوالله لولا الله لا رب غيـــــــره *** لحرك مـن هذا السرير جوانبُهْ
مخافة ربي والحيـــاء يصـدني *** وأكرم بعـــلي أن تُنال مراكبُـهْ
ثم تنفست الصعداء، وقالت: لهان على عمر بن الخطاب ما لقيتُ الليلة، فضرب باب الدار، فقالت: من هذا الذي يأتي إلى امرأة مغيَّبة هذه الساعة؟، فقال: افتحي، فأبت، فلما أكثر عليها، قالت: أما -واللهِ- لو علم بك أميرُ المؤمنين لعاقبك، قال: افتحي فأنا أمير المؤمنين، ورفع بها صوته وجهر لها، فعرفت أنه هو ففتحت له، فقال: أين زوجك؟، قالت: في بعث كذا وكذا، فبعث إلى عاملِ ذلك الجند أنْ سرح فلان بن فلان، فلما قدم عليه، قال: اذهب إلى أهلك، ثم أمر أن يكون أجل بعث الجيوش أربعة أشهر.
ألا تدري -أيها العاقل- أن جلوس المرأة دون زواج كالجمرة التي تحتضنها، لا تدري في أي لحظة ستحرق ثيابك؟ ولا تقل: إن النسب والحسب يمنع؛ فالفتنة إذا تحركت لا يوقفها شيء، والضعف موجود، ولا نقول ذلك تهويناً للفساد، ولكن لننبه إلى ما قد يقع.
ويا عبد الله: احذر من الظلم، فما قولك حين تقف بين يدي الله، وقد ظلَمْتَ هذه المسكينة، وأغلَقْتَ دونها الأبواب، وكلما تقدم لها رجل كفء رفضتْه، فما عذرك أمام الله؟ ألا تخشى أن تدعو عليك هذه المسكينة حين تأجج مشاعرها، وفوران غريزتها، وشوقها إلى طفل تحتضنه وتضمه إلى صدرها؟.
لقد بلغ ظلم بعض الآباء لبناتهم إلى درجة كبيرة، تحمل في طياتها كل معاني الأسى والحسرة، بعضهم جهلاً، وبعضهم غفلة، وبعضهم استغلالاً، وبعضهم ربما يكون نتيجة مرض نفسي هو نفسه لا يعرف سببه، ولقد جاءت السنة النبوية محذرة من الظلم وعقوبته، قال -صلى الله عليه وسلم-: "بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق" .
كما جاءت مبيِّنةً فضل تربية البنات والصبر عليهن، واحتساب الأجر في تربيتهن، وموصية بإحسان الصحبة لهن، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن؛ كن له ستراً من النار"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من كان له أختان أو بنتان، فأحسن إليهما ما صحبتاه؛ كنت أنا وهو في الجنة كهاتين"، وقرن بين إصبعيه، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "استوصوا بالنساء خيراً"، ومن إحسان الصحبة للبنات والاستيصاء بهن خيراً، أنْ لا يقف حجر عثرة في طريق زواجها، الذي هو سبيل سعادتها وعفتها.
إن بعض الناس -قساة القلوب- إذا ولاّه الله أمر بنيّات له، استبد برأيه، وأظهر شجاعته، وفتل عضلاته أمام هذا الجنس الضعيف، فقتل مشاعرها، وكسر قلبها، لمرض نفسي يعاني منه، أو طمع في مادة، أو حقدٍ دفينٍ لا يعرف دوافعه!، وكلما تقدم أحد لزواجها رفضه، واضعاً الشروط المعجزة، متعذراً بالأعذار التي لا تغني عن صاحبها شيئاً.
الظلم مرتعه وخيم، وعاقبته سيئة، واللهُ يجازي صاحبه في الدنيا قبل الآخرة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته"، وقد حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا الفعل كثيراً، فقال: "اتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
فكيف بذلك الظالم إذا رفعت تلك المظلومة يديها إلى السماء تستغيث بربها، وتستنصره على من ظلمها، وكيف به إذا اشتكت إلى خالقها ما عانته من ظلم هذا المتسلط، الذي وقف حجر عثرة في طريقها، ألا يظن بأن الله ناصرها؟ بلى -والله- فقد أقسم ربنا على نصرة المظلوم، كما جاء في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنها تحمل على الغمام فيقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين".
