عناصر الخطبة
1/ ورود قضية الإلحاد في القرآن الكريم 2/ أسباب انتشار شيءٍ من الإلحاد مؤخرا 3/ تحذير السلف من الشك والإلحاد 4/ محاورات مع ملحدين قديمين ومحدَثين 5/ الفطرة ومخلوقات الله ناطقة بوجوده وعظمته 6/ بعض أسباب وقوع أناسٍ في الشبهات والإلحاداهداف الخطبة
اقتباس
ولا يزال الإلحاد يطوف بعقول بعض الناس، وإنك إذا تأملت اليوم في واقعنا وجدت أن مثل هذا الإلحاد بدأ ينتشر عند بعض المسلمين مع -الأسف!- فبدأت تظهر لهم منتديات من خلال شبكة الانترنت، وصار لهم مواقع، وصار لهم مناقشات ونواد يجتمعون فيها سواء في داخل هذه البلاد -على قلتهم- أو في خارجها، فنسافر أحيانا إلى بعض البلدان فنلتقي بمن كانوا مسلمين أو هم لا يزالون مسلمين لكن عندهم شيء من اللوثة تتأثر بذلك الإلحاد ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحُجة على العباد أجمعين، فهدى الله -تعالى- به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، ولمَّ به بعد الشتات، وكثَّر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
فصلوات الله و سلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ما اتصلت عينٌ بنظَر، ووعت أذن بخبر، وسلَّم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: خلق الله -تعالى- الخلق عبيدا له، ذليلين لجنابه -جل وعلا-، وقضى الله -تعالى- أن يوجد خالق ومخلوق، وربّ ومربوب، وعبد ومعبود -جل في علاه-.
ولقد قرر الله -تعالى- هذه القضية في القرآن، وبين الله -عز وجل- أحوال الملحدين الأولين فذكر الله -تعالى- في كتابه الحاد فرعون لما جحد بها واستيقنتها نفسه، كما قال الله -جل وعلا-: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) [النمل:14]، وذلك لما جاء موسى -عليه السلام- إلى فرعون يدعوه إلى الإسلام فجحد فرعون بربنا -جل وعلا- وجعل يناظر موسى و يناقشه حتى كان الهلاك على فرعون، فلما بدأ به الغرق قال: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90].
فذكر الله -تعالى- الحاد فرعون، وذكر الله -تعالى- في كتابه الحاد النمرود الذي قال لإبراهيم -عليه السلام- أنا احيي واميت! فقال له إبراهيم: (فإن اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:258].
فذكر الله -تعالى- الإلحاد في كتابه، ولا يزال الإلحاد -أيها المسلمون- يطوف بعقول بعض الناس، وإنك إذا تأملت اليوم في واقعنا وجدت أن مثل هذا الإلحاد بدأ ينتشر عند بعض المسلمين مع -الأسف!- فبدأت تظهر لهم منتديات من خلال شبكة الانترنت، وصار لهم مواقع، وصار لهم مناقشات ونواد يجتمعون فيها سواء في داخل هذه البلاد -على قلتهم- أو في خارجها، فنسافر أحيانا إلى بعض البلدان فنلتقي بمن كانوا مسلمين أو هم لا يزالون مسلمين لكن عندهم شيء من اللوثة تتأثر بذلك الإلحاد أو ببعض عقائده أو بقراءة بعض كتبه، أو المشاركة في بعض منتدياتهـ أو ما شابه ذلك.
ولقد كان السلف -رحمهم الله تعالى- يُحذرون الناس من أن يقع في قلوبهم شك في وجود رب العالمين أو في أحقيته بالعبادة، ولقد ذكر أهل العلم أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله -تعالى- ناظر يوما قوما من السومانية، قال: وكان هؤلاء السومانيه قوما ملحدين ينكرون وجود الله -تعالى- ويقولون إن هذا الكون وجد هكذا صدفة من غير خالق، من غير موجِد، وأن ما نرى من جبال وأحجار وأشجار و مخلوقات متنوعة على إتقانها وجلالة هيبتها ودقة صنعتها أن هذا كله إنما وجد هكذا صدفة دون أن يكون له خالق و موجد -جل في علاه-.
