اقتباس
ومع تطور المجتمعات الإسلامية واتساعها ظهرت الحاجة لتفعيل قيمة العدل وتطويره وتوسيعه ونقله من معناه الأولي المتبادر إلى الذهن؛ وهو العدل بين الخصوم والأطراف إلى بناء منظومة متكاملة من العدل الاجتماعي تسهم في رقي الأمة وتقدمها وتمثيلها لقيم الإسلام ومبادئه وتصوره عن الحياة والعلاقات الإنسانية، ومن ثم كان على الخطباء والدعاة والمصلحين واجب بيان كيفية بناء هذه المنظومة ودعوة الناس للتفاعل مع هذه المنظومة وإقناعهم بأهميتها في النهوض بواقع المجتمعات الإسلامية الذي يشوبه الكثير من الخلل والعور في كثير من مناحيه وملفاته...
من أعظم العوامل التي تدفع بالأمم والحضارات والدول نحو حافة الهاوية وتقف بها على شفا الهلاك، وتعطيها تذكرة الخروج من ذمة التاريخ، هو الظلم؛ والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحوادث التاريخية كثيرة جدا في ذلك الباب، فهو من أوسع أبواب التاريخ وأكثرها ازدحاما بالمشاهد المروعة في سقوط العروش الكبيرة والممالك الخطيرة، وفي المقابل فإن العدل من أهم مقومات قيام الملك وبقائه، وأيضا مقوم أساسي من مقومات النهوض والرقي وتنظيم العلاقات بين الأفراد في المجتمعات، لذلك أمر الله عز وجل بإشاعة العدل وأمر به في عدة آيات منها قوله -عز وجل-: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكّرون) [النحل 90]، كما وصف الله سبحانه نفسه بالعدل والقسط فقال: (شهد الله أنه لا إله إلا وهو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل عمران 18] وجعل من أساسيات دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم إقامة العدل بين الناس، فقال: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم) [الشورى 15].
ومع تطور المجتمعات الإسلامية واتساعها ظهرت الحاجة لتفعيل قيمة العدل وتطويره وتوسيعه ونقله من معناه الأولي المتبادر إلى الذهن؛ وهو العدل بين الخصوم والأطراف إلى بناء منظومة متكاملة من العدل الاجتماعي تسهم في رقي الأمة وتقدمها وتمثيلها لقيم الإسلام ومبادئه وتصوره عن الحياة والعلاقات الإنسانية، ومن ثم كان على الخطباء والدعاة والمصلحين واجب بيان كيفية بناء هذه المنظومة ودعوة الناس للتفاعل مع هذه المنظومة وإقناعهم بأهميتها في النهوض بواقع المجتمعات الإسلامية الذي يشوبه الكثير من الخلل والعور في كثير من مناحيه وملفاته.
وبناء منظومة العدل الاجتماعي يعتمد في قيامه على عدة نقاط أساسية ينبغي على الدعاة مراعاة توافرها في خطابهم الدعوي مع الجماهير؛ من أهمها:
أولا: تقليل فرص وقوع الظلم؛ وذلك بتعظيم الإحساس بخطورة الظلم وضرره على واقع المجتمعات ومستقبلها، عند أبناء هذه المجتمعات؛ لأن الناس حين يرفضون الظلم ويستشعرون خطره فسوف يقللون من فرص وقوعه ويحجمونه ويضيقون نطاقه قدر المستطاع، وأفضل ما يرفع إحساس الأفراد بخطورة الظلم هو معرفتهم لما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، وهذه المعرفة لن تتحقق إلا بجهاز إعلامي قوي وشفاف ينشر ثقافة حقوقية واضحة لا تقوم بتعريف الناس حقوقهم فحسب ولكن تردع الظالمين عن التمادي في ظلمهم، وهذا الدور نلاحظه جيدا في الدول المتقدمة والعريقة في الحريات العامة، حيث يلعب الإعلام دورا محوريا وحاسما في توجيه الجماهير وتبصيرهم بحقوقهم، كما يلعب دورا رقابيا قويا على أداء الأنظمة والحكومات، ويقف بالمرصاد إزاء أي اعتداء على الحريات والحقوق الشخصية للمواطنين، لذلك وجدنا كيف أطاح صحفي أمريكي مغمور "بوب ودورد" بالرئيس الأمريكي "نيكسون" على خلفية فضيحة "ووترجيت " بسبب انتهاك الحريات الشخصية، في حين أن الإعلام مازال في بلادنا خاضعا لضغوط الأنظمة وتأثيرات رأس المال، ويسير في فلك السلطة لا يخرج عنها أبدا.
ثانيا: تعظيم قيمة العدل؛ فالعدل قيمة مطلقة لا تتطرق إليها النسبية بأي حال من الأحوال، والناس على اختلاف أوضاعهم وثقافاتهم في حاجة ماسة للشعور بعظم جناب العدل وسهولة الحصول عليه من غير عنت ولا تسويف، ولا يملك أحد مهما كانت قيمته أو مركزه العبث بهذه القيمة وإلا تعرض لغضب الجماهير، التي تخاف -إن جرحت منظومة العدل- أن يحل الهلاك على الجميع بأسره، لذلك حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من العدالة الانتقائية، وازدواج أحكام القضاء، وبيّن أن ذلك من أسباب الهلاك، فقال " إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع، ويتركون الشريف، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقا لقطعت يدها " [البخاري].
