عناصر الخطبة
1/رحمة النبي صلى الله عليه وسلم 2/نماذج من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته 3/ البشارة العظيمة لهذه الأُمَّة المحمدية 4/رحمة مهداة لجميع العالمين 5/صور من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأعداء والمناوئين 6/من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالحيوانات.

اقتباس

بعث الله -تعالى- أنبيائه السابقين -عليهم السلام- رحمةً لمَنْ آمن بهم واتبعهم من أقوامهم، وأما نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- شملت رحمته العالَمِين، من أتباعه وأعدائه المناوئين؛ ولا عجب، فهو "رحمةٌ مُهداةٌ للعَالَمين"....

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمد لله العلي الأكرم، الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على النبي المجتبى والرسول المصطفى، الذي برسالة ربِّه وفى، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، فكشف الله به الغمة.

 

أمَّا بعد: إخوة الإسلام: هذا نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-، الرحمة المهداة من رب العالمين لكم، هذا رسولكم محمد -صلى الله عليه وسلم- أرحم الخلق بكم.

 

ونحن اليوم على موعد لنتدارس رحمته -صلى الله عليه وسلم- بأمته ونتذكرها ونعلمها أولادنا، فليس أجمل من أن نعيش في طي سيرته العطرة، وفي كنَف شخصيته السمحة؛ لنسلط الضوء على صفةٍ من صفاته -صلى الله عليه وسلم- وهي رحمته بالخلق.

 

فمَنْ تأمل رسالةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- وشريعته المباركة يجدها مبنيةً على الرحمة، بل وسعت رسالتُه -صلى الله عليه وسلم- برحمتها وعدلِها العدوَّ والصَّديق، والقريب والبعيد، والذَّكر والأنثى، والإنس والجن، وسائر البهائم والعجماوات.

 

قال الله -تعالى- في معرض امتنانه على المؤمنين: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128]؛ فهذا امتنان من الله -تعالى- على عباده المؤمنين؛ حيث بعث فيهم النبيَّ الأُمَّي الذي من أنفسهم، يعرفون حاله؛ ليتمكَّنوا من الأخذ عنه، ولا يأنفوا من الانقياد له، ومع ذلك هو أشرفهم وأفضلهم، وفي غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم، وفي قراءة صحيحة: (مِنْ أَنفَسِكُمْ) أي: من أحسنكم شرفاً ونسباً.

 

ولذا قال: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ): أي: يعز عليه الشيء الذي يُعنِّت أُمَّته، ويشق عليها، يعزُّ عليه أن يرى أُمَّته في غاية الحرج والمشقة، فضلاً أن يُصيبها مكروه أو أذى.

 

ثم قال: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ)، وحرصه -صلى الله عليه وسلم- على أمته يتمثل في حرصه على إيمانهم وهدايتهم وصلاحهم، وحرصه على وصول النفع الدنيوي والأخروي إليهم.

 

ثم خُتِمت الآية بقوله -سبحانه-: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)؛ فهو -صلى الله عليه وسلم- شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين، بل هو أرحم بهم من والديهم والناس أجمعين. ولهذا كان حقُّه مُقَدَّماً على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأُمَّة الإيمان به، وتعظيمه، وتوقيره، وتعزيره.

 

أيها الإخوة الكرام: هذه الآية الكريمة وردت في ختام "سورة التوبة" المشتملة على ذِكْرِ المؤمنين، والمنافقين، والكافرين، فجاء التأكيد -في خاتمتها- بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) مما يُخرج المنافقين والكافرين من هذه الرأفة والرحمة.

 

وبلغ من رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالمؤمنين: أنْ كان لهم بمنزلة الوالد الذي يعلِّم أولاده؛ رحمةً بهم، وشفقةً عليهم، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ؛ أُعَلِّمُكُمْ..."(حسن - رواه أبو داود).

 

ولا ريب أنَّ أبا الإفادة أقوى من أبي الولادة؛ لأنَّ الله -تعالى- أنقذنا به -صلى الله عليه وسلم- من ظلمة الجهل إلى نور الإيمان.

 

ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بأُمَّته:

1- ادِّخاره الدعوة المستجابة لأُمته يوم القيامة:

عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يوم الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا"(رواه مسلم).

