اقتباس
وتتجلّى أهمية الحديث عن الخطابة بشكل مكثّف ومؤكد في ما نشهده في واقعنا المعاصر من انتشار وتغلغل وسائل الإعلام وتقنية المعلومات، وتنوّع وسائل العرض، حتّى أصبح العرض والإلقاء فنّاً مستقلاً له مدارسه ومناهجه، وما خطبة الجمعة إلا مجال رحب للاستفادة من كل الوسائل المتاحة للارتقاء بأسلوب الخطابة المؤثّر بشكل إيجابي ينعكس على نوعية الخطابة وأثرها في المتلقي الذي جاء مهيئاً لسماع ما يقال له، متحرياً للإنصات، مقبلاً بكليته على العلم والاستفادة، وهذا شأن الجموع الغفيرة التي تشهد الجمع في أصقاع الأرض كلها، فمثل من كانت هذه صفتهم حريٌ أن لا يرجعوا وحظّهم السآمة والملل وعدم الاستفادة من هذا الملتقى العظيم)
جمال بامسعود
الحمد لله الذي أكمل الدين، وأتمّ النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، والصلاة والسلام على خير الأنام الذي أقام الملّة، وعلَّم الأمّة، وبلَّغ الدعوة، وعلى آله وصحبه الكرام الذين اعتصموا بالكتاب والسنّة، وخدموا الدين والأمة، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإنّ من رحمة الله تعالى بهذه الأمة - التي شاء أن تكون خير أمّة أخرجت للنّاس- أن شرع لها ما يحفظ دينها في واقعها، ويثبت عقيدتها في أفرادها، ويجدد رسالتها في أجيالها، وينشر العلم بأحكامها، ويبث الوعي بقضاياها.
وإنّ من جملة تلك التشريعات تشريع خطبة وصلاة الجمعة التي تعد بمثابة صمام الأمان للحفاظ على التذكير والتواصل مع المجتمع المسلم بجميع أفراده، سواء في مجال إحياء إيمانه، أو حسن صلته بربه، أو تنظيم علاقته بالحياة والأحياء من حوله، وللجمعة في الإسلام مكانة كبيرة فهي من فروض الأعيان، وهي إحدى شعائر الإسلام العظام)
أولا أهمية الخطبة ودورها في المجتمع المسلم:
(إنّ من أهمّ المقاصد العظيمة التي شرعت الخطبة لها تذكير النّاس بربّهم، وتعليمهم أمر دينهم، وإبراز دور المسلم في الحياة، والتحذير من السلبيات التي قد يقع فيها نتيجة الجهل أو الخطأ، وعلاج مشكلات الأمة وتقويم مسيرتها، وإنّ تأمل بعض هذه المقاصد العظيمة، والخصائص المنيفة لشعيرة الجمعة كفيل بأن يجعلنا ندرك تلك المكانة التي تبوأتها من بين سائر العبادات حتى شرع التبكير لها، والإعلاء من شأنها، والتأكيد على الإنصات فيها، والوعيد الشديد في حقّ من تخلّف عنها.
ومن جهة أخرى فإنّنا حين نلمس هذا الاهتمام الكبير بشأن الجمعة في نصوص الوحيين، ندرك أنّ من أعظم العوامل التي أثّرت في حال أمّتنا المؤلم، والمتمثّل في كثرة الجهل، ووجود البدع، وضعف التدين، وكثرة المنكرات، إنّما هو التقصير في استثمار دور المسجد عبر رسالة الجمعة المتجدّدة للنّاس كافّة على اختلاف مراتبهم ما يربو على خمسين مرة في كل عام، مما يجعلنا مقتنعين بأنّ الحديث عن خطبة الجمعة وتحقيق أهدافها وتطوير أدائها مهم جداً، وينبغي أن يكون على رأس الأولويات الدعوية، كيف لا وهي تهدي النّفوس الثائرة، وتثير حماسة النّفوس الفاترة، وهي ترفع الحقّ، وتخفض الباطل، وتقيم العدل، وتردّ المظالم، وهي صوت المظلومين، وهي لسان الهداية... ولا يمكن أن ينتصر صاحب دعاية، ومناد بفكرة، وصاحب إصلاح إلا بالخطابة.