فليحذر المسلم من الظلم، وليحذر من دعوة مظلومٍ تصعد إلى السماء وهو غافل عنها غير منتبه إلى أن تحلَّ عاقبتها به.
لا تظلمن إذا مـــا كنت مقتدراً *** فالظلم ترجع عقباه إلى الندمِ
تنــــام عيناك والمظلـومُ منتبهٌ *** يدعــــو عليك وعين الله لم تنمِ
وليتذكر وقوفه بين يدي الله يوم القيامة، حين يبلغ الخوف بالعباد منتهاه؛ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[غافر: 18، 19].
وحينئذ يقتصُّ الله -سبحانه- للمظلوم من الظالم، فويلٌ لمن حملوا أوزار الناس على ظهورهم، ألا ساء ما يزرون، وإن العاقل في هذا الزمن من بحث لابنته عن رجل صالح فزوّجها له، فكيف بمن يأتيه الصالح -دينا وأخلاقاً ورجولة- فيرفضه؟!.
انتبه لنفسك -يا عبد الله- واستدرك ما فاتك، ولا تكن كمن ظلم ابنته طول عمره، فلما حضره الموت، قال: "حلليني"، ومن قال: إنها ستحللك، وهي ترى نساءً أقل منها عقلاً وديناً وحسباً وجمالاً وعفة قد تزوجن، وهي قد استكملت جميع الصفات التي يرغب بها الخُطاب، وقد حكمْت عليها بالحبس بين الجدران المظلمة، كالأسيرة التي تنتظر بصيصاً من نور يكشف عنها الظلمة الحالكة التي خيمت على عينيها طويلاً، فهل تظن أن هذا هين؟!.
امرأة عضلها والدها عن الزواج، فلما حضرته الوفاة طلب منها أن تحلله، فقالت: "لا أحلك؛ لما سببته لي من حسرة وندامة، وحرمتني حقي في الحياة، ماذا أعمل بشهادات أعلقها على جدران منزل لا يجري بين جدرانه طفل؟ وماذا أفعل بشهادة ومنصب، أنام معهما على السرير؟ لم أرضع طفلاً، لم أضمه إلى صدري، لم أشكُ همي إلى رجل أحبه وأوده ويحبني ويودني، حبه ليس كحبك، ومودته ليست كمودتك، لا جعلتك في حلٍّ أبداً".
وأخرى حضرها الموت، وقد كبرت سنها، وكانت تخطب كثيراً، ومرغوبة عند الناس، وأبوها يأبى أن يزوجها، وفي سياق الموت قالت للنساء الحاضرات: "قولوا لأبي: إن بيني وبينه موقفاً يوم القيامة بين يدي الله ، حيث وقف في طريقي ومنعني الزواج".
أيها المستبد: إنك عما قريب ميت، أما فكرت في حال هذه الضعيفة، هل ستتركها تحت رحمة الإخوان المنشغلين بأنفسهم، أو خادمةً لزوجة الابن تسومها سوء العذاب، أو تريد أن تدفعها نحو الخطأ؟!.
مالي أراك لا زلت غارقاً في غفلة الجهل وظلام القسوة، أين عقلك؟! قم سارع الخطا لتصحيح ما فاتك، مادام في العمر بقية، فلعلك لا تدرك الغد وأنت عازم على التوبة والإنابة وتصحيح الخطأ، فيكون ذلك شفيعاً لك بين يدي الله -تعالى-.
وأنت -أيتها المرأة المجاهدة- عليكِ أن تصبري على البلاء، وتحتسبي مصيبتك عند الله؛ (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 90]، فمهما طال ليل البلاء فلا بد أن ينجلي، ولا بدَّ لرياح الخريف أن ترتحل، ولا بدَّ لغيوم الحزن أن تنقشع وتظهر شمس الأمل.
ولرُبَّ نازلــــة يضيق بها الفـتى *** ذرعــــاً وعند الله منـها المخـرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فُرِجَت وكـــــنت أظنها لا تُفـرجُ
بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وعبده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيا معاشر العقلاء: فإن الموفق من سن في الإسلام سنة حسنة، فسار الناس عليها، ففاز بالأجر والمثوبة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة".
هذا وإن مما يسر كل ذي لبٍّ، ما ذهب إليه بعض العقلاء من رؤوس القبائل والعائلات، من تزويج بناتهم من الأكفاء، ولو لم يكونوا من خاصتهم، متخطين بذلك بعض الأعراف الظالمة المجحفة، التي تحكم على المرأة بالجلوس عزباء إذا لم يتقدم لها أحد من خاصتها.