 

وهذا من كمالِ شفقة -صلى الله عليه وسلم- بأُمته، ورأفتِه بهم، واعتنائِه بالنظر في مصالحهم المهمة، وهو أيضاً: من بُعد نظره -صلى الله عليه وسلم- وحسن استشرافه للمستقبل؛ لذا أخَّرَ دعوتَه المُستجابة لأُمَّته إلى يوم القيامة.

 

ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بأُمَّته:

2- أنه خطب ذات يوم بالناس، فقال: "أَيُّمَا رَجُلٍ من أُمَّتِي سَبَبْتُهُ سَبَّةً، أو لَعَنْتُهُ لَعْنَةً في غَضَبِي؛ فَإِنَّمَا أَنَا مِنْ وَلَدِ آدَمَ؛ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُونَ؛ وَإِنَّمَا بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ فَاجْعَلْهَا عليهم صَلاَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(صحيح - رواه أحمد وأبو داود).

 

ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بأُمَّته:

3- كان يقوم الليل ويدعو لأمته ويبكي شفقة عليهم:

عن أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قال: صَلَّى رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً فَقَرَأَ بِآيَةٍ حتى أَصْبَحَ، يَرْكَعُ بها وَيَسْجُدُ بها: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[المائدة: 118]، فَلَمَّا أَصْبَحَ، قلتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ! ما زِلْتَ تَقْرَأُ هذه الآيَةَ حتى أَصْبَحْتَ، تَرْكَعُ بها وَتَسْجُدُ بها! قال: "إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي الشَّفَاعَةَ لأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ -إِنْ شَاءَ اللهُ- لِمَنْ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً"(حسن - رواه أحمد).

 

وعن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ -رضي الله عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَلاَ قَوْلَ اللَّهِ -تعالى- في إبراهيم -عليه السلام-: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[إبراهيم: 36]، وتلا قول عِيسَى -عليه السلام-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[المائدة: 118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وقال: "اللَّهُمَّ أُمَّتِي، أُمَّتِي، وَبَكَى، فقال اللهُ -عز وجل-: يَا جِبْرِيلُ! اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ - وَرَبُّكَ أَعْلَمُ - فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ -عليه السلام- فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا قال وهو أَعْلَمُ، فقال اللهُ: يَا جِبْرِيلُ! اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمَّتِكَ، وَلاَ نَسُوءُكَ"(رواه مسلم).

 

الله أكبر، ما أحسنَ الوَعْد الكريم! ما أكرم الوعد من ربِّنا العظيم لنبيِّنا الكريم، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا)[النساء: 87]، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً)[النساء: 122]. سبحانك ربَّنا (إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)[آل عمران: 194].

 

واشتمل الحديث على عدة فوائد:

أ- كمال شفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته، واعتنائه بمصالحهم، واهتمامه بأمرهم.

 

ب- البشارة العظيمة لهذه الأُمَّة المحمدية -زادها الله تعالى شرفاً- حيث وَعَدَها الله -تعالى-، بقوله: "إِنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمَّتِكَ، وَلاَ نَسُوءُكَ"؛ وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة، إن لم يكن أرجاها عل الإطلاق.

 

ج- عِظَمُ منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الله -تعالى-؛ فإنَّ من حكمة إرسال جبريل -عليه السلام- لسؤاله -صلى الله عليه وسلم-؛ إظهار شرف النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه بالمحل الأعلى، فهو أهلٌ أنْ ُيسترضَى ويُكرم بما يُرضيه، وهذا موافق لقوله -تعالى-: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضحى: 5].

 

ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بأُمَّته:

4- مراعاته لأحوال الكبار والصغار، والمرضى والضعفاء:

وفيه عدة أحاديث، ومن أبرزها:

أ- عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا صَلَّى أحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ؛ فإنَّ منهم الضَّعِيفَ، وَالسَّقِيمَ، وَالْكَبِيرَ، وإذا صَلَّى أحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ ما شَاءَ"(رواه البخاري ومسلم).

 

ب- عن أبي قَتَادَةَ -رضي الله عنه- ؛ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنِّي لأَقُومُ في الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فيها، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ في صَلاَتِي؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ"(رواه البخاري).

 

ج- عن أبي قَتَادَةَ -رضي الله عنه- قال: "خَرَجَ عَلَيْنَا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَأُمَامَةُ بِنْتُ أبي الْعَاصِ على عَاتِقِهِ فَصَلَّى، فإذا رَكَعَ وَضَعَها، وإذا رَفَعَ رَفَعَهَا"(رواه البخاري ومسلم).