فناظرهم أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- فإذا بهم يتأففون عنه ويترفعون عن حواره و يظنونه ضالا في عقيدته، فواعدهم من غده أن يلتقوا عند الأمير -يعني عند أمير البلد- فلما كان الموعد تأخر عليهم أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- فأخذوا يتكلمون عنه ويذمونه ويقولون للأمير: هؤلاء علماؤكم يتأخرون عن مواعيدهم!.
فلما دخل أبو حنيفة قال له الأمير: تأخرت يا أبا حنيفة. قال: نعم؛ إني لم أجد مركبا ينقلني من ضفة النهر إلى الضفة الأخرى. قال له: فماذا فعلت؟ "لما لم تجد مركبا يحملك" فماذا فعلت؟ هل قطعت النهر سباحة؟.
قال: كلا، إنما بينما أنا واقف على جانب ضفة النهر فإذا بسحابه تمر علينا، وإذا ببرق عظيم ورعد شديد، وإذا هذا البرق تنطلق منه صاعقه فتشق شجرة عظيمه كانت بجانبي تشقها إلى نصفين فيقع نصفها هكذا صدفة في البر ونصفها في البحر، وصدفةً إذا بالنصف الذي في البحر تنطلق قطعة من حديد كانت موجودة على الارض ثم تلتصق بغصن من اغصان هذه الشجرة، ثم هكذا يلتصق هذا الحديد بذلك اللوح ثم يقبل على هذا الجزء الذي على الماء ثم يبدأ يقطعه حتى صُنع منه قارب يستطيع إن يسير في الماء، ثم دنا هذا القارب صدفةً إلى جانب الشط فركبت فيه، ثم صدفة هكذا انطلقت الواح من يمين ويسار وصنعت مجاديف، والتصق بعض الأخشاب ببعض حتى صنعت مجدافين، ثم جعلت تجدف من نفسها دون أن يكون لها صانع، دون أن يكون لها مجدِّف، دون أن يكون لها موجِّه و لا قبطان يقود هذا القارب، فإذا نحن بعد قليل في الضفة الأخرى، فها نحن الآن بين أيديكم تعالوا نتحاور، هل وجد هذا الكون صدفه أم أن له صانع؟.
قال: فالتفت السومانية إلى الأمير وقالوا: عالمكم هذا مجنون. قال لهم أبو حنيفة: لما؟ قالوا: معقول أن يوجد قارب كامل من غير صانع؟ ثم هذا الفأس يوجد من غير صانع، ثم ما هذه الصدفة التي قسمت هذه الشجرة نصفين وجعلت نصفا على البر ونصفا على البحر؟ ثم كيف يسير هذا القارب من غير قبطان يقوده و لا رجل يوجهه؟ أنت مجنون!.
فقال لهم أبو حنيفة: سبحان الله! الآن لم تصدقوني بأن قاربا واحدا وجد هكذا صدفة وصنع هكذا من غير صانع، وأنتم تقولون إن السموات و الأرض والجبال والشمس والقمر وما في الكون كله تدَّعون أن هذا الكون كله وجد صدفه! فحجهم رحمه الله -تعالى-.
وذُكر أن أبا حنيفة ايضا جلس يوما مع بعض هؤلاء الملحدين فتكلم أبو حنيفة عن خلق الله -تعالى- للكون وإتقان صنعته، قال ذلك الملحد: أنت تزعم أن الله هو وحده هو الخالق؟ قال: نعم؛ هو -سبحانه- الذي يوجد الشيء من عدم فيخلق ما يشاء. فالتفت إليه ذلك الملحد وقال: أنا استطيع ان اخلق. قال: أنت تخلق؟! قال: نعم.
