اقتباس
كما تتميز الدعوة الإسلامية بقدرتها على التنوع في الأساليب والتعدد في معالجة كافة القضايا مع ثبات الركائز والأهداف؛ لأن عمليات الإقناع تحتاج إلى أسلوب القوة، كما تحتاج إلى أسلوب اللين، وقد تحتاج إلى أسلوب المواجهة بالخطأ، أو أسلوب المحاكمة العقلية أو أسلوب التعميم وعدم المواجهة، كما كَانَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أحياناً عند الإنكار إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلانٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا".
يعتبر الإقناع أفضل وسيلة لنشر الدين ذلك أنه يخاطب العقول والأرواح قبل الأبدان ويحرك الفطرة الإنسانية والشعور العميق داخل الإنسان، والذي كان بالأمس من أسباب انتشار الإسلام في العالم بسرعة كبيرة ومذهلة، كما يعتبر الإقناع ركيزة مهمة من ركائز العمل الإسلامي الذي يهدف إلى دعوة الناس إلى دين الله ولدراسة المواقف أهمية بالغة لما يعتقد من وجود علاقة قوية بين كل من المعتقد والموقف والسلوك، إذ أن الموقف هو تلخيص لمجموعة واسعة من المعتقدات، كما أنه هو المدبر والموجه للسلوك، فإذا استطعنا تغيير معتقد إنسان ما، تجاه قضية معينة، نستطيع عندها أن نغير موقفه ومن ثم سلوكه لتصب تصرفاته في الهدف الذي رسمنا له، وهذا ما يزيد من أهمية معرفة الأساليب والطرق التي تؤدي إلى الإقناع ليتزود بها كل العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، وعلى رأس هؤلاء العاملين؛ الخطباء، الذين يواجهون الجماهير مرة أسبوعياً – على الأقل – ومن ثم هم أكثر الفئات احتكاكاً مع الجماهير، والتقاء بهم، وتعرفاً على رغباتهم وحاجاتهم المتغايرة، وأيضاً اطلاعاً على عيوبهم وآفاتهم، وبالتالي هم أكثر الفئات العاملة في الدعوة إلى الله حاجة للتعرف على عملية الإقناع بشكل كامل من حيث الأسس والإستراتيجيات والأهداف والغايات.
أولاً: موقع السامع من عملية الإقناع:
الحقيقة التي يغفل عنها كثير من الخطباء أن المستمع هو الطرف الأهم في عملية الإقناع، إذ أنه موضعها ومتلقيها والمتأثر بها، وقد يكون الخطيب بليغاً، فصيحاً، متمكناً من أدواته الخطابية، ولكنه غير مقنع بالمرة بالنسبة لجماهير المستمعين!! وذلك لافتقاده لملكة الإقناع وأدواته وآلياته، ولا يسير على خطة واضحة لتحقيق أهداف معينة مقصودة بذاتها. والحقيقة أن الخطيب لا يمكن أن يقنع أحداً من مستمعيه، ما لم يكن هذا المستمع راغباً في الاستفادة والاقتناع.
والسبب في ذلك أن الإقناع عملية تتكون من شقين:
الأول: المعرفة العقلية، وهذه يسهل توفيرها لمن يراد إقناعه من خلال سرد الأدلة التي يجب أن تكون واضحة وواضحة جداً، وباتباع الطرق السليمة للتفكير يمكن الوصول إلى حجج عقلية منطقية قابلة لأن تؤدي إلى قناعات.
الثاني: القبول القلبي، فإن النتيجة المنطقية الناتجة عن التفكير السليم ما لم يستقبلها القلب ويطمئن إليها لا تفيد شيئاً. لكن إذا قبلها القلب صارت قناعة وتولد منها الإيمان.
فالاقتناع - إذن - معرفة الشيء بالعقل، ومن ثم قبوله بالقلب، أما المعرفة العقلية دون القبول بالقلب فهي جحود. ولذلك قال الله –تعالى- عن فرعون وقومه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين) [النمل:14]، فهم عرفوا الحق لكن لم تنقد له قلوبهم، لا لضعف الحجة ولا لخفاء الدليل بل لأنهم لظلمهم وإرادتهم للعلو ما أرادوا الاقتناع، فلدينا الآن جهل وتكذيب وجحود، فالجهل عدم العلم من الأساس، والتكذيب عدم قبول العلم لمانع عقلي، وأمَّا الجحود فهو القبول العقلي مع رفض الانقياد والقبول القلبي.