وللحصول على هذا التعظيم لجناب العدل لابد من التأكيد على استقلال القضاء عن سلطة الدولة والنظام، وتوسيع سلطات القاضي وحماية الأحكام الصادرة منه، وذلك يقتضي التدقيق في دين القضاة وأخلاقهم ومدى ورعهم وتقواهم، خاصة مع شيوع حالات الفساد بين القضاة، وأن بعض القضاة قد لا تتوافر فيهم شروط العدالة اللازمة للشهادة فضلا عن منصب القضاء. والناس إذا عظم عندهم قيمة العدل حرصوا على مساعدة حماته -وهم القضاة- في أداء أعمالهم والقيام بواجباتهم نحو تحقيق العدل، ومن ثم يتحد الجميع في بناء منظومة العدل ويصبح للجميع دوره في تفعيلها وضبط حركتها وتجويد أدائها.
ثالثا: توسيع مفهوم العدل؛ ليشمل مناطق وأجزاء ومفاهيم جديدة لم يشملها من قبل، فكما قلنا في صدر الكلام أن المجتمعات الإسلامية قد اتسعت وثقافاتها تعددت، وأقاليمها قد انتشرت، والأنظمة والحكومات المسلمة في حاجة ماسة إلى تحقيق الاستقرار والأمن الاجتماعي في مواجهة الأعداء المتكاثرين عليها، وأولى لبِنات الاستقرار تحقيق العدل الاجتماعي بين أقاليم الدولة حضرها وبواديها، مدنها وقراها، فلا يصح أبدا أن تستأثر المدن الكبرى والعواصم بمعظم ثروات البلاد وتحظى بالدعم الكامل لمشاريع التنمية والعمران، في حين تهمل الضواحي والبوادي والأقاليم البعيدة عن العواصم، فخطط التنمية الصحيحة والجيدة لابد أن تكون متوازنة جغرافيا وسكانيا، وكلما زادت معاناة الناس كلما توجب على الأنظمة والحكومات توجيه العناية والرعاية والتنمية، والغرب قد نقل للعالم الإسلامي آفة اجتماعية خطيرة إلى بلادنا، ثم تخلص هو منها، ألا وهي آفة الصراع بين الشمال المتقدم والجنوب المتخلف، وهي الآفة التي أوجدت صراعا تاريخيا في دول كثيرة منها أمريكا وإيطاليا، فقد عانتا منها كثيرا حتى تخلصتا منها بعد حروب طاحنة. وإن تماسك أجزاء البلد الإسلامي الواحد من أهم أولويات العمل الإسلامي، من أجله يتجاوز عن كثير من الأمور، فقد تجاوز النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين رغم خطورتهم وضررهم على الإسلام والمسلمين، وتجاوز عن إعادة الكعبة على قواعدها الصحيحة، حتى لا يؤثر ذلك على السلام الاجتماعي ووحدة البلاد والأمة. وتحبيب الناس في الوحدة وتعظيم شعورهم بالانتماء لا يكون بسرد أخبار وعواقب التناحر والفرقة، إنما يتم أولا من خلال تقوية شعور الناس بحاجتهم لتلك الوحدة التي ينالون من خلالها حقوقهم كافة ـ المادية والمعنوية ـ على قدم المساواة. ومن الأمور التي تشملها عملية توسيع مفهوم العدل الشعور بالمسئولية تجاه الأجيال القادمة من الأبناء والأحفاد، فموارد الدولة مهما كانت كبيرة ومتسعة وضخمة فهي محدودة في نهاية الأمر، والعدل لا يقتضى فقط حسن توزيعها على الأجيال الحاضرة، بل توزيعها بحكمة وروية تحافظ على بقائها وتنميتها قدر المستطاع، لينتفع بها الأبناء والأحفاد، خاصة وأن معدلات النمو السكاني في العالم الإسلامي مطردة ومستمرة في الارتفاع رغم محاولات التحجيم الدءوبة من جانب خصوم الأمة، أي العدل بين الأجيال أو الربط بين الحاضر والمستقبل، وكان الفذ الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عباقرة التاريخ في التخطيط الإستراتيجي، فقد كان يفكر في مستقبل أبناء الأمة عندما رفض تقسيم الأراضي المفتوحة بين المجاهدين الفاتحين لها، وتركها في أيدي أهلها وضرب عليها الخراج، حتى ينتفع بها الجميع عبر الأجيال، ولا يستأثر بها الفاتحون دون غيرهم.
إن منظومة العدل الاجتماعي هي الصمام الذي يحفظ أمن وسلام أمتنا وبلادنا من نار الظلم الذي يقتل روح المبادرة لدى الناس ويجعلهم في أسر اليأس والإحباط، ويثير فيهم روح الانتقام والغل والتمرد، وعلى الدعاة بشتى وسائل اتصالهم بالجماهير دور كبير في توفير المبادئ والمفاهيم التي تدفع الناس نحو العدل، ليس على مستوى الإيمان واليقين، بل على مستوى التطبيق والحراسة والدفاع بأنفس ما يملكون لو اقتضى الأمر لذلك.
التعليقات