فمضى ذلك الملحد بأبي حنيفة الى شجرة فشق شيئا منها ثم اخذ قطعة لحم ودسه في الثقب الذي صنعه ثم غطى ذلك الثقب، وقال لأبي حنيفة: موعدنا هنا بعد شهر، فلما مضت الثلاثون يوما أقبل أبو حنيفة إلى ذلك الموضع ثم نزعوا ذلك الغطاء وإذا بذلك اللحم عليه شيء من الدود يسري عليه، لما كشفوا الغطاء إذا بالدود يخرج من مكانه، فقال له ذلك الملحد: هل كان هذا الدود موجودا قبل ان نضع اللحم؟ قال أبو حنيفة: لا. قال: هل ترى موضعا يمكن للدود أن يدخل من خلاله وقد سددنا المكان؟ قال: لا؟ فقال: إني انا الذي خلقته.
فقال له أبو حنيفة: الخالق يعرف خلقه، أليس كذلك؟ قال: نعم. قال: كم عدد مخلوقاتك؟ قال: لا ادري. قال: كم منها ذكور وكم منها إناث؟ قال: لا ادري. قال: ماهي آجالها ؟ مَن سيموت منها قبل الآخر؟ قال لا ادري. قال: مَن وجد منها في الحياة قبل الآخر؟ ما أعمارها؟ قال: لا أدري. قال: سبحان الله! وتزعم انك خالق عليم بخلقك وأنت لا تدري عن أعمارهم ولا عن آجالهم ولاعن ذكورهم من إناثهم؟!.
وإذا؛ هو فعلا لم يخلق إنما هيأ بيئة لأجل أن تتحرك بعض الفطريات الموجودة أصلا في ذلك اللحم، هيأ لها بيئة لأجل إن يصنعها الله -تعالى- وأن يخلقها كما يشاء -جل في علاه-؛ لذا -أيها المسلمون- إن هذا المذهب -أعني مذهب الإلحاد- مع وجوده اليوم ومع ظهوره فإني حاورت عددا من هؤلاء الملحدين سوءا من أبناء هذا البلد ومن خارجه -على قلتهم، ولله الحمد- إلا انك تجد أنهم لا يزالون مقتنعين بما حدَّثَهم به دارون لما قال إن اصل الإنسان كان من قرد!.
وقد حدثت أحدهم قبل ايام زارني في بيتي فإذا هو ملحد فقلت له: من خلقنا؟ قال: نحن تطورنا. قلت له: كيف تطورنا؟ قال: نحن كنا قرودا، وقبل أن نكون قرودا كنا حيوانات أصغر من ذلك، ثم كنا اصلا ضفادع، ثم كنا خلايا صغيرة، ثم كنا أصغر من هذه الخلايا.
فلما قال كنا قرودا قلت له: يا أخي، أما أنا فلم اكن قردا ولله الحمد! كل واحد يتكلم عن نفسه، أما أنا فلم اكن قردا، أنا بشر ابن بشر، خلق الله -تعالى- ابانا آدم في السماء كما يشاء، خلقه -سبحانه وتعالى- بشرا ونحن من ذريته، أما أن تكون أنت اجدادك قرود فهذا راجع إليك!.
ثم قال لي: إن هذه الخلايا كانت قديمة. فقلت له: حسنا، ارجع ايضا. قال: فلا تزال هذه الخلايا كونت من خلايا اصغر منها... حتى وصلنا إلى موضع لا يستطيع الاجابة عليه. قلت له: حسنا، لما تناهت في الصغر وجعلت تصغر هذه الخلايا فتصنع تلك الخلية خلية قبلها وتوجد منها وتتطور حتى تكبر الخلية الأولى، مَن أوجدها؟ قال: هذه جاءت من الانفجار العظيم للكون. قلت: هذا الانفجار معناه أن هناك شيء كان موجودا وانفجر، أليس كذلك؟ قال: بلى. قلت: هذا الشيء الذي انفجر مَن خلقه؟ من أوجده؟ ماذا كان قبل ذلك؟ فسكت قليلا -ومعه ماجستير من امريكا- فقال: هذا السؤال الذي لا يستطيع احد إلى الآن الاجابة عليه.
