د. غنية عبدالرحمن النحلاوي
الحديث عن الحياء.. لماذا؟ [*]
• الحياء فِطرة سليمة، يولَد الإنسان وهي معه، وتتجلَّى منذ مرحلة مُبكِّرة من العمر، وأبكر مما تتخيَّلون، وتحفظها التربية، وتُقوِّيها بالتعزيز والقُدوة منذ الطفولة المبكِّرة[1]، أو تُشوهها، وقد تطمسها.
والحياءُ شعبة من الإيمان، وقد يدهشكم أن رسولنا خصَّه بالذِّكر ثالث ثلاثة من بينها؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضعٌ وسبعون أو بضعٌ وستون شُعبة، فأفضلها قولُ: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شُعْبةٌ من الإيمان))؛ متفق عليه.
فانظروا كيف تُربُّون أبناءكم إذ تسمعون وصف الصحابة للحبيب عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً مِن العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يَكرهه عرفناه في وجهه"؛ متفق عليه، وعندما تَسمعون عن شابٍّ أنه حييٌّ كالبنات، فالمسلم الحق يعلم أنَّ هذا لا يقْدحُ فيه، بل يسمو به، كيف لا وهو سمتُ الحبيب؟!
فما هو الحياء؟ وماذا بعد انتزاعه من الأطفال قبل الكبار؟!
تعريف الحياء: الحياء - كما قال ابن قيِّم الجوزية - هو: "خلُقٌ يبعَث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق"، "وهو الخلُق الذي لولاه لم يُقر الضَّيف، ولم يؤدَّ لعبدٍ أمانة، ولا سُتر له عورة، ولا امتنع عن فاحشة"؛ (مدارج السالكين ومفتاح دار السعادة)[2]؛ وقد فرَّق العُلماء بين الخجَل المذموم الذي يَحجب عن مُلاقاة الناس لغير سبب، وبين الحَياء المحمود الذي يستدلُّ منه "مسكوَيه" - على سبيل المثال - على نجابة الصبيِّ؛ حيث استدلَّ عليها "من كثرة حيائه وأدبه مع الكبار، وعدم التحديق في وجوههم بطرفه، بل تَراه مطرقًا بنظره"[3].
والحياء عكس الفهم الخاطئ لا يَمنع مِن الانخِراط في الحياة والقيام بشؤونها وشُجونها، بل هو يُجمِّلها ويَضمن أن تسير دون زَيغ أو تيه، وهو لم يُعِق ابنة الشيخ الصالح وقد جاءت نبي الله موسى ﴿ تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ [القصص: 25].
الحياء مِن الله تعالى: معلومٌ أنَّ الحياء مِن الله تعالى هو رأس الأمر ومناطُه، وهو "الصِّبغة" الإيمانية لهذا الخُلق الجليل الذي فطَرَنا الله عليه، والتي تجعَل الإنسان في لحظة صدقٍ وإقبال على بارئه يَخرج مِن الكفر والشرك إلى الإيمان والتوحيد، وتجعل العبد العاصي يُقبِل على ربه حياءً منه أن يَراه في مَخاضة الذنوب، فيتوب ويؤوب، والحمد لله.
• وإنَّ الحياء الفِطريَّ مِن الله تعالى هو مبعث "الحَيك" في النفس، الذي ورَد في التعريف النبوي للبرِّ والإثم؛ فقد روى مسلم عن النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البرِّ والإثم فقال: ((البرُّ حسْن الخلُق، والإثم ما حاكَ في صدرِكَ، وخشيتَ أن يطَّلع عليه الناس))، وفي لفظ: ((ما حكَّ في نفسك، وكرهتَ أن يطَّلع عليه الناس))؛ مع التأكيد على أن الحياء هو الحصن الأول، فإذا استبيح سقَط ما وراءه أو كاد، فلا بدَّ مِن تدعيمه بالقُدوة الصالِحة، والانتماء للمُجتمع المسلم، وغيرها.