ثانياً: أسس الخطيب في عملية الإقناع:
الخطيب المقنع لابد من أن ينطلق من خلال عدة ثوابت وأسس أثناء ممارسته لمهمة الدعوة إلى سبيل الله عبر وسيلة إلقاء الخطب والدروس، من أبرزها:
أولاً: اليسر والوضوح:
الإسلام القائم على التوحيد وعلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ دين يسر ووضوح وسهولة، فهذه العقيدة السهلة لا تتطلب خبرة طويلة أو تجربة عميقة، ولا تثير أية مصاعب عقلية للفهم والاستيعاب، بل إنها تخاطب أدنى المستويات العقلية والإدراكية في الإنسان، نظراً لخلوها من التداخلات الفلسفية، والحيل النظرية أو اللاهوتية، وبالتالي فإن أي فرد يستطيع أن يستوعب هذه العقيدة بسهولة ويسر، حتى أقل الناس خبرة بالأصول العقدية لهذا الدين. وفي الحقيقة أن بساطة تعاليم الإسلام ووضوحها كانت ومازالت من أبرز العوامل الفعالة في نشر الرسالة في مختلف المجالات وبين مختلف الأوساط؛ لأن فهم الدعوة الإسلامية لا يحتاج إلى قدرات فكرية واسعة، وملكات ذهنية كبيرة.
وتتميز دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالبساطة في اللفظ، والوضوح في المعنى، واليسر في المعالجة، وهو ما يتفق مع طبيعة هذا الدين ومنهجه في الدعوة، ولهذا لم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس، وأحيا الأخلاق، ورفع شأن الفضيلة في زمن قياسي كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويرجع ذلك إلى طبيعة هذا الدين الذي يخاطب فطرة الناس جميعاً، ويتعامل مع ظروفهم، ويلبي رغباتهم، ويعالج قضاياهم، ويرد على تساؤلاتهم، و يربط في تناسق وانسجام بينهم وبين واقع الحياة التي يعيشونها، وقد أراد الله –تعالى- أن ييسر للناس كباراً وصغاراً فهم الرسالة وإدراكها حتى يتمكنوا من استيعابها والعمل وفق معطياتها مصداقاً لقول المولى -عز وجل-: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر) [البقرة:158].
ثانياً: الثراء والتطور:
فالدعوة الإسلامية تتميز بالثراء في مادتها، والتنوع في أساليبها، والتطور في معالجاتها، ويأتي ثراء هذه الدعوة انطلاقاً من النظرة الشمولية للدين الإسلامي الذي جاء شاملاً جامعاً لحياة المسلمين في شتى المجالات، فلم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتطرق إليها ابتـداءً من وضع أصول الحياة الأسرية إلى إعداد الجيوش ومقاومة الأعداء، ويأتي ذلك مصداقاً لقول الحق -جل وعلا-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل:89]، ومن ثم فإن الخطباء لن يقفوا عاجزين عن الرد على تساؤلات الجماهير، وعلامات الاستفهام التي تثور في أذهانهم حول أي مسألة تواجههم في أي زمان وأي مكان؛ لأنهم سيجدون في دين الله الردود الشافية لكافة التساؤلات.
كما تتميز الدعوة الإسلامية بقدرتها على التنوع في الأساليب والتعدد في معالجة كافة القضايا مع ثبات الركائز والأهداف؛ لأن عمليات الإقناع تحتاج إلى أسلوب القوة، كما تحتاج إلى أسلوب اللين، وقد تحتاج إلى أسلوب المواجهة بالخطأ، أو أسلوب المحاكمة العقلية أو أسلوب التعميم وعدم المواجهة، كما كَانَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أحياناً عند الإنكار إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلانٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا".
وهنا يأتي دور الخطباء وقدرتهم على استخدام الأسلوب المناسب في الموقف المناسب والوقت المناسب وهم يقومون بدورهم الإقناعي؛ لأن دائرة الاختيار بين مختلف الأساليب ستكون واسعة ومتنوعة ومتعددة.
وتختلف أحوال عمليَّة الإقناع من وقت إلى آخر، ومن حال إلى حال بحسب مقتضيات الأحوال والأزمان، فقد يصلح أسلوب إقناعيٌّ في مخاطبة شريحة عمرية معينة، ولا يصلح مع غيرهم، وهنا يجب على الخطباء أن يغيروا من أساليبهم بما يتناسب مع حال المستمعين، وقد يتطور الأسلوب الواحد من ترغيب إلى ترهيب أو العكس، وقد يتغير الموقف مع العدو من أسلوب المهادنة والصلح إلى أسلوب المواجهة والقتال أو العكس؛ لأن الأصل أن الأساليب الإقناعيَّة اجتهادية ومتطورة يمكن للقائمين عليها أن يطوروا فيها بحسب مقتضيات عصرهم.
بهذا المنهج المتميز يستطيع الخطيب أن يجذب انتباه الفئات المستهدفة ويشد اهتمامها ويرد على ما يجول في خواطرهم في الوقوف على تبريرات مفهومة وبسيطة ونهائية للأمور التي تحيط بهم، وهذا هو الذي يفسر الأسباب التي تجعل تلك الفئات مستعدة لتقبل التفسير الذي يقدم إليها لاسيما عندما يأتي هذا التفسير من مصدر موثوق به.