مَن الذي اوجد ذلك الشيء الذي انفجر؟ قال هذا السؤال الذي لا يستطيع أحد الإجابة عليه إلى يومنا هذا! فقلت له: أما نحن فعندنا الإجابة: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر:62]، وهو -سبحانه وتعالى- العزيز الحكيم، وهو العلي العظيم، وهو الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، واللهِ! إن كل خلية من الخلايا لتشهد أن الله -تعالى- واحد لا شريك له.
إن كل ذرة من ذرات الكون تشهد أن الله واحد لا شريك له، إنَّ كلَّ جزء نراه في هذا الكون يشهد أن الله -تعالى- واحد لا شريك له؛ بل إن كل هذه الأمور وكل هذه الأشياء تسبِّح بحمد ربنا -جل وعلا-، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء:44].
وإن هؤلاء الملحدين ليعيشون في هم وغم لن يجدوا له حلا إلا ان يدخلوا في الاسلام من جديد، وقد اتصل بي أحدهم قبل ايام، اتصلت زوجته تستفتي فقلت: دعي زوجك يتصل بي، فإذا زوجها يتصل وهي تستفتي: هل يجوز أن ابقى معه وهو ملحد أم لا؟ قلت: دعنا نناظره ونناقشه وننصحه، فتحدثت معه فإذا هو يقول لا إله! لا يوجد إله! قلت: فمَن خلقنا؟ فإذا به يعود بي إلى نظرية دارون وأنه كان قردا. قلت له: حسنا! ما تقول في محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: هذا رجل اديب و استطاع أن يصنع القرآن، وخدع الناس بذلك. قلت له: مادام أنه صنع القرآن؛ فلماذا لم يتأتَّى لأحد صنع مثل هذا القرآن الآن من 1400سنة وقريش لم تستطع أن تصنع ولا سورة واحدة، وقد تحداهم وهم الأدباء والبلغاء والشعراء؟ لماذا لم يستطيعوا؟ قال: لا اعلم.
قلت له: حسنا؛ والإعجاز العلمي الموجود في القرآن، لما يقول الله -تعالى-: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) [النبأ:7] ثم يكتشف اليوم الجيولوجيون بأن لكل جبل وتدا في داخل الأرض هو بمقدار ثلاثة ارباع الذي في سطحها، كما أنك تضرب وتد الخيمة فتجعل ثلاثة أرباعه داخل الأرض ليشدها وليثبتها، كذلك سمى الله -تعالى- الجبال اوتادا، والجبال ارساها. قلت له: مِن اين عرف محمد -صلى الله عليه وسلم- أن في الارض 3 اضعاف هذا الجبل؟ قال: هذا جاء مصادفة.
قلت له: وما يتعلق بالجنين وأنه كان مضغة وعلقة وإذا به يُنشأ خلقا آخر ويكسو الله -تعالى- العظام لحما. كيف عرف محمد أن العظام تسبق اللحم؟ كيف عرف؟ قال: هذا ايضا كان صدفة. قلت له: حسنا! والكون لما قال الله -تعالى-: (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات:47]، ولا يزال اليوم الناس يعلمون من العلماء في الفلك بأن الكون لا يزال يتوسع في ذراته؟ قال: ايضا هذا كان صدفة.
قلت: سبحان الله! إن صدقت بالأولى والثانية فلا ينبغي ان أصدقك في بقيتها، ثم قلت له: بعد مكالمات طويلة متعددة، قلت له: أسألك بالله! أيهما أنت تشعر: براحة أكثر وطمأنينة في قلبك وعدم اكتئاب وعدم قلق الآن لما انكرت وجود الله وكفرت بالله العظيم وبدأت تنخرط في شهواتك ولذاتك دون أن يكون لك رقيب من داخل قلبك، أم لما كنت عابدا لله مصليا له تقرأ القران؟ فقال لي :لا تستعمل معي العواطف. قلت: لا؛ أجب عن هذا السؤال. فقال: أما ان اردت أن اصدقك فو الله لقد كنت في ذلك الحال في طمأنينة، اتمنى الآن ان اجد ولو ربعها، ثم قال: والله اني أعيش الآن في شتات، ولا استطيع أن أستقر على حال من القلق والاكتئاب؛ لكن مع ذلك أنا مصر على الرأي الذي أنا عليه؛ فتذكرت حال الاولين الذين عاشوا في شيء مما كان يتعلق بالفلسفة والإلحاد.
