عناصر الخطبة
1/ حقيقة الدين 2/ قيمة الإنسان عند الله 3/ من أسباب النجاة 4/ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين 5/ الدين خطوتاناقتباس
إن الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلموا حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- بكافة جوانبها في جميع الأحوال، ويتعلموا جهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله، ويستعملوا جميع الصلاحيات والطاقات لنشر الهداية والدعوة إلى الله, وبذلك يرضى الله عنا، وتنزل الهداية، والرحمة، والنصر...
الخطبة الأولى:
الحمد الله الذي أسكن عباده هذه الدار، وجعلها لهم منزلة سفر من الأسفار، وجعل الدار الآخرة هي دار القرار، فسبحان من يخلق ما يشاء ويختار، ويرفق بعباده الأبرار في جميع الأقطار، وسبقت رحمته بعباده غضبه وهو الرحيم الغفار، أحمده على نعمه الغزار، وأشكره وفضله على من شكر مدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار، الرسول المبعوث بالتبشير والإنذار، صلى الله عليه وسلم، صلاة تتجدد بركاتها بالعشي والأبكار.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وتذكروا قرب الرحيل من هذه الدار إلى دار القرار، ثم إلى جنة أو نار، فأعدوا لهذا اليوم عدته، واحسبوا له حسابه (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحياةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185]، فالحياة موقوتة، والآجال محدودة، والأنفاس معدودة، نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه.
واعلموا -أيها الإخوة- أن حقيقة الدين: الثقة واليقين برب العالمين، اليقين بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والرضا بدينه وشرعه، والثقة بوعده ووعيده، فإذا ملأ هذين النفوس اطمأنت بربها، وسعدت بعبادته.
وإذا ضعفا في النفوس سعى الناس لجمع الأموال وتكميل الشهوات، وانصرفوا عن تقوية الإيمان، وتكميل الأعمال الصالحة كما قال -سبحانه-: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59].
أيها الإخوة: إن الله -عزَّ وجلَّ- خلقنا لعبادته، والإيمان به والقيام بالأعمال الصالحة، والالتزام بالأخلاق الحسنة، لا لجمع الأموال وإرضاء الشهوات فقط، قال -سبحانه-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:56-58]، فكل من أكمل محبوبات الله في الدنيا من الإيمان والتقوى، والعدل والإحسان، والصبر والتوبة، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، فالله يكمل محبوباته في الدنيا بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بالثواب الجزيل في الجنة؛ كما قال -سبحانه-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
وقيمة الإنسان -أيها الأحبة- بصفاته لا بذاته، ولا قيمة لأحد عند الله إلا بالإيمان والأعمال الصالحة فقط، فمن جاء بذلك أكرمه الله بالجنة يوم القيامة؛ كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) [الكهف:107-108].
أيها المسلمون: ومن أهم أسباب النجاة تحقيق الإيمان بالله تعالى، والإيمان درجات، وهو يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وإذا ضعف الإيمان ضعفت الأعمال وقلَّت.
أما حسن الأخلاق مع البشر، وحسن المعاملات، وحسن المعاشرات فلا تكمل إلا بالإيمان الكامل، والإيمان الكامل لا يأتي إلا بالمجاهدة والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وكذا إذا بذل العبد جهده لإعلاء كلمة الله أتته الهداية؛ كما قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
فعلينا أن نؤدي الأمانة، ونستقيم على أوامر الله، ونقوم بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والله يفتح لنا البركات، ويعطينا من خزائنه لنصرة دينه.
أيها الإخوة: وكما يحتاج الإنسان كل يوم إلى الطعام والشراب لصلاح بدنه كذلك يحتاج إلى الإيمان والأعمال الصالحة لصلاح قلبه، ولا بدَّ لكل مسلم من أمرين: العلم، والذكر. وقد أمرنا الله -عزَّ وجلَّ- بتعلم أحكام الدين؛ ليكون العمل موافقاً لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما قال -سبحانه-: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران:79].
وأمرنا -سبحانه- بتذكير الخلق بربهم وخالقهم ورازقهم، وتذكيرهم بعظمة الله ليعظّموه، وتذكيرهم بنعمه وإحسانه ليشكروه، وتذكيرهم بدينه وشرعه، وأمره ونهيه ليعبدوه ويطيعوه، وتذكيرهم بما أعدَّ لهم من الثواب والعقاب ليقبلوا على طاعته، ويحذروا من معصيته.
وقد أمر الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يُذكِّر بالله وآياته وشرعه، كما قال -سبحانه-: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) [الأعلى:9-19].
فليست النجاة -يا عبد الله- في أن تكون صالحًا في نفسك فقط، بل أن تكون مصلحًا لغيرك، مذكّرًا لهم بما يجب عليهم، فعلى كل مسلم أن يُذكِّر بهذه الأوامر الحسنة، والأخبار الصادقة.