وتتجلّى أهمية الحديث عن الخطابة بشكل مكثّف ومؤكد في ما نشهده في واقعنا المعاصر من انتشار وتغلغل وسائل الإعلام وتقنية المعلومات، وتنوّع وسائل العرض، حتّى أصبح العرض والإلقاء فنّاً مستقلاً له مدارسه ومناهجه، وما خطبة الجمعة إلا مجال رحب للاستفادة من كل الوسائل المتاحة للارتقاء بأسلوب الخطابة المؤثّر بشكل إيجابي ينعكس على نوعية الخطابة وأثرها في المتلقي الذي جاء مهيئاً لسماع ما يقال له، متحرياً للإنصات، مقبلاً بكليته على العلم والاستفادة، وهذا شأن الجموع الغفيرة التي تشهد الجمع في أصقاع الأرض كلها، فمثل من كانت هذه صفتهم حريٌ أن لا يرجعوا وحظّهم السآمة والملل وعدم الاستفادة من هذا الملتقى العظيم)
ومما يدل على أهميتها إلزام كل مسلم بحضورها من رئيس الدولة إلى أصغر مكلف فيها وهي مؤتمر أسبوعي يستمع فيه الناس منصتين غير منشغلين بشيء دونها ولذلك الأعداء في كل مكان يعملون لها ألف حساب إذا استغلت بالشكل الأمثل.
(وما زالت الخطابة وستظل وسيلة ناجحة من الوسائل التي يلجأ إليها المصلحون والعلماء والدعاة والقادة في كل العصور لتحريك العقول، وبعث الثقة في النفوس للدفاع عن فكرة معينة، أو النهوض بمهمة معينة؛ أو التحذير من أعمال معينة.
وكم من خطبة أحدثت تحولًا في عادات الناس وتصوراتهم، وكم من خطبة فتحت باب الأمل والتوبة لدى بعض المخاطبين؛ وكم من خطبة أطفأت ثائرة فتنة، وكم من خطبة أثرت في تثبيت قلوب جيوش فكان النصر حليفهم.
ولئن كانت الخُطبة بمفهومها الشامل أداة مهمة للتأثير في الإعلام والتعليم والدعوة والتربية، في السلم والحرب، وفي حال السراء والضراء والضعف والقوة؛ فإن خطبة الجمعة تتميز عن جميع الخطب بميزات وخصائص تجعلها ذات أهمية لا يمكن أن تساويها أو تقاربها أي خطبة أخرى.
فلخطبة الجمعة - من بين الخطب - مكانة خاصة، فهي عبادة أسبوعية تُهز بها أعواد المنابر، ويلتقي المسلمون في مساجدهم لسماعها، ويصدرون متأثرين بكلماتها ومعانيها، قد أخذوا حظهم من الدعوة للخير والتحذير من الآثام والشر.
فخطبة الجمعة شعيرة من شعائر الإسلام لها دورها الفعال في صياغة سلوك الناس والتأثير عليهم في شتى المجالات، ولها دورها البارز في خدمة الدعوة إلى الله، فقد خصَّ الله المسلمين بيوم الجمعة، وجعله عيدهم الأسبوعي، وفرض عليهم فيه صلاة الجمعة وخطبتها، وأمر المسلمين بالسعي إليها جمعًا لقلوبهم، وتوحيدًا لكلمتهم، وتعليمًا لجاهلهم، وتنبيهًا لغافلهم، وردًّا لشاردهم، وإيقاظا للهمم، وشحذًا للعزائم، وتبصيرًا للمسلمين بحقائق دينهم وعقيدتهم، ومكايد عدوهم، ومما يجب عليهم، وما لا يسعهم جهله؛ وتثبيتًا لهم جميعًا على تعظيم حرمات الله.
لهذا وغيره كان لخطبة الجمعة مكانة سامية وأهمية بالغة)
(وأما أهميتها بالنسبة للخطيب فلكون حضورها لازماً والاستماع لها متعيناً فإن ذلك يتطلب منه الاهتمام البالغ والعناية التامة بخطبته، فيبذل جهده في وقت مبكر لإعدادها الإعداد الذي يستوفي فيه جوانب الموضوع مع الاختصار ومع استشعاره أيضاً عموم نفعها وعظيم أجرها وثوابها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) رواه مسلم (6804) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومن المناسب أن تكون محررة؛ لما في تحريرها من جمع شتات الموضوع والاطمئنان إلى الإحاطة به والسلامة من ذهاب بعض المعاني والأدلة المهمة التي قد تندُّ عن ذهنه إذا ألقيت دون تحرير، ومن المهم جداً العناية بإيراد الأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف والرجوع إلى الكتب التي تُعنى بجمع الآثار عن السلف في مختلف الموضوعات لاسيما الكتابات الحديثة التي تعنى باستخراج تلك الآثار من الكتب الواسعة مثل سير أعلام النبلاء للذهبي وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي وغيرهما)[4].