الرازي رحمه الله -تعالى- كان ممن دخل في الفلسفة والإلحاد ووقع في أنواع من الإلحاد، فلسفه وعقل وعدم استدلال بالنصوص الشرعية وعدم ركون إلى الكتاب والسنة فوقع في شيء من الإلحاد، قالوا: فلما نزل به الموت اضطرب وجعل يقول -وهو تائب- جعل يقول: "نهاية إقدام العقول عقال"، والعقال هو الذي تعقل به الإبل وتربط به، يعني اننا مهما أقدمنا بعقولنا وحاولنا أن ننازع الله في ملكوته وربوبيته فعقولنا أقل وأحقر من ذلك، يقول:
نهاية إقدامِ العقول عقالُ *** وغايةُ سعْيِ العالمين ضلالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرِنا *** سوى أنْ جمعنا فيه قيلَ وقالوا
وأرواحُنا في وحشةٍ في جُسومنا ***وغاية دنيانا أذىً ووبالُ
وكم من جبال قد عنت شرفاتها *** رجال فزالوا والجبال جبال
ثم قال: وجدت أحسن الطرق للإيمان طريقة القران، أقرأ في الإثبات: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى:11]، فأؤمن بها، وأقرأ في النفي: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير) [الشورى:11]، فأؤمن بها، فلماذا أبدأ أناقش بعقلي وأبحث بعقلي؟.
وقيل إنه ذهب مره إلى نيسابور فمر بطريق من الطرق فاجتمع عليه بعض الطلاب يسألونه، فكانت عجوز جالسة عند بيتها فسألت، قالت: مَن هذا الذي ظلل عليه الناس واجتمعوا؟ فقالوا لها: هذا الرازي. قالت: أي شيء الرازي؟ ما هو الرازي؟ لم أسمع به! فقال لها أحدهم: هذا الذي أقام ألف دليل عقلي على وجود الله. فقالت: إيه! والله لو لم يقم في قلبه ألفُ شَكٍّ لما احتاج إلى الف دليل. فسمعها الرازي فرفع بصره إلى السماء وقال: "اللهم اعطني عقيدةً كعقيدةِ عجائزِ نيسا بور". أعطني عقيدة مطمئنة، ولا تجد هذه العقيدة المطمئنة إلا في الإيمان بالله وحد.
والشهرستاني -رحمه الله تعالى- مَر أيضا بشيء من ذلك، قالوا: فلما نزل به الموت جعل يقول:
لقد طفت في تلك المعاهد كلِّها *** وقلَّبتُ طرفي بين تلك المعالمِ
يعني: دخلت على الملحدين وحاورتهم وناظرتهم، ودخلت على شتى العقائد ونظرت فيها وجربتها
لقد طفت في تلك المعاهد كلها ***وقلبت طرفي بين تلك المعالم
فلم أرَ إلا واضعاً كفَّ حائرٍ *** على ذقنِهِ أو قارعاً سِنَّ نادمِ
يقول: ما رأيت إلا محتارين، أو أقواما عندهم ضلال في عقائدهم، أو ما شابه ذلك.
وأذكر أن أحد الملحدين قابل أحد العقلاء الحكماء، فقال له ذلك الملحد: اتزعم أن الله موجود؟ فقال له المؤمن: نعم؛ ربنا -جل وعلا- موجود، كما سئل ذلك الأعرابي الذي قيل له كيف عرفت ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير. إذا مشيت في البر ورأيت بعرة "وهي غائط الإبل" عرفت أن بعيراً مرَّ، لم تقل مر صقر أو حمامة، قال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات امواج، ألا تدل على العليم الخبير -جل وعلا-؟!.