فإذا جمع العبد بين الإيمان بالله وتوحيده وعبادته، وذكّر غيره بحقوق ربه، اطمأن قلبه، ونشطت جوارحه لطاعة الله، وتحرك لسانه بذكره وحمده وشكره. وإذا لزم الناس الإيمان والتقوى بامتثال أوامر الله على طريقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتح الله عليهم البركات وعمهم بالخيرات، كما قال -سبحانه-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الجنة دار النعيم، والنجاة من النار دار الجحيم، إنه سميع مجيب، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من ركع لله وسجد، وأفضل من دعا إلى طريق الحق والرشد، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى من سار على طريقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -معاشر المسلمين- واعلموا أن هذه الدنيا دار ممرٍ وأن الآخرة هي دار القرار (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) [الزلزلة:7-8]، وتذكروا نداء الرب الجليل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر:18-20].
عباد الله: الدين خطوتان: خطوة للعبادة، وخطوة للدعوة، وحياة النبي شيء، وجهد النبي شيء آخر، فحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي العبودية لله في جميع الأوقات والأحوال كما قال -سبحانه-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163]. تارة بين المخلوق والخالق بالعبادة كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:1-4]. وتارة بين المخلوق والمخلوق بالدعوة إلى الله كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدثر:1-5].
وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ورثوا عنه حياته وجهده، وقاموا مع رسول الله بذلك حتى انتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ورضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال -سبحانه-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:100].
وكثير من الناس يحب حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويترك جهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة والنصح للأمة، ولا فلاح ولا نجاة إلا بهذا وهذا كما قال -سبحانه-: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:1-3].
والكفار من شياطين الإنس والجن يكرهون حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويحاربون بكل وسيلة من يقتدي بالنبي، ويقوم بجهد النبي، فهؤلاء لهم الشقاء في الدنيا والعذاب الشديد يوم القيامة كما قال -سبحانه-: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل:88]. ومن سمع الحق وعارضه وقاومه ولَّاه الله في الدنيا ما يتجهز به لنار جهنم؛ كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء:115].
إن الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلموا حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- بكافة جوانبها في جميع الأحوال، ويتعلموا جهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله، ويستعملوا جميع الصلاحيات والطاقات لنشر الهداية والدعوة إلى الله، وبذلك يرضى الله عنا، وتنزل الهداية والرحمة والنصر ويستجاب الدعاء، وتحصل العزة (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى:15].
وبسبب دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة دخل الناس في دين الله أفراداً، وبعد كمال التضحية دخل الناس في دين الله أفواجاً، وبسبب ضعف الإيمان، وترك الدعوة، بدأ الناس يخرجون من الدين أفراداً ثم أفواجاً، وصارت الأمة تخاف من المخلوق ولا تخاف من الخالق، وتخاف من بطش الرؤساء والأمراء، ولا تخاف من بطش العزيز الجبار الذي له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير.
وحين كانت الأمة قائمة بالدعوة إلى الله كانت كل يوم تنزل الهداية، ويزيد الإيمان، ويظهر الحق ويزهق الباطل وينزل النصر، وتحصل البركات، وتنتشر الهداية. فالعابد ميدانه نفسه، والداعي ميدانه نفسه وكل الناس، وكلاهما مطلوب لكن البحر لا يُقارن بالقطرة.
والداعي يدعو الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والعالم يعلم الناس كيف يعبدون الله، والعابد هو الذي سَلَّم قلبه وجوارحه لربه. فطوبى لمن رزقه الله ذلك كله، والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة:4].
والدنيا لها جهد، والدين له جهد، ولا بد من القيام بهما معاً لتصلح أحوالنا في الدنيا والآخرة؛ فللدنيا أسباب وللآخرة أسباب، لكن ينبغي العمل لكل واحدة بقدر بقائنا فيها، والدنيا بالنسبة للآخرة لا تساوي شيئاً.
والصحابة -رضي الله عنهم- لما عرفوا ذلك قدموا جهد الدين على جهد الدنيا فنزلت الهدايات، وجاءت المنافع والبركات والفتوحات. والأمة الآن لما قدمت جهد الدنيا على جهد الدين أغلقت أبواب الهداية، وأصابتها الذلة، وحلت بها المصائب، وانتشرت فيها المعاصي، وتسلط عليها الأعداء.
إنه من العجيب حقاً، بل من المؤسف حقاً، أن تقف الأمة ضد مرتكب الجريمة في شأن المخلوق؛ كالقاتل والسارق ولا تقف ضد مرتكب الجريمة في شأن أحكم الحاكمين بالكفر والشرك والبدع والمعاصي؛ فلا تهتز قلوبها لرحمته، ولا تنطق ألسنتها بدعوته، ولا تتحرك جوارحها لهدايته وإرشاده إلى الصراط المستقيم.
أيها الإخوة: إن الله -تبارك وتعالى- خلق الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له كما قال سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:56-58]، والله -عزَّ وجلَّ- له مرادٌ من عبده كما أن للعبد مراد من ربه، ومراد الرب من عبده لمصلحة العبد، فالله غني عن العالمين كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر:15]، كما أن مراد العبد من ربه لمصلحته هو كذلك كما قال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
فاتقوا الله -عباد الله- (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]، واعلموا أن الأعمال بالخواتيم، فمن تاب وأصلح فيما بقي غفر له ما مضى وما بقي، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقي، وسلوا الله حسن الختام.
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
ومسك الختام -معشر الإخوة الكرام- ترطيب الأفواه بالصلاة والسلام، على خير الأنام، امتثالاً لأمر الملك القدوس السلام، حيث قال في خير كلام: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد.
التعليقات