عناصر الخطبة
1/ عظم اسم الله \"الرحمن\" وآثاره 2/ اسم الرحمن يدل على صفة الرحمة 3/ آثار رحمة الله بعباده 4/ أسباب نيل رحمة الله 5/ من عذبه الرحمن فهو مستحق للعقوبة بلا شكاهداف الخطبة
اقتباس
أيها المسلمون: آية في كتاب الله -تعالى- من كلمة واحدة، لكنها تحمل معاني الحياة، وتطلق صوتاً عالياً في الكون يتردد صداه، ويبتعد في فضاء الكون مداه، لينال منه كل مخلوق في دنياه وفي أخراه. آية من كلمة واحدة، يقف بعدها القارئ لينصت الوجود كله لرنينها، ويطمئن قلب المستمع لمعناها، ويشدو الكون بعبق شذاها. فأصغ سمعك -أيها الحبيب- لتلك الكلمة، واستمع لمولاك وهو يخاطبك بها ليجذب إليه قلبَك، فتعطيه...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: آية في كتاب الله -تعالى- من كلمة واحدة، لكنها تحمل معاني الحياة، وتطلق صوتاً عالياً في الكون يتردد صداه، ويبتعد في فضاء الكون مداه، لينال منه كل مخلوق في دنياه وفي أخراه.
آية من كلمة واحدة، يقف بعدها القارئ لينصت الوجود كله لرنينها، ويطمئن قلب المستمع لمعناها، ويشدو الكون بعبق شذاها.
فأصغ سمعك -أيها الحبيب- لتلك الكلمة، واستمع لمولاك وهو يخاطبك بها ليجذب إليه قلبَك، فتعطيه ما بين جنبات أضلعك، خضوعَك، وحبَّك.
يقول الحق -تبارك وتعالى- مفتتحا بها: (الرَّحْمَنُ) [الرحمن: 1].
فما أعظم هذه الكلمة وما أصفاها، تفتتح بها هذه السورة وتسمى بها، وهو مطلع مقصود بلفظه ومعناه، مبتدأ مفرد، يحمل كل معاني الرحمة، قبل تفصيلها في ثنايا السورة، مكرِّرًا تَعَجُّبُهُ وتَسَاؤُلُه للثقلين، الإنس والجن: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) [الرحمن: 13].
مختتما ما بدأه من نعمه في البر والبحر، وفي القيامة حيث يجازى كل بعمله، ويسهب في رسم صورة المنعمين، ممن شملتهم الرحمة في الدنيا، وأسبغت عليهم في الأخرى، فيعدد نعمهم، ويصف نعيمهم، ثم يختم بقوله: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 78].
فالاسم الذي تبارك هو اسمه: الرحمن، وهو الذي بدأ به السورة، فبركته عمت كل شيء، بل كل مبارك فببركة الرحمن: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا) [الفرقان: 60].
فأعقب سجود التالين قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان: 61-62]، أي: إن هذا من آثار بركة الرحمن تبارك وتعالى.
وتكرر ذكر الرحمن في القرآن في سبعة وخمسين موضعا.
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وإذا أراد الله بأهل الأرض خيرا، نشر عليهم أثرا من آثار اسمه الرحمن، فعمر به البلاد، وأحيا به العباد، وإن أراد بهم شراً أمسك عنهم ذلك الأثر، فحل بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن.
إخوة الدين والعقيدة: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5] جل جلاله وتقدست أسماؤه.
وفي آية أخرى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) [الفرقان: 59].
وإنما ذكر هذه الصفة مع ذكر الاستواء على عرشه - جل وعلا -؛ لأن رحمته عمت جميع مخلوقاته، فإن العرش أوسع المخلوقات، فاستوى عليه بصفة الرحمة، لتعم المخلوقات جميعا، وفي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لما خلق الله الخلق، كتب كتابه: إن رحمتي تغلب" -وفي رواية: "تسبق"- غضبي"[أخرجاه].
وفي القرآن يقول تبارك وتعالى: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام: 12].
ويقول تبارك وتعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام: 45].
فرحمة الرحمن الرحيم واسعة، لا يقنط منها إلا الخاسرون، ولا ييأس منها إلا الكافرون.
وهذا عهد منه جل وعلا لخلقه أن يرحمهم، ويعفو عنهم، ويغفر لهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويمحو زلاتهم، ويستر عيوبهم، ويمهلهم متى طغوا، ولا يعجل عليهم إذا بغوا، بل يحلم على من عصاه، ويجيب من دعاه.
ولولا هذه الرحمة ما استطاع إنسان ولا جان ولا حيوان أن يقر له قرار على هذه البسيطة.
واستمع تلك الآية من آثار رحمته في قوله جل وعلا: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) [الملك: 19].