فقال ذلك الملحد لهذا العاقل قال: هل تؤمن أن الله موجود؟ قال: نعم. فسأله عن إدراك ربه بالحواس الخمس. قال :هل رأيت ربك؟ قال: لا. قال: هل سمعته؟ قال: لا. قال: هل ذقته؟ هل لمسته هل شممته؟ قال: لا. قال: إذن ربك غير موجود.
فقال له المؤمن : هل عندك عقل؟ قال: نعم. قال: هل رأيت عقلك؟ قال: لا. قال: هل شممت عقلك؟ قال: لا. قال: هل ذقت عقلك؟ هل لمست عقلك؟ هل سمعت عقلك؟ قال: لا. قال: إذن ليس لك عقل. قال: بلى؛ لي عقل لأني أرى اّثار عقلي، أرى أني أتصرف بعقل، وأتكلم بعقل، اذن لما رأيت اّثار عقلي عرفت أنه موجود. قال: فكذلك ربنا -جل في علاه-.
لو شاء ربنا سبحانه و-تعالى- لرأيناه ولسمعناه، والمؤمن سيسمع ربه يوم القيامة، وسوف يرى ربه يوم القيامة؛ لكننا عرفنا ربنا اليوم بآياته ومخلوقاته، وهو -جل وعلا- الذي جعل في فطرنا جعل الإيمان به وحده لا شريك له، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [الأعراف:172-173].
جعل الله -تعالى- في فطرنا على الإيمان به وحده لا شريك له، والطفل لو سلم من أن ينصِّره ابواه أو أن يمجساه أو أن يهوداه لنشأ على عقيدة التوحيد، وعلى عبادة الله وحدة لا شريك له؛ لذلك ارسل الله -تعالى- الرسل مبشرين ومنذرين، لم يرسل الله -تعالى- الرسل ليقنعوا الناس بأنه يوجد إله اسمه الله، لا؛ فهذا في فطر الناس يعلمونه ويدركونه، انما الرسل يبشرون المؤمنين بالجنة وينذرون المخالفين من النار، ويعلمون الناس كيف يصلون وكيف يتعبدون لربهم الذي استقر في قلوبهم انه موجود وحده لا شريك له.
اسأل الله -تعالى- ان يُمَكن الإيمان في قلوبنا، وأن يعيذنا من الشرك و الإلحاد.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروا وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله الداعي الى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله واخوانه وخلانه، ومَن سار على نهجه واقتفى اثره واستن بسنته الى يوم الدين.
أما بعد: ايهـا الاخوة الكرام، إن مما يوقع عددا من الناس فيما يتعلق بالإلحاد أو إنكار وجود ربنا -جل وعلا- أن بعضهم يدخل في حوارات مع الملحدين وهو لا يملك بضاعة يستطيع ان يرد بها الشبهات عن نفسة، وهذا بعد انتشار اليوم شبكات الانترنت وغرف البالتوك وما يتعلق بالمحادثات الصوتية والمكتوبة...
بدأ بعض بناتنا وشبابنا يدخلون في حوارات ونقاشات مع أقوام إما مع أهل البدع، سواء من الشيعة او غيرهم، أو أحيانا من الملحدين وما شابههم، فربما خلص إلى قلبه شيء من هذه البدع فلا يستطيع أن يردها عن قلبة فأحدث فيه إنشراخا وظلمة؛ لذلك نهى أهل العلم عن محاورة أهل البدع أمام العامة.
كان محمد بن سيرين -رحمه الله- جالسا في مجلس علمه يوما فأقبل إليه رجلان من هؤلاء، من هذه الأنواع التي تحفظ الشبهات تلقيها امام الناس ليفسدوا عقائدهم، فأقبل ذلك الرجلان قالا: يا ابن سيرين، عندنا مسألة. فالتفت إليهم فعرفهما، قال: اذهبا في غير هذا المجلس أجيب مسألتكما. [لا تبدأ تشغب على طلابي وهم صغار وتعطيهم الشبهات، الشبهة أنا أرد عليها؛ لكن لا داعي ان يسمعها الطلاب، قد يسمع الشبهة ولا يفهم الرد].
