عناصر الخطبة
1/ بيان هوان الدنيا وفنائها 2/ الدنيا بستان الطاعات 3/ استثمار الصالحين الدنيا للآخرة 4/ بكاء الدنيا لفراق الصالحين واشتياق الآخرة لهم 5/ ضرورة تدارك العمر للتزود بالقرباتاهداف الخطبة
اقتباس
وأن الأنبياء والأولياء والأتقياء والفضلاء لم ينغرُّوا بها، وينخدعوا ببهرجها، ولم يرتضوها سكنًا، أو يعتبروها وطنًا؛ وما ذلك إلا لنور بصائرهم، وصلاح ضمائرهم، ونقاء سرائرهم، وحفظهم لأعمارهم، وبُعْدِ أنظارهم، فقد اعتبروا بمصائرها، و اتعظوا بجرائرها، وادَّكروا بمن عاش على ظهرها، من ملوكٍ ملَكُوها، وزعماء حازوها، وأثرياء جمعوها، وسلاطين حكموها ..
كان حديثنا في الخطبة الماضية عن حقارة الدنيا، وهوانها، وزخرفها، وغرورها، وزيفها، وخداعها، وأنها ممقوتة مذمومة؛ ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء.
وأن الأنبياء والأولياء والأتقياء والفضلاء لم ينغرُّوا بها، وينخدعوا ببهرجها، ولم يرتضوها سكنًا، أو يعتبروها وطنًا؛ وما ذلك إلا لنور بصائرهم، وصلاح ضمائرهم، ونقاء سرائرهم، وحفظهم لأعمارهم، وبُعْدِ أنظارهم، فقد اعتبروا بمصائرها، و اتعظوا بجرائرها، وادَّكروا بمن عاش على ظهرها، من ملوكٍ ملَكُوها، وزعماء حازوها، وأثرياء جمعوها، وسلاطين حكموها، ومغرورين عشقوها، فلم يدم عزها لأحد، ولم يصفُ عيشُها لبشر، ولم يخلد على ظهرها من حي.
وأن المقابر ساوت بين الناس، فالكل خرجوا منها سواسية، الملك والوزير، والعظيم والحقير، والكبير والصغير، والغني والفقير، والسيد والأجير، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27].
ولكن التفاوت هو فيما بعدَها، فمن سعيد بإيمانه، هانئ بإحسانه، ومن شقي بضلاله، مُكَبَّلٍ في أغلاله؛ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود:103-108].
فما هذه الحياة إلا مُرورٌ عابر، واستراحة مسافر، ولكنها -مع كل ذلك- يمكن أن يجعل منها الإنسان مجالاً لسروره، وميدانًا لحبوره، وفرصة لخلوده، ومقرًا لرفعته، ومحطة لغناه، وسوقًا لمناه، وحوزًا لمبتغاه.
إن البغض في الدنيا هو الانخداع بها، والانغماس في لذاتها، والركون إلى شهواتها؛ إن المذمة لها هي من حيث الرضا بها عن الأخرى، والتعلق بها عن الطاعة، والانشغال بها عن الله، (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [القصص:77].
أما من جعل منها ميدانًا للإيمان، وفرصة للإحسان، وبستانًا للطاعات، ومرتعًا للقربات، وزرع فيها لآخرته، واستثمر فيها لمعاده، وأودع فيها ما ينفعه هناك، فهي له سعادة ومغنم، ورفعة ومكسب، يعمرها بالطاعة، ويحييها بالدين، ويعيشها بالتقوى، ويتزود فيها للآخرة،(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197].
ذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فقال له: لا تذم الدنيا، الدنيا دار صِدْقٍ لمن صدَقَها، ودار نجاح لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ومَهْبِطُ وحيِ الله، ومُصَلَّى ملائكته، ومَسْجِد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا منها الرحمة، واحتسبوا فيها الجنة.
إن العقلاء يعيشون في هذه الدنيا عيشة الغريب الذي يعلم أنها ليست وطنه، وأنه لابد مهما طال به الزمن عائد إلى وطنه الحقيقي، وكالمسافر الذي يعلم أنه عابر لها إلى محطة الرحلة الأخيرة وأنه مَرَّ منها ليتزود بما يحتاج إليه في دار إقامته التي لابد له من الوصول إليها، وذلك ما عناه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "كُنْ في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر يقول: "إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".