أي: إن الطير إنما طارت برحمته، وما يمسكهن إلا برحمته، ولا يخرج عن هذا الآياتُ بعد الرحمن، فإن بعدها تعليمَه القرآن وخلقَه الإنسان، وتعليمَه البيان، ورفعَه للسماء، ووضعَه للميزان، وبسطَه للأرض، وما بث فيها من دابة، وما شرع من شرائع، فكل ذلك من آثار رحمته.
ويدل اسمه الرحمن على صفة الرحمة القائمة به سبحانه، فهو الموصوف بالرحمة، تبارك وتعالى، وهو سبحانه الموصوف بصفات الكمال، والجمال، على الوجه اللائق به سبحانه، فرحمته لا نقص فيها، ليست كرحمة المخلوقين، يعتريها النقص والضعف: (الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) [الفرقان: 59].
معاشر المسلمين: يقول حبيبنا - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق الرحمة يوم خلق السماوات والأرض مئة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماوات والأرض".
وفي رواية: "فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة".
وفي رواية: "إن لله مئةَ رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وأخر تسع وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة"[أخرجه الشيخان، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -].
وتأمل -يا رعاك الله- في كل شيء حولك، ابتداء من نفسك وانتهاء بما وقع عليه بصرك، تأمل ذلك بعين بصيرتك تجد أن العالم كله ممتلئ برحمة الله، هذه الرحمة الواحدة التي أنزلها إلى الأرض، حتى كأنه بحر لا ينضب، ونهر لا يتكدر، بل رحمة الله في الأرض عامرة كما يعمر الجوَ الهواء: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف: 156].
فانظر -أيها المسلم- إلى أثر رحمة الله، في إنزاله الكتب، وإرساله الرسل، فهدى بهم من شاء من عباده، فأبصر بعد عمى، ورشد بعد غي، وأعظم مشاهد رحمته، وآثارها بعثته للحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، حتى نص عليها نصاً وجعلها آية تتلى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164].
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].
أمة الإسلام: ومن رحمته جل جلاله تمهله بالعصاة من عباده، ففتح لهم باباً للتوبة، ويفرح بعودتهم إليه، وانكسارهم بين يديه، وما عذب مَن عذب مِن عباده إلا بعد أن أعذر إليه، وتودد إليه، وتقرب منه، وأنعم عليه، وبسط عليه ستره، وأرخى عليه أستارَ عفوهِ: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) [النحل: 61].
ولكن من رحمته بعباده تمهل بهم، ورفق بهم، ومَنّ عليهم فتاب عليهم ليتوبوا.
فمهما أسرف العبد على نفسه، ولو بأعظم الذنوب وهو الشرك، فإنه لا يستطيع أحد أن يحول بينه وبين التوبة، واستمع إلى قول الحق -تبارك وتعالى-: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المائدة: 73].
ومع هذا الجرم العظيم، وهذا الوعيد المخيف، لم يغلق باب التوبة دونهم، بل قال بكل تودد ورحمة: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[المائدة: 74].
وفي حديث الرجل الذي قتل مئة نفس محرمة، ثم تاب، فتاب الله عليه وغفر له دليل لا يعتريه شك، فإن أعظم الذنوب بعد الشرك قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
فإذا كان هذا شأنه مع من جعل له الشريك، ونسب إليه الولد، ومع من قتل نفسا بغير حق -تعالى الله-، فكيف شأنه بمن وحّدَه وعبَدَه، وأقبل إليه معترفاً بخطئه، مقراً بذنبه، تائباً ذليلاً؟: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
وهذا يشمل كل ذنب من كفر وشرك وفسق وعصيان.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد".
أيها المسلمون: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص: 73].
ومن رحمته خلقه للشمس والقمر، وأنشأ السحاب الثقال: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) [الشورى: 28].
(فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) [الروم: 50].
ومن رحمته جل جلاله: ما قسم من رحمته بين عباده، فيكمل بعضهم بعضاً، ويحتاج بعضهم إلى بعض، ويعطف غنيهم على فقيرهم، وقويهم على ضعيفهم، والقادر يأخذ بيد العاجز منهم، وكلهم في حاجة إلى رحمته، لا يستغنون عنها طرفة عين؛ كما في الحديث: "برحمتك أستغيث، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين".
فما فضل الله به بعض الخلق إنما هو أثر من آثار رحمته.
فبرحمته يعيش المرء لا يحيا بدونها، يرجوها، ويسعى إليها، ويتدثر بها، فإن حرمها في الدنيا صارت حياته جحيما لا يطاق، وإن حرمه الله رحمته في الآخرة كانت له جهنم بالمرصاد، لا يموت فيها ولا يحيى.