قالا: بل اسمع منا كلمة، وجلسا. قال: ولا نصف كلمة، إما ان تقوما أو أقوم أنا. لأنه إذا قام قام طلابه معه، قال فقاموا وانصرفوا فسأله بعد ذلك بعض أصحابه. قال : لِم لَم تسمع منهما؟ قال: أخشى ان يدخل الى قلب أحد طلابي شيء من شبهتهما فيشق علينا اخراجه.
يعني يفهم الشبهة ولا يستطيع أن يرد وربما لا يفهم الرد بعدما فهم الشبهه، لذلك لا ينبغي للإنسان من خلال هذه المواقع وغيرها أن يدخل على شيء من هذه المنتديات أو أن يناقش اهلها أو أن يناظرهم إلا إذا كان عنده معلومات تامة فيما يحاورهم فيه، أما أن يدخل في حوار وهو لا يعلمه -كما يفعل بعض شبابنا- ربما الذين سافروا الى الخارج فلا ينبغي له ان يفعل ذلك ابدا، هذا أمر.
الأمر الثاني: كلما تعلم الانسان اسماء الله الحسنى وصفات الله العلى وأيقن بها وتعرف على خالقه -جل وعلا- أيقن أن الايمان بالله وحده إذا استقر في قلبه حماه الله -تعالى- من صروف الالحاد والبدع، ومَن كان بالله أعرف كان منه أخوف، القراءة في كتب العقيدة الاسلامية، معرفة صفات الله وأسمائه، معرفة ما يتعلق بالرد على اصحاب الشبهات من الملحدين وغيرهم، إذا تمكن هذا في قلب الانسان حماه الله -تعالى بإذن الله -تعالى- من أن يزيغ قلبه.
الأمر الأخير أن يكثر الانسان من دعاء الله -تعالى-، وقد كان من دعاء المؤمنين انهم قالوا: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) [آل عمران:8]، وكان من دعاء ابراهيم -عليه السلام- وهو يبني البيت الحرام بأمر من الملك العلام أنه كان يقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم:35]، ومن يأمن البلاء بعد ابراهيم؟ وقالت عائشة -رضي الله تعالى- عنها: "كان اكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
اسأل الله -تعالى- أن يثبت قلوبنا على دينه، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سِلْما لأوليائك، حربا على اعدائك، نحب بحبك مَن احبك، ونعادي بعداوتك من خالفك يا ذا الجلال والاكرام.
اللهم ثبت الايمان في قلوبنا، وتوفنا عليه يا رب العالمين، اللهم اهدِ ضال المسلمين، اللهم اهدِ ضال المسلمين، اللهم رُدَّهم إليك ردا جميلا يا عزيز يا حكيم يا رب العالمين.
اللهم أصلح احوال المسلمين في كل مكان, اللهم أصلح احوال المسلمين في كل مكان , اللهم أصلح أحوال إخواننا في تونس وفي مصر وفي ليبيا وفي اليمن وفي سوريا وفي كل أرض من أرضك يا رب العالمين، وأصلح احوالهم في فلسطين، وانصرهم على اليهود الغاصبين، وأصلح احوالهم في العراق وانصرهم على الامريكان الظالمين، والشيعة الظالمين، يا قوي يا عزيز يا رب العالمين.
اللهم أصلح احوال المسلمين في كل مكان, اللهم ولِّ عليهم خيارهم، اللهم ولِّ عليهم خيارهم، اللهم ولِّ عليهم خيارهم، اللهم اصرف عنهم شرارهم، اللهم اجعل ولاية المسلمين فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، يا ذا الجلال والاكرام.
اللهم وفق ولي أمرنا لمن تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وسائر ولات امور المسلمين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام، على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات