عناصر الخطبة
1/ ندرة الرجال الرواحل أهل الفضل والسبق 2/ وجوب تضافر الأمة لصناعة الرجال الأكفاء 3/ مقياس التفاضل بين الرجال 4/ مفهوم الرجولة الحقة 5/ ثمرات الرجولة 6/ من خصائص الرجولة 7/متطلّبات صناعة الرجال 8/ تجلّي الرجولة في النبي الكريم ثم صحبهاهداف الخطبة
اقتباس
أعِدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة، فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب، وضع ما شئت من مناهج التعليم والتربية؛ فلن تقوم إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه، وأنشئ ما شئت من لجان؛ فلن تنجز مشروعاً إذا حُرمتَ الرجلَ الغَيور! ذلك ما يقوله العقل، ويصدقه...
أما بعد: فيا أيها المؤمنون عباد الله: أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة".
يصف نبينا -صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين- في هذا الحديث حال الناس في الفضل والكمال والرجولة والاتصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، ويبين فيه -عليه الصلاة والسلام- أن أكثر الناس أهل نقص وقصور، وأما أهل الفضل والمكانة والسبق فهم قليل كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة، يعني: لا تكاد تجد بعيرا كاملة الأوصاف سهلة الانقياد هينة لينة طيعة ذلولاً، حسنة المنظر، قوية على الأحمال والأسفار، شديدة الصبر، لا تتغير طباعها ولا تؤذي غيرها.
وكذلك الناس، المتميزون منهم والمتصفون بالرجولة الحقة المتحلون بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم أهل الفضل والكمال والمكانة والسبق، من يصلح للقيادة والتأثير، الكبار في هممهم، الكبار في مواقفهم، الكبار في ضبط انفعالاتهم وحلمهم، الكبار في صبرهم وتحملهم، الكبار في ثباتهم، الكبار في تصرفاتهم وذكائهم، الكبار في إحسانهم وعطائهم؛ هم قليل ونادر، مع كثرة أعداد الناس.
ومن هنا قال القرطبي -رحمة الله عليه-: إن الرجل الجواد الذي يتحمل أثقال الناس والحمالات عنهم ويكشف كربهم عزيز الوجود، كالراحلة في الإبل الكثيرة.
ولذلك يجب على الأمة أن تسعى وتجتهد في تأهيل الرجال الذين يصلحون للقيام بالمهمات وبناء الحضارات، وتنهض بهم الرسالات، وتحيا بهم الأمم؛ فالرجل الكفء الصالح هو عماد الرسالات، وروح النهضات، ومحور الإصلاح.
أعِدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة، فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب، وضع ما شئت من مناهج التعليم والتربية؛ فلن تقوم إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه، وأنشئ ما شئت من لجان؛ فلن تنجز مشروعاً إذا حُرمتَ الرجلَ الغَيور! ذلك ما يقوله العقل، ويصدقه الواقع.
إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم، وإنجاز المشروعات ليس في تكوين اللجان بقدر ما هو في حماسة القائمين عليها.
فلله ما أحكم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين لم يتمنّ فضة ولا ذهباً، ولا لؤلؤاً ولا جوهراً ولا زبرجدا! ولكنه تمنى رجالاً من الطراز الممتاز الذين تتفتح على أيديهم كنوز الأرض، وأبواب السماء!.
روى الحاكم في مستدركه، وقال الذهبي صحيح على شرط البخاري ومسلم، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جلس إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا، فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدًا وجوهرًا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قال عمر: تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان!.
إنه يتمنى -رضي الله عنه- رجالاً كأبي عبيدة عامر بن الجراح، الذي قال فيه النبي الأكرم والرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم-، كما أخرج البخاري في صحيحه: "لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح".
إنه يتمنى -رضي الله عنه- رجالاً كسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، الذي قال فيه الحبيب المصطفى والنبي المجتبى -صلى الله عليه وسلم- كما أخرج أحمد والبزار بإسناد صحيح: "الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله".
إنه يتمنى -رضي الله عنه- رجالاً أمثال معاذ بن جبل رضي الله عنه - الذي قال عنه الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- كما أخرج أحمد في مسنده: " إن معاذ بن جبل يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة"، يعني: يسبقهم برمية سهم.
أيها المؤمنون والمؤمنات: ليس الرجال بأسنانهم ولا بأموالهم ولا بأجسادهم ولا بجاههم، الرجال بأعمالهم وإنجازاتهم، الرجال بأخلاقهم، الرجال بمروءاتهم، الرجال بمبادئهم، الرجال بهممهم وطموحاتهم، الرجال بثباتهم وتضحياتهم.
الرجولة -إخوة الإيمان- قوة نفسية تحمل صاحبها على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، تحمله على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها، قوةٌ تجعله كبيرًا في صغره، غنيًا في فقره، قويًا في ضعفه؛ قوةٌ تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه؛ يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته، ودينه، وأمته.
مازلتُ أبحثُ في وُجوهِ النَّا *** سِ عن بعضِ الرِّجَال
عن عُصْبَةٍ يقفون في الــ *** أَزَمَاتِ كالشُّمِّ الجبال
فإذا تكلَّمَتِ الشِّفا *** هُ سمعتَ ميزان المقال
وإذا تَحَرَّكَتِ الرِّجا *** لُ رأيتَ أفعال الرجال
أمَّا إذا سكتوا فأنْـ *** ــظارٌ لها وقع النبال
يسعَوْن جهْدًا للعلا *** بل دائمًا نحو الكمال
يصِلُون للغاياتِ لَوْ *** كانت على بُعْدِ المحال
ويحقِّقُون مفاخرًا *** كانت خيالاً في خيال
يَتَعَشَّقُونَ الموت في *** أوساطِ ساحاتِ القتال
وَيَرَوْنَ أنَّ الْحُرَّ عَبْـــ *** ـــدٌ إن توجَّهَ لِلضَّلَال
مَنْ لي بفردٍ منهمُ *** ثِقَةٍ ومحمودِ الخصال
من لي به يا قوم إنَّ *** هُمُومَ وِجْدَاني ثقال
سيطول بحثي إنَّ سؤ *** لي نادرٌ صَعْبُ المنال
فمن الذي تحوي معًا *** أوصافُهُ هذي الخصال؟
لكنَّ عذري أنَّ في الدُّ *** نيا قليلاً من رجال
إخوة الإيمان والإسلام: لم يكن في يوم من الأيام صغر السن وضعف البنية مما يحول بين المرء وبين الرجولة، روى الخطيب في تاريخ بغداد عن معاوية بن قرة عن أبيه أن ابن مسعود -رضي الله عنه- كان يجني لهم نخلة، فهبت الريح فكشفت عن ساقيه، قال: فضحكوا من دقة ساقيه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتضحكون من دقة ساقيه؟! والذي نفسي بيده! لهما أثقل في الميزان من جبل أحد".
وكم من غلام في مقتبل العمر، ترى الرجولة المبكرة في قوله وعمله وتفكيره وخلقه. من ذلك أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مر على ثلة من الصبيان يلعبون فهرولوا وهربوا، وبقي صبي مفرد في مكانه، هو عبد الله بن الزبير رضي الله عنه -، فسأله عمر: لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك؟ فقال الطفل عبد الله بن الزبير الذي تلمع فيه الرجولة: يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك!.
وروي في كتب السير: أن وفداً من المهنئين لعمر بن عبد العزيز بالخلافة من أهل الحجاز فيه غلام صغير وكان الوفد قد اختار الغلام ليتكلم عنهم، وهو أصغرهم، فلما بدأ بالكلام قال له عمر: مهلاً يا غلام، ليتكلم من هو أسن منك، فقال الغلام: مهلاً يا أمير المؤمنين، المرء بأصغريه: قلبِهِ ولسانِه، فإذا منح اللهُ العبدَ لساناً لافظاً وقلباً حافظاً، فقد استجاد له الحلية (استحق أن يتكلم)، يا أمير المؤمنين، لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أسن منك (يعني: أحق بمجلسك هذا ممن هو أكبر منك سناً). فقال عمر: تحدث يا غلام، فتحدث وأجاد فأعجب به وشجعه على ذلك، وزاده ثقة بنفسه.
فقال له: عظنا يا غلام وأوجز، فوعظه، فأنشأ عمر رحمه الله يقول:
تَعَلَّمْ فليس المرءُ يولد عالماً *** وليس أخو علمٍ كَمَنْ هُوَ جاهلُ
وإنَّ كبيرَ القومِ لا عِلْمَ عندهُ *** صغيرٌ إذا التفّتْ عليه المحافل
إخوة الدين والعقيدة: الرجولة: صفات كريمة، وشمائل نبيلة، وسجايا رفيعة، تؤهل للسيادة والمكانة والفضل والسؤدد، وتستميل قلوب الناس، وتكسب ودهم ومحبتهم.
من أخص خصائص الرجولة: لين الجانب، والتواضع، وبسط الوجه، ورحمة الصغير، واحترام الكبير، والجود بالمال، والإحسان إلى الجار، وإغاثة الملهوف، والعفة عما في أيدي الناس، والرفق، والسماحة، والحلم.
هذه الصفات النبيلة قل أن تجتمع إلا في القليل من البشر، ما تحلى امرؤ بها، ولا اتصف مخلوق بها إلا استحق أن يكون رجلا، وجلبت له محبة الله، ومحبة خلقه.
قال هارون الرشيد لأعرابي: بم بلغ فيكم هشام بن عروة هذه المنزلة؟ فقال: بحلمه عن سفيهنا، وعفوه عن مسيئنا، وحمله عن ضعيفنا؛ ليس بمنان إذا وهب، وليس بحقود إذا غضب، رحب الجنان، سمح البنان، ماضي اللسان.
فأومأ الرشيد إلى كلب صيد كان بين يديه -أشار إليه- وقال: والله! لو كانت هذه الصفات في هذا الكلب لاستحق بها السؤدد.
فالرجولة تعني فيما تعنيه التواضع ولين الجانب، لا الكبر واحتقار الناس، وبهذا اتصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ذكر أنس بن مالك -رضي الله عنه- صورة من صور تواضعه -عليه الصلاة والسلام- فقال: إن امرأة كان في عقلها شيء فجاءته -صلى الله عليه وسلم- وقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلسي يا أم فلان انْظُري إِلى أيِّ السِّككِ شِئْتِ، حتى أقْضِيَ لكِ حاجتكِ، فَخَلا مَعها في بعض الطرق، حتى فرغت من حَاجتها".
وجاء عند البخاري: إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضي حاجتها.
ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة، فقال له صلى الله عليه وسلم: "هَوِّنْ عليك! فإني لست بملِكٍ؛ إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة"، يقصد اللحم المجفف.
وبهذا الأسلوب الرائع في التواضع ولين الجانب تربع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شغاف القلوب، وسكن الأرواح والأفئدة.
لقد تواضع نبينا -صلى الله عليه وسلم- لكل الناس بلا استثناء، تواضع لأصحابه وغيرهم، تواضع للعبيد وللإماء، تواضع للنساء وللرجال، في بيته وخارجه، لمن يعرفه -صلى الله عليه وسلم- ولمن لا يعرفه، فهو خلقه وسجيته.
وأما التكبر والاستعلاء والفوقية فصفةٌ شيطانيّةٌ لا تورث إلا البغض والحقد والحسد والقطيعة.
ومن خصائص الرجولة وأهم صفاتها: الإحسان إلى الناس، وقضاء حوائجهم، وإطعام جائعهم، وإدخال السرور عليهم، فالقلوب جبلت على حب من أحسن إليها، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه - لسعيد بن عامر، وكان واليا على الشام: ما لأهل الشام يحبونك؟ فقال: لأني أعاونهم وأواسيهم.
والإحسان إلى الناس ليس فقط طريقاً للرجولة ولمحبة الناس؛ إنما هو أيضاً طريق لمحبة الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ للناس"، وقال المولى جل شأنه: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين) [البقرة:195]، فهذا السخاء يأسر القلوب.
عن صفوان بن أمَيَّةَ قَالَ: "أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ حُنَيْنٍ وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ" رواه الترمذي وصححه الألباني. وقال الحسن: " مَنْ بَذلَ دِرهَمَهُ أحبهُ الناسُ طَوْعاً وكَرْهاً ".
ومن صفات الرجولة الكريمة التي تجمع للعبد المحبة في القلوب وتورثه المكانة في المجتمع: توقير الكبير، ورحمة الصغير، واحترام الناس، وإنزالهم منازلهم، ومراعاة طبائعهم؛ فهذا كله يجمع للعبد محبة الناس صغيرهم وكبيرهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا".
وعَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مِنْ تَعْظِيمِ جَلاَلِ اللهِ إِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ".
ومما يرفع مكانة الرجل في المجتمع ويستميل به قلوبهم: الزهد عما في أيديهم، فقد جاء رجل كان له همّ في هذا الجانب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ" رواه ابن ماجة وحسنه النووي، وصححه الألباني.
فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب للناس، فإذا نازعتهم في محبوبهم حصل ما حصل من النفرة، فإذا استغنيت عن الذي في أيديهم اجتمعوا عليك وأقبلوا.
قال أعرابيٌّ لأهل البصرة: من سيِّدُ أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن. قال: بم سادهم؟ قالوا: احتاجَ الناسُ إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.
وكتب أبو الدرداء -رضي الله عنه- إلى بعض إخوانه: "أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله؛ فإنك إذا فعلت ذلك أحبك الله لرغبتك فيما عنده، وأحبك الناس لتركك لهم دنياهم، والسلام".
ومن محاسن الشيم التي تجعل من المرء رجلا وترفع مكانته في المجتمع: إغاثة الملهوف، وتفريج كرب المكروب، ونصرة المظلوم.
فأصحاب النجدة والمروءة محبوبون عند الله وعند عباده، وقد كانت حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- خير مثال يحتذى به في كل شيء، ولا سيما في إغاثة الملهوف، وتقديم العون لكل من يحتاج إليه، حتى لقد عرف بذلك قبل بعثته -صلى الله عليه وسلم-، فعند نزول الوحي عليه أول مرة رجع إلى خديجة فأخبرها الخبر ثم قال: "لقد خشيت على نفسي". عندئذ أجابته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: كلا والله! ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
هكذا استدلت أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- على حفظ الله له، وعدم تضييعه إياه بصنائع المعروف التي كان يصنعها، وبإغاثة الملهوف؛ فالجزاء من جنس العمل.
ومن قصص العرب أن رجلاً كانت عنده فرس معروفة بأصالتها، سمع بها رجلٌ فأراد أن يسرقها منه، واحتال لذلك بأن أظهر نفسه بمظهر المنقطع في الطريق عند مرور صاحب الفرس، فلما رآه نزل إليه وسقاه، ثم حمله وأركبه فرسه، فلما تمكن منه انطلق بها هارباً.
فناداه صاحب الفرس: رويدك! الفرس لك، ولكن لي طلب عندك. قال: وما هو؟ قال: إذا سألك أحد كيف حصلت على الفرس؟ فلا تقل له: احتلت بحيلة كذا وكذا؛ ولكن قل: صاحب الفرس أهداها لي.
فقال السارق: لماذا؟ فقال صاحب الفرس: حتى لا ينقطع المعروف بين الناس.
فإنني أخشى أن لا يُغاث ملهوف! فربما مر قومٌ برجل منقطع حقيقة يقولون: لا تساعدوه؛ لأن فلاناً قد ساعد فلاناً فغدر به!.
الخطبة الثانية:
إخوة الإيمان والإسلام: إن خير ما تقوم به دولة لشعبها، وأعظم ما يقوم عليه منهج تعليمي، وأفضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من صحافة وإذاعة، ومسرح ومسجد ومدرسة، هو صناعة هذه الرجولة، وتربية هذا الطراز من الرجال.
ألا ما أحوج الأمة اليوم إلى رجال يحملون همها، ويعملون بإخلاص لها، يؤمنون بقضيتها، يحبونها وشعبها، لا يبيعون شعوبهم وأوطانهم وبلادهم وقضاياهم.
ولن تترعرع الرجولة الفارعة، ويتربى الرجال الصالحون، إلا في ظلال العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والمعايير الأصيلة، والتقاليد المرعية، والحقوق المكفولة.
ولم تر الدنيا الرجولة في أجلى صورها وأكمل معانيها كما رأتها في تلك النماذج الكريمة التي صنعها الإسلام على يد رسوله العظيم، من رجال يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع لا يغريهم الوعد، ولا يلينهم الوعيد، لا يغرهم النصر، ولا تحطمهم الهزيمة.
مِن الرِّجالِ الْمَصَابيحِ الَّذِينَ هُمُو *** كأنَّهُمْ مِنْ نُجُومٍ حَيَّةٍ صُنِعُوا
أخلاقهم نورُهُم، مِن أيِّ ناحيةٍ *** أقبلتَ تنظرُ في أخلاقهم سطعوا
التعليقات