ثانيا: واقع الخطبة والخطيب في الوقت الحاضر:
أغلب واقع الخطباء والخطب - إلا ما رحم ربك - يتمثل في الآتي:
1- بعد الخطبة عن واقع الناس وحاجتهم، وكذا واقع البلد والأمة الإسلامية.
2- تكرار المواضيع أو ضعف التحضير لها وهذا يؤدي إلى ملل الحاضرين، وخصوصا أن من يحضرونها شرائح مختلفة، منهم ذو العلم والمسؤول والجامعي وصاحب الوظيفة المرموقة. . الخ، وليس اليوم كحال الأمس في مستوى من يحضر الخطبة.
3- طول وقت الخطبة - مع الملاحظات المذكورة آنفا - المؤدي إلى الملل والضجر.
4- ضعف إعطاء خطبة الجمعة أهمية كبيرة من قبل بعض الخطباء - إن لم نقل أغلبهم - حيث لا يدري الخطيب - إلى ليلة الجمعة أو صباحها - ما الذي سيخطب فيه ثم تكون المواضيع - في الغالب - إما ضعيفة أو بعيدة عن واقع الناس أو البلاد.
5- ضعف أسلوب الخطباء في جذب الناس والوصول إلى قلوبهم بل ربما كان بعضهم منفرا بسبب أسلوبه وعدم لباقته.
6- الضعف اللغوي والنحوي لدى الكثير من الخطباء، مما يؤدي إلى ركاكة في الأسلوب أو أخطاء في مباني الكلمات أو أخطاء في النحو، وهذه الأخيرة حدث عنها ولا حرج فما أكثرها فيمن تصدر للخطابة أو الدعوة أو التعليم.
7- انشغال الخطيب بالوقائع والمستجدات السياسية في غالب الخطب أبعد الخطبة عن أهدافها السامية والأساس في تعليم الناس أمور دينهم.
8- ضعف التخطيط المسبق لخطبة، بينما نجد المعلم يلزم بوضع خطة للمادة التي يدرسها والإداري يلزم بوضع خطة لعمله ويحاسب على التقصير فيها بل معلم التحفيظ وربما الداعية كذلك أما الخطب - مع أهميتها وعلو شأنها - فيندر أن تجد خطيباً لديه خطة شهر فضلاً عن سنة لخطبه في مسجده.
9- ضعف تطوير الخطيب لنفسه في مختلف الجوانب وبالذات في فن الإلقاء.
10- ضعف الاهتمام من قبل القائمين على الدعوة والمؤسسات بالخطباء معنويا بالتدريب والتأهيل و التوجيه والمتابعة وماديا بالمكافآت والمراجع الورقية والالكترونية.
11- انحصار الخطابة في مجموعة محددة من الرعيل الأول، دون إعطاء الفرصة لبقية الشباب الواعدين وتدريبهم على ذلك.
ثالثا مقترحات لتفعيل دور الخطيب:
1- وضع شروط للخطيب والتي من أهمها - مع العلم والتلاوة واللغة والخطابة - (القدوة وسعة الصدر والرحمة والشفقة بالآخرين والصبر عليهم،..).
2- الاختبار والمقابلة للخطيب قبل اختياره، لا أن يكون إعطاء مهمة الخطابة لغرض الكفالة الاجتماعية للشخص أو المحاباة له.
3- تأهيل الخطباء القائمين بالخطابة حاليا وتدريبهم أسلوبا ولغة وعلما وتربية، بواسطة الدورات المكثفة وإبعاد من لا يصلح أولم يصلح منهم.
4- تدريبهم على وضع الخطط ومتابعتهم في وضعها وتنفيذها ومحاسبتهم على التقصير.
5- إلزامهم ببرنامج ذاتي علمي وتربوي ومتابعتهم فيه وإعانتهم عليه.
6- وضع مكافآت مجزية لهم.
7- توفير ما يحتاجونه من مراجع علمية ورقية أو الكترونية.
رابعا مقترحات لتفعيل دور الخطبة:
1- جمع مواضيع خطب الجمعة عبر استبانات توزع على المشايخ والدعاة والخطباء وبعض أفراد الناس، لمعرفة المواضيع المهمة التي ينبغي طرقها وتوجيه الناس فيها ن من قضايا عقدية وفقهية وأخلاقية واجتماعية.