فتأمل كيف تصاغ آيات الرحمة في الكتاب العزيز لتفتح من الرجاء بها أفقا عظيما لا يحده حدّ، ولا يصفه أحد، كمثل قوله تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)[الأحزاب: 43].
وقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29].
(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) [النور: 10].
معاشر المسلمين: إن رحمة الله قريب من المحسنين، وسعت كل شيء، وكتبها الله للذين يتقون ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياته يؤمنون.
ورحمة الله تستجلب بطاعته، والعمل بمرضاته، والمحروم من حُرم رحمة مولاه، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، والراحمون يرحمهم الرحمن، فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
ولا يرحم الله من أشرك به، ومات على ذلك، وقد طرد من رحمته عدوه إبليس لما أبى أن يسجد لآدم، فقال له: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) [ص: 78].
فاستجلبوا رحمة الله بالإصلاح بين المؤمنين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10].
وبالاستماع إلى آيات الله إذا تليت، واتباع ما لأجله أنزلت: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204].
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام: 155].
وبالعمل بطاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران: 132].
فمن أراد الرحمة ورجاها، فليعمل بأسبابها التي تجلبها، كما في التنزيل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 218].
وفيه أيضا: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
ومن وقاه الله السيئات فقد رحمه، ومن صُرف عنه عذاب جهنم فقد رحمه، ومن صبر في مصيبته فقد رحمه، ومن ثبته على دينه فقد رحمه.
وكل من تعرف الله إليه بنعمه، فعرفها ووحده وعبده، فقد رحمه: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [الأعراف: 48-49].
فنسأل الله -تعالى- أن يرحمنا جميعا برحمته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[الزخرف: 31-32].
أستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، حمدا يوصل الحامد إلى رضوانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه، ومنجية من عقوبته ونيرانه، وجالبة لرحمته وغفرانه.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، دعى من أراد النجاة أن يعمل لها، بقلبه، وجوارحه ولسانه، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وإخوانه، وسلم تسليما.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
ثم اعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، فخذوا حذركم، وقدموا عذركم، واستعدوا للعرض الأكبر على الله، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.
عباد الله: إن من تأمل قول إبراهيم لأبيه وهو يتودد إليه، يدعوه إلى النجاة، فيقول له: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)[مريم: 45].
إن من تأملها بقلبه، وأجال فيها فكره تملّكه العَجَبُ، فإن من العجيب أن يكون العذاب من "الرحمن" فالرحمن متصف بالرحمة، والرحمة ضد العذاب، فكيف يعذب الرحمن؟
إن من تأمل هذه الآية يدرك تماما أن من عذبه الرحمن فهو بلا ريب مستحق للعذاب، فكأنه لم يترك مجالاً للرحمة أن تناله، ولا يهلك على الله إلا هالك، وفيه من الوعيد أيضاً ما فيه، فهو وإن كان برفق ولين إلا أنه يحمل في جنباته من التوبيخ ما يقرع قلب المتوعد به، إذ إن العذاب من الرحمن ليس كالعذاب من غيره، فهو دليل على شدة الغضب، وعدم وجود الفرصة المتاحة للرحمة أو للتغاضي، وفي حديث الشفاعة الطويل ما يشهد لهذا، فقد قال آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى -عليه السلام-، يقول كل منهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله -تعالى- يوم القيامة لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، في حديث الشفاعة: "انطلق فأخرج منها أي النار- من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان" قال عليه الصلاة والسلام: "فانطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأنطلق فافعل"[الحديث رواه البخاري ومسلم].
وثبت في كتاب الله -تعالى- تمنيهم للعودة إلى الدنيا ليحسنوا العمل، وليؤمنوا بما كفروا به من قبل فجاء الرد عليهم بقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام: 28].
فكل من استوجب العذاب قد سد أبواب الرحمة منه، ولا يهلك على الله إلا هالك، وفي حديث أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- عند مسلم: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
ولنقف جميعا نرقب هذا المشهد الجليل، حيث انتهت المعركة بين المسلمين والكافرين بانتصار للمؤمنين، وسبي من سبي، بعد أن قتل من قتل، فإذا امرأة من السبي تبتغي، أو كما في البخاري، تسعى إذ وجدت صبياً في السبي، أخذته فألصقته ببطنها، أو أرضعته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ "قالوا: لا والله! وهي تقدر على أن لا تطرحه" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الله أرحم بعباده من هذه بولدها".
اللهم رحمتك نرجوا، وقد وسعت رحمتك كل شيء فلا تطردنا منها يا رحمن يا رحيم، اللهم ارحمنا برحمتك الواسعة.
(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8] وقابل إساءتنا بإحسانك، وتقصيرنا بعفوك وامتنانك، وأدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوك.
التعليقات