إن هذا منتهى العقل والحكمة، ودليل على الشفقة والرحمة، حيث يستر الرجل عورته بزواج ابنته، فيخلص من إثمها، ويتمم حسن صحبتها، ويكون له نصيب من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم من ولي من أمر هذه الأمة شيئاً، فرفق بهم فارفق به".
فأبشر بالخير -يا عبد الله- فوالله ما سمع بفعلك عاقل إلا دعا لك بخير، رغم أنك أحسنت لنفسك، لكن أبى الله إلا أن يظهر شكر صاحب الفضل على ألسنة الناس.
وأنت -يا من لا زلت على الخطأ بالرغم من أنك تعلم أنه خطأ- لا يغرنّك قول بعض الجهلاء، ومثلُك توزن القبائل بعقله، ويصدر الناس عن رأيه، فوالله إن بعضهم يزيِّن الباطل ليرضي أهواء من أمامه، وإلا فانظر إليه قد زوّج بناته وحصّنهن، ولا زال يلقي على أذنك أن هذه أعراف من سبقك.
صدقوني أن هذا الجنس المنافق هم أساس البلوى ورأس البلية، ولا يزالون يجاملونكم في ظلمكم، وهم يتكلمون بكم في المجالس بالغيبة والنميمة، والسب والتشنيع؛ بسب حبسكم لبناتكم الضعيفات.
ونحن نقول: الوسط طيب، زوّج من قبيلتك، أو ممن يقابلك من القبائل الأخرى، ولا تبوء بإثم امرأة مسكينة، ربما تحاجك بين يدي الله يوم البعث والنشور.
فبأي ذنب تجلس حبيسة البيت، ألأنَّ أحداً من بني عمومتها لم يتقدم لها؟ وماذا تفعل إذا كان بنو العمومة يذهبون إلى غيرها فيتزوجون بها ويتركونها؟ فهل ستجلس حزناً على فقدهم؟!.
سنوا سنة حسنة، فاسبقوا إلى الفضل، وفوزوا بأجر من يأتي بعدكم، وإياكم أن تمضوا على سنة من كان قبلكم في ظلمه وبغيه فتبوؤوا بالإثم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من سن في الإسلام سنة سيئة؛ كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
ويا عباد الله: دعوا الكبر؛ فهو الذي قاد الناس إلى مهاوي الردى، تقول: "أنا ابن فلان"، فالناس كذلك يقولون، تقول: "قبيلتي لها شأن"، فالناس كذلك يقولون.
والعاقل المنصف هو الذي يعرف قدر الناس ومالهم من الفضل، ولا يظن أن الفضل محتكر على قبيلته، فالافتخار بالقبلية والأعراف المخالفة للشرع مذموم على كل حال، والسعيد من نجاه الله من ذلك.
فيا أيها المسلمون: حصنوا بناتكم بالزواج من الأكفاء، واحرصوا على إبراء ذممكم أمام هذه الأمانة المستودعة بين أيديكم، أليس جميلاً أن ترى بُنيّتك سعيدة مع زوجها، ولها بيت وبنون؟.
على أنني أنبه أنه كما يجب على المرء الحرص على تزويج ابنته، فكذلك يجب أن يختار لها الصالح، ولا يكون هدفه فقط أن يزوجها، ولو كان الزوج فاسداً أو سكيراً أو صاحب مخدرات، بحجة أنه سيعقل غداً، أو يعتذر بقوله: "إنه قريب لي".
سأل رجل الحسن البصري فقال: إن لي ابنة فمن ترى أزوجها؟ قال: "زوجها من يتق الله -تعالى-؛ فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها"، وقيل لبعض الحكماء: فلان يخطب فلانة، فقال: "أموسر من عقل ودين؟"، قالوا: نعم، قال : فزوجوه إياها".
فاللهَ اللهَ في السؤال عن الصلاح، فإن الفاسد العابث لا يستر المرأة، وحريٌّ بها إن تزوجتْه أن تعود إليك كما ذهبت منك، أو أن تصبر على مضض، فاحرص على الصالح طيب الأخلاق، فإن حصّلْته فعض عليه بالنواجذ.
نسأل الله أن يصلح أحوالنا، وأن يوفقنا لصالح القول والعمل، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
التعليقات