وكان -صلى الله عليه وسلم- يوصي أصحابه بقوله: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني"
إنه ما من إنسان له بقاء على هذه الأرض، أو خلود فيها، أو استمرار في نعيمها، كائنًا من كان؛ فمهما عذُب العيش، وحسُنت الحياة، ورقصت الآمال، وارتفعت القصور، وتكاثرت الأموال، وامتد السلطان، واتسع الملك، فإن الموت بالمرصاد لكل أحد، لا يمنعه ملِكٌ بملكه، ولا غنيٌّ بماله، ولا شجاعٌ بسطوته، ولا عظيم بجاهه، ولا يحتمي منه بحصون، ولا يحترس منه بجنود، ولا يوجد عنه ملتجأ، قال تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء:78]، (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8].
إن الموت نهاية كل حي، ولو أن كريمًا يبقى لكرمه، أو عظيمًا يخلد لعظمته، لبقي الأنبياء، وخلد الأولياء، ولكن الخلود محال، (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:34-35].
نَسِيرُ إِلَى الآجالِ في كلِّ ساعةٍ *** وأيامُنا تُطْوَى وَهُنَّ مَراحِلُ
ولم أرَ مثلَ الموْتِ حقَّاً كأنَّهُ *** إذا ما تخطَّته الأمانيُّ باطلُ
ومَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ في زمَن الصِّبا! *** فكيْفَ بهِ والشَّيْبُ في الرأسِ شاملُ؟
ترحَّلْ من الدنيا بِزادٍ من التُّقَى *** فَعُمْرُكَ أيامٌ تُعَدُّ قلائلٌ
إن يومًا واحدًا يعيشه المسلم، بل ساعة، بل دقيقة، لهي فرصة كبرى، وغنيمة عظمى؛ ففي دقيقة واحدة يستطيع الإنسان أن يقول: "سبحان الله والحمد لله" مائة مرة! وهي كلمات عظيمة تملأ ما بين السموات والأرض؛ فكيف بمن يغنم الأيام في طاعات الله، ويعمر الأشهر بمرضاة الله، ويقضي السنوات في عبادة الله؟.
صحائفه مسطرة بالذكر والتسبيح، وسجلاته مترعة بالبر والصدقات، وكتابه مُزَيَّنٌ بالصلوات والزكوات، وصحفه مجمَّلةٌ بتوحيد رب الأرض والسموات والأرض؛ في الملأ الأعلى هتاف تكبيره واستغفاره، وفي جنبات الأرض محل ركوعه وسجوده وإكباره، وفي آفاق الخير والإحسان شواهد فضله وعطائه، وفي مواسم الطاعات همسات ندائه ودعائه، وفي ظلمات الليالي عبق دعواته وصلواته وعبراته؛ وفي فنون القربات سباقه، وفي سبيل الله إنفاقه، وفي الدعوة إلى الله إشراقه، وارتقت إلى سماء العظمة أخلاقه.
يتنفس بالقرآن قبل أن يتنفس الصبح، ويشرق بالنقاء والصفاء والرداء عما تشرق الشمس، ويطل في ليالي الهدى كإطلالة البدر، ويرتقي عن مهاوي الردى كما ترتقي النجوم، ويهمي بالخير كما يهمي الغيث، ويجري ماء إحسانه كما تجري الأنهار، ويغرد بالذكر كما تغرد الأطيار، ويتغنى بالقرآن كما يتغنى الكروان، ويطيب نداه كما تطيب الثمار، ويفوح شذى أخلاقه كما تفوح الأزهار، ويحلو منطقه كما يحلو الشهد، وترف مشاعره كما يرف النسيم. وعظمة الله في قلبه، وجلال الله في نفسه، وحب المصطفى في روحه، وللآخرةِ عمله، وفي الجنة أمله، وملاقاة الأحبة هواه، وحوض المصطفى مناه، ولذة النظر إلى وجه ربه غاية مبتغاه.
مثل هذا تفتخر به الدنيا، وتطرب له الحياة، وتخشع له الملائكة، وتشتاقه الجنة، وتترقبه الحور، ويباهي به الخالق، ويتبشش له الله، تودعه الدنيا وهي عليه حزينة، ولفراقه متألمة، فجنباته تنعاه، ويبكي عليه مصلاه.
فيا بشرى لمن جعل الدنيا غنيمة للآخرة! والحياة فرصة لباقية! والعمر استثماراً للجنان العالية! إن يومًا يعيشه المرء لهو فرصة له أن يبذل فيه خيرًا أو يقدم معروفًا، أو يترنم بتسبيح، أو يتزود من صلاة؛ فإن الموت إذا جاء قطع كل أمل، وانتهى أي عمل، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:9-11].
إن الموفق هو الذي يتدارك نفسه طالما في العمر بقية، فيتزود من الطاعات، ويكثر القربات، ويستعد للوقوف بين يدي رب الأرض والسموات، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89].
التعليقات