 

وفي ذلك دليل على كمال لطفه وشفقته -صلى الله عليه وسلم- بأمته، ورفقه بالمأمومين وسائر الاتباع من الكبار والصغار، والمرضى والضعفاء، ومراعاة مصلحتهم، وأن لا يدخل عليهم ما يشق عليهم.

 

عباد الله: أما رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأعداء والمناوئين، فهي العَجَب العُجاب:

فقد بعث الله -تعالى- أنبيائه السابقين -عليهم السلام- رحمةً لمَنْ آمن بهم واتبعهم من أقوامهم، وأما نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- شملت رحمته العالَمِين، من أتباعه وأعدائه المناوئين؛ ولا عجب، فهو "رحمةٌ مُهداةٌ للعَالَمين"، وتأملوا - أيها الأخوة - قولَه -صلى الله عليه وسلم- وهو يصف رسالته، منادياً جميع الناس: "يا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا أَنا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ:(صحيح - رواه ابن سعد، وابن أبي شيبة، والدارمي، والطبراني، والحاكم).

 

فالله -تعالى- بعثه رحمةً مهداةً للمؤمنين، وكذا للكفار؛ بتأخير العذاب، فمَنْ قَبِلَ هديَّتَه أفلح وظفر، ومَنْ لم يقبل خاب وخسر.

 

ومن الآيات التي تحدَّثت عن رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالناس كافة، قوله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107]؛ "أي: وما أرسلناك يا محمدُ بالشرائع والأحكام، إلاَّ رحمةً لجميع الناس، والاستثناءُ مُفَرَّغ من أعمِّ الأحوال والعلل، أي: ما أرسلناك لعلَّةٍ من العلل، إلاَّ لرحمتنا الواسعة، فإنَّ ما بُعثت به سبب لسعادة الدارين"(فتح القدير، للشوكاني: 3/430).

 

وجاء عن ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أنه قال: "مَنْ تَبِعَهُ كان له رَحْمَةً في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ لم يَتْبَعْهُ عُوفِيَ مِمَّا كان يُبْتَلَى سَائِرُ الأُمَمِ مِنَ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ وَالْقَذْفِ".

 

إخوتي الكرام: حقًّا إنَّ نبيِّنا الكريم "رحمةٌ مُهداةٌ" لجميع العالمين:

فقد شملت رحمته -صلى الله عليه وسلم- أتباعه، وأعدائه، والمعاهدين له، والمنافقين، والأمم النائية عنه: "أما أتباعه: فنالوا به -أي: بسبب اتباعهم له- كرامةَ الدنيا والآخرة، وأما أعداؤه: فالمحارِبون له عُجِّلَ قتلُهم، وموتهم خير لهم من حياتهم؛ لأنَّ حياتهم زيادةٌ لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كُتِبَ عليهم الشقاء، فتعجيلُ موتِهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر، -فمن هذه الحيثية هو رحمة لأعدائه-، وأما المعاهِدُون له: فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم أقل شرًّا بذلك العهد من المحاربين له. وأما المنافقون: فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيره، وأما الأمم النائية عنه؛ فإنَّ الله -سبحانه- رفع برسالته العذابَ العامَّ عن أهل الأرض، فأصاب كلَّ العالمين النفعُ برسالته"(جلاء الأفهام، لابن القيم: 1/181، 182). وصدق الله العظيم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وصدق رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "يا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا أَنا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ".

 

اللهم بارك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه غفور رحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.

 

أما بعد: ومن صور رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالأعداء والمناوئين:

1- أنه لم يدعُ على قبيلة دَوس:

عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَدِمَ طُفَيْلُ بن عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عليها، فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ. قال: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ"(رواه البخاري، ومسلم).

 

والدعاء على المشركين له حالان: فإذا كانوا منتهكين لِحُرمات الدِّين وحُرمات أهلِه؛ فالدعاء عليهم واجب، وعلى كلِّ مَنْ سار بسيرهم من أهل المعاصي والانتهاك، فإنْ لم ينتهكوا حُرْمَةَ الدين وحُرمة أهلِه؛ وجب أن يُدعَى لهم بالتوبة؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم- حين سُئل أن يدعوا على دوس، فقال: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ"(انظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال: 3/7).