ثالثاً: المنطقية والموضوعية:
مما لا شك فيه أن الخطيب ترتفع قيمته كلما ارتقت اهتماماته العقلية، من هنا فإن من أهم الأهداف الإصلاحية لهذا الدين هو تحرير البشر من ربقة التقليد والخرافات، وتنشئتهم على التفكير الحر، ولذلك حارب الإسلام الوثنية لأنها انحطاط بالعقل، وعمى في البصيرة. وحين طلب بعض المرتابين المعجزات المادية التي تثبت صحة هذه الرسالة، كان رد الله –تعالى- عليهم أن ينظروا فيما احتوته آيات القرآن الكريم من دلائل عقلية وصور كونية، تثبت صحة ما تضمنته هذه الرسالة، وصدق حاملها، وقد اقتضت حكمة الله –تعالى- أن يكون منطق العقل تاج هذه الحياة الإنسانية، قال تعالى: ( قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[العنكبوت:20]، كما كتب الله –تعالى- في لوح هذا الوجود أن يقوم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- داعياً إلى الحق بمنطق العقل هو ومن اتبعه بإحسان، وفي ذلك يقول تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[يوسف:108]. كما نرى أن الإسلام قد حرص على أن يظل حكم العقل سليماً، لا يتسرب إليه ما يؤثر في حسن تصوره، لذلك اعتبر الخمر والميسر رجساً من عمل الشيطان، ومن ثم أوجب اجتنابها.
ومن هنا فإن من أهم الواجبات الخطباء احترام العقل الإنساني؛ لأن الإسلام يضع الحجج العقلية والأساليب المنطقية على رأس طرق التفاهم والنقاش والجدل المفيد، كما يجعل فيما خلق الله أهم مداخل الإيمان بالله، والتصديق بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن ثم فإن عليهم أن ينهجوا هذا النهج في مخاطبة الجمهور، ويجعلوا العقل حكماً في الدين، وفي الإيمان لأن المرء لا يكون مؤمناً إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى يقتنع به، فمن رُبّيَ على التسليم بغير عقل، والعمل بغير فقه، فهو قاصر الإيمان، حتى لو كان عمله صالحاً.
رابعاً: حسن الأسلوب:
تقوم الدعوة الإسلامية على مبدأ راسخ في مخاطبة الجماهير بصفة عامة، ويعتمد هذا المبدأ على الكلمة الطيبة، والحكمة البالغة، من غير عصبية أو عنف؛ لأن الحكمة تجعل القائم بعمليَّة الإقناع يقدر الأمور حق قدرها، كـما تجعله ينظر ببصيرة المؤمن ليرى حاجة الجمهور، فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوبهم من أوسع الأبواب، فتنشرح له صدورهم، ويرون فيه المنقذ لهم، الحريص على سعادتهم ورفاهيتهم وأمنهم ومستقبلهم. قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159].
ومن أصول الحكمة الخطابية؛ مراعاة حال الجمهور، إذ ليس من الحكمة استخدام أسلوب واحد في عملية الإقناع مع الكبير والصغير، والرجل و المرأة، والمتعلم والجاهل، والرئيس والمرؤوس، والهادئ والغضوب، بل لا بد من تنويع أسلوب المخاطبة كل بما يناسبه، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم)[إبراهيم:4]، وإن الخطيب الناجح هو الذي يعطي كل مستمع ما يلزمه من أفكار وتوجيهات، ويحاول أن يقنعه بالأسلوب الذي يناسبه، ويناسب مداركه، ذلك أن من الحكمة إيضاح المعنى وبيانه بالأساليب المؤثرة التي يفهمها من يراد إقناعه وبلغته التي يفهمها حتى لا تبقى عنده شبهة، وحتى لا يخفى عليه الحق بسبب عدم البيان، أو بسبب عدم إقناعه بلغته، فإذا كان هناك ما يوجب الموعظة وعظ وذكر بالآيات الزواجر، والأحاديث التي فيها الترغيب والترهيب، حتى ينتبه ويرق قلبه، وينقاد للحق، فالمقام قد يحتاج إلى موعظة وترغيب وترهيب على حسب حاله، وقد يكون مستعداً لقبول الحق، فعند أقل تنبيه يقبل الحق، وقد يكون عنده بعض التمنع، وبعض الإعراض فيحتاج إلى موعظة وإلى توجيه وإلى ذكر آيات الزجر، ومنهم من لا يفهم الفصحى جيداً فيحتاج لاستخدام بعض الألفاظ والعبارات باللغة العامية حتى يُسهل فهم المراد، وهكذا.
ثالثاً: غايات الخطيب الإقناعية:
لابد من أن يكون أمر الغايات والأهداف واضحاً أمام أعين الخطيب وحاضراً بقوة في ذهنه عند ممارسته لمهمة الإقناع عبر إلقائه للخطبة، باستحضاره عدة غايات هامة من عملية الإقناع، أبرزها:
أولاً: التعريف بصحيح الدين:
وهو الغاية العظمى التي قام من أجلها سوق الدعوة إلى الله -عز وجل-، واعتلى من أجلها الخطباء المنابر. فإن الغرض الأساسي من عملية الإقناع الخطابي، هو إبلاغ النسخة الأصلية للدين، بعيداً عن زيف المضلين وانتحال المبطلين وتحريف الدجالين، والنسخة الأصلية للدين هو النسخة الصحيحة التي تقوم على مصادرها الأصلية المعصومة من كتاب وسنة وإجماع سلف الأمة وأئمة الدين الكبار وعلمائه العاملين.
فالخطيب يقصد من قيامه بعمله الخطابي التأثير فيمن يريد إقناعهم، من هنا فإنَّ الخطباء سيرتقون بالمستمعين ويأخذون بأيديهم إلى الطريق الصحيح في الدنيا والآخرة، وذلك إذا التزموا بمعطيات هذا الدين واستمسكوا بأصوله؛ لأن القول بدون تطبيق لا يثمر ولا يجدي، والادعاء باللسان مع مخالفة الأركان هو مدعاة لاستجلاب سخط الله -عز وجل-، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُون * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف:3].
قال الإمام القرطبي: "استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله
أما في الماضي فيكون كذبا، وأما في المستقبل فيكون خلفا، وكلاهما مذموم". وهل يجني الذين يقولون ما لا يفعلون، ويعظون ولا يتعظون ويرشدون ولا يسترشدون إلا سخرية العباد وسخط رب العباد، يخسرون دينهم ودنياهم وذلك هو الخسران المبين.
ذلك أن عقوبة من كان عالما بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه وإنما ذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله –تعالى- ومستخف بأحكامه وهو ممن لا ينتفع بخطبته في شيء.
ثانياً: التأكيد على قيم الإسلام العظمى:
وهي القيم المستقاة من عقيدته وشريعته ومنهجه في الحياة، فإنَّ التأكيد عليها سيسهم في الارتقاء بأذواق المستمعين وملكاتهم الفكرية والوجدانية، كما ستحقق لهم السعادة والاستقرار والراحة النفسية، فالفرائض أبرز مثال على قيم الإسلام العظمى المستقاة من شريعته، فهي عبارة عن تمارين يومية متكررة لتعويد المرء أن يحيا بها، وأن يظل مستمسكاً بها ما دام حيَّاً.
وكتاب الله وسنَّة النبي يكشفان عن هذه الحقائق، فالصلاة عندما أمر الله بها أبان الهدف من إقامتها، فقال عزَّ من قائل: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر) [العنكبوت:45]. وفي الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ولم يستطل على خلقي ولم يبت مصراً على معصيتي وقطع النهار في ذكري ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ورحم المصاب ذلك نوره كنور الشمس أكلؤه بعزتي وأستحفظه ملائكتي أجعل له في الظلمة نوراً وفي الجهالة حلماً ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة".
والزكاة إنما هي لغرس مشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين مختلف الطبقات، وقد نص القرآن الكريم على الغاية من إخراج الزكاة، فقال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبه:103]، ومن أجل ذلك وسَّع النبي -صلى الله عليه وسلم- مفهوم الصدقة المبذولة، فعن أبي ذر قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة".
وكذلك شرع الإسلام الصوم ليكون خطوة على طريق تحرر النفس من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكورة. وإقراراً لهذا المعنى قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"، وقال: "إن الصيام ليس من الأكل والشرب فقط إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم".
والحج هدفه ليس إلا من صميم ما تقدم، قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة:197]. فأركان الإسلام هي مدارج الكمال المنشود، وروافد التطهر الذي يصون الحياة ويعلي شأنها، ولهذا أعطيت منزلة كبيرة في دين الله.
ثالثاً: تصحيح الصور المغلوطة:
والتي تتكون عند بعض الناس عن المسلمين. والتي ينبغي أن تكون في أولويات الخطيب الذي يجب أن يوجه إلى أولئك الناس، ويتم ذلك عن طريق تقديم الصورة الصحيحة للسلوك الإسلامي، وشرح أبعاده بطريقة موضوعية، وتوعية المسلمين في بلاد العالم المختلفة بدورهم الحاسم في هذا الصدد عن طريق التصدي للدعايات المغرضة، التي يحاول أعداء الإسلام الترويج لها.
التعليقات