2- تكليف بعض الأفراد من الخطباء أو غيرهم بحصر أهم المناسبات السنوية الدينية (العقائدية أو التشريعية أو الفقهية أو التاريخية - السيرة) أو المحلية أو العالمية، والتي تحتاج إلى استغلال مواعيدها في التذكير بها والاستفادة منها أو التحذير منها وبيان خطرها (مع تحديد تواريخها الهجرية والميلادية - وطبعا ستختلف التواريخ بين الهجري والميلادي من عام إلى عام).
3- وضع صندوق للناس في المسجد لوضع اقتراحاتهم وانطباعاتهم فيه على الخطيب والخطبة (ولا يلزم طبعا أن يكون كل ما يطرح مقبول).
4- توزيع مواضيع تلك المناسبات في خطة سنوية بالأشهر - كخطة المدارس التعليمية -، ولا يلزم أن يعاد الموضوع في كل سنة، فقد يطرق في كل سنتين وأحيانا في كل سنة ولكن بأسلوب آخر ومن زاوية أخرى.
5- توزيع خطبة الجمعة إلى موضوعين: الخطبة الأولى عن موضوع والخطبة الثانية عن موضوع آخر، وهناك موضوع أساس ثابت وفق الخطة السنوية العامة في إحدى الخطبتين، وقد يكون الموضوع الأساس في الخطبة الأولى وقد يكون في الثانية بحسب حضور الناس للخطبة وأحيانا في بعض الخطب تتم المخالفة في الوقت بحسب الأهمية، وأما الموضوع الآخر للخطبة الأخرى فهو حديث الساعة من أحوال طارئة للبلد أو الدولة أو العالم الإسلامي أو الأخطاء الأخلاقية أو الاجتماعية الطارئة.
6- أن تكون الخطب موحدة في كل المساجد حتى يتحقق الهدف من الخطبة، بحيث إن الذي يذهب من حارة أو منطقة إلى أخرى في يوم الجمعة لمأدبة أو غيرها يسمع نفس الخطبة في الموقع الذي هو فيه، فلا يفوته الموضوع بسبب ذهابه عن مسجده الذي يصلي فيه فمثلا إن خطب في عقوق الوالدين يتم التنسيق بين كل الخطباء وفق الخطة العامة بحيث يخطب بها في نفس الجمعة فلا يفوت عاق هذه الخطبة وهكذا في غيرها.
ولنتفكر كيف سنبلغ الناس جميعا ونوجههم بما نريد في آن واحد إن تم تنسيق هذا الأمر، ومن هنا تكمن خطورة خطب الجمعة على أعداء الإسلام من أي طائفة وتوجه كانوا.
7- تنويع المواضيع في خطب الجمعة فالناس يحتاجون إلى التوجيه في عدد من القضايا العقدية أو الفقهية أو الاجتماعية أو الأخلاقية حتى لو أدى ذلك إلى توزيع الخطب على عدد من السنوات، وخصوصا أن معظم الناس لا يحضرون الدروس بل ربما يأتون الجمعة متأخرين.
8- تكوين مجلس خطباء يجمعهم ليناقشوا قضايا خططهم السنوية وبعض القضايا التي تحتاج إلى توجيه جميع الناس فيها في آن واحد ليصل صوت الدعوة إليهم جميعا، ويمكن أن يتم التنسيق أيضا مع أصحاب الاتجاهات الأخرى ولو اقتضى الأمر حتى مع الصوفية في بعض الأمور العامة.
9- تجهيز خطب معدة مسبقا للخطيب وكذلك محاور لمواضيع الخطب بحيث يجد الخطيب الأمر ميسرا له وله بعد ذلك الخيار في اختيار الخطبة الجاهزة أو المحاور.
10- يمكن عمل مجموعة مغلقة على الفيس بك، ينضم فيها الخطباء والدعاة وأصحاب الرأي، ويناقشون من خلال الدردشة المواضيع المستجدة التي ينبغي طرقها خلال الجمعة القادمة.
خامساً توصيات:
1- أن يهتم أهل كل بلد بإنزال هذا الأمر على أرض الواقع وعقد له ورش عمل له لإثرائه فنتيجته عظيمة بإذن الله تعالى.
2- أن تنشر هذه الدراسة بعد استكمال توابعها في المواقع الالكترونية والمجلات المهمة ثم ينشر بشكل كتاب للاستفادة منها.
التعليقات