 

ومن صور رحمته بأعدائه:

2- لم يدع على مشركي قومِه:

عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ على الْمُشْرِكِينَ. قال: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً"(رواه مسلم)؛ لأن اللعنة في الدعاء يراد بها الإبعاد من رحمة الله -تعالى-، فلو دعا على قومه؛ لبعدوا عن الرحمة، وهو -صلى الله عليه وسلم- لم يُبعث بذلك بل هو رحمةٌ مهداةٌ للعَالَمين.

 

ومن صور رحمته بأعدائه:

3- صبره وحلمه على قومه في أشد المواقف:

عن عائشة -رضي الله عنها-؛ أنَّ جبريل -عليه السلام- أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وما رَدُّوا عَلَيْكَ، وقد بَعَثَ اللهُ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ؛ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قال: يا مُحَمَّدُ! ذلك فِيمَا شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهم الأَخْشَبَيْنِ"، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بدافع الرحمة: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"(رواه البخاري ومسلم). وقد أخرج الله -تعالى- من أصلابهم مَن يعبد الله -تعالى- وحده.

 

ومن صور رحمته بقريشٍ خاصةً وهم الذين آذوه ولم يتَّبعوه:

4- رحمته بقريش:

عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: قالت قُرَيْشٌ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَباً وَنُؤْمِنَ بِكَ! قال: وَتَفْعَلُونَ؟ قالوا: نعم. قال: فَدَعَا، فأَتَاهُ جِبْرِيلُ فقال: إِنَّ رَبَّكَ -عز وجل- يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ: "إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَباً، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُم عَذَّبْتُهُ عَذَاباً لاَ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ، وإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لهم بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ. قال: بَلْ بَابُ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ"(صحيح - رواه أحمد، والطبراني، والحاكم).

 

معشر الفضلاء: ورحمةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- تجاوزت الآدميين لتصل إلى البهائم العجماوات؛ حيث نهى -صلى الله عليه وسلم- عن بعض العادات الجاهلية التي كانت تضر بالحيوان، ومن ذلك:

1- نهيه عن اتخاذ الحيوانات هدفاً.

أ- عن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي الله عنه-؛ أنَّه دَخَلَ دَارَ الْحَكَمِ بنِ أَيُّوبَ فَرَأَى غِلْمَانًا -أو فِتْيَانًا- نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فقال أَنَسٌ: "نَهَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ"(رواه البخاري ومسلم). وصبر البهائم: أنْ تُحْبَسَ وهي حيَّةٌ؛ لِتُقتَل بالرمي ونحوه.

 

ب- عن ابنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-؛ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا"(رواه مسلم)، والمعنى: لا تتخذوا الحيوانَ الحيَّ هدفاً ترمون إليه.

 

ومن رحمته بالبهائم:

2- نهيه عن أخذ فراخ الطائر:

عن عبد الله بنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: كُنَّا مَعَ رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتْ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "مَنْ فَجَعَ هذه بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا"(صحيح - رواه أبو داود).

 

ومن ذلك: حثه على الإحسان في ذبح البهائم، ونهيه عن حدِّ السكين بحضرة الذبيحة.

 

أيها الإخوة الكرام..

صَلُّوا علـى نورٍ تَزَايدَ فَخْرُه *** يعلو على الأنوارِ والألبابْ

محمدٌ زينُ الخَلْقِ شرقاً ومغرباً  *** وخيرُ شفيعٍ ناطقٍ بصوابْ

وخيرُ حبيبٍ للإلَهِ نبيُّنا  *** وخيرُ رسولٍ عاملٍ بكتابْ

أتى الخَلْقَ والأصنامُ تُعبَدُ جَهْرَةً  *** وبوَّأهُمْ إبليسُ شرَّ مآبْ

فأَنقَذَ بالنُّورِ البهيِّ عِبادَه ***  وبوَّأهُمْ بالدِّين حُسْنَ مآبْ

فصلُّوا على خيرِ الخلائقِ كلِّهم  *** لِتَسْتَوجِبُوا يا قومِ خيرَ ثوابْ

 

اللهم صلِّ على عبدك ونبيِّك محمدٍ عددَ خلقِك، وزِنةَ عرشك، ورضا نفسِك، ومِداكَ كلماتك.

 

الدعاء...

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life