وفي المقابل إذا كان الحصن الأول مَنيعًا، فتمكَّن الحياء الفطري من الإنسان، وتمَّت تقويتُه وتربيته بحيث يَستحيي هذا الإنسان مِن الله ربِّه ومِن عباد الله الصالحين، فإنه يقي من التدهوُر الأخلاقي للمُجتمع، وأكل الحقوق، والانحراف والفساد؛ ذلك أننا نُمثِّل خير أمة أُخرجَت للناس، ونحن شهداء الله في الأرض على دقَّة التشريع الرباني وصلاحه المُطلَق للكون والكائنات، فنستحيي مِن الله عزَّ وجل ومِن أنفسنا أن نكون شهداء زورًا على هذا الدِّين.
واقع الحياء بين العلم والتقصير:
في عِلم النفس: يتأثَّر الطفلُ بالمحيط في عمر سنتين وسطيًّا، ولكن البداية غالبًا تكون في عمر سنة أو أقل، وهو يختزن المؤثِّرات ليُعبِّر عنها فيما بعدُ، وفي التربية الإسلامية هذه الفترة من العمر - من الولادة وحتى نهاية السنة الثانية - هي التي تتنفَّس وتتجلَّى خلالها الفِطرة السليمة المرتبطة بنفخة الروح، والتي يولد طفلُكم عليها، ويتمُّ البناء وفقها من خلال المؤثرات والخبرات البيئية الصالحة والمُنسجِمة مع تلك الفطرة بفرعيها؛ المادي المحسوس، والمعنوي الفِكري (الإدراك)، وهذا يتحقَّق على أكمل وجه عندما يترعرَعُ الطِّفل في أسرةٍ أهلُها - ابتداءً - ناسٌ مِن الذين يشملهم قوله تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30].
وتُرشدنا مصادر التربية والتعليم إلى أهمية "القدوة" و"التقليد" في التعلُّم المبكِّر جدًّا في المنزل، وتجعل "التلقين" ثالثها بعد السنَة الثالثة من العمر، فانتبهوا لأعمالكم وأقوالكم أمام أطفالكم؛ آباءً كنتم أو مُربِّين في المدارس، وانتبهوا لأعمال وأقوال كلِّ مَن قد يتأثَّر به الطفل ولا يُبالي بالحياء، وما أكثرهم! مثل الممثلين - حتى في أفلام الكرتون - ولاعبي الكرة، ورفقة السوء حتى في المجتمع الطفولي ومجتمع الناشئين، وانتبهوا لكافة المؤثِّرات البيئية وكل ما ينزع الحياء الذي يَمنع أطفالكم من إتيان القبائح بالتعريف.
وبالمناسبة: حتى المصادر الغربية تُشير إلى الحياء الفِطريِّ كأحد مُكوِّنات ما تُسمِّيه: "براءة الطفولة"، وفي الثقافة العالمية (طب وعلم نفس الطِّفل) تُعتبَر الطفولة مرحلة البراءة واللعب البريء، وزوال البراءة - وأهم مكوناتها الحياء - يأتي في الطفولة المتأخِّرة[4] - حسب رأيهم المنحرف - ويتميز بتوسيع المُراهقين إدراكهم بالعالم مِن حولهم، بما فيه من شرور وآثام، ومع اختلافنا معهم إلا أن قوانينَهم قد تُقاضي الأهل إذا شاهد أطفالهم الأقنية المُخصَّصة للكبار، وهي تمنع الأطفال من الجلوس إلى التلفزيون ألبتَّة دون السنتين من العمر، وتوصي بأن تكونَ برامج الأطفال وأفلامهم مُنتقاة بحذر حتى سن السابعة[5]، وصحيح أنها قوانين أرضية يُطبِّقونها أو يُخالفونها، إلا أن الأسر المسلمة التي تنعم بتشريعات رب السماء يُشاهد أطفالها الجالسون مع أهلهم كلَّ شيء، بما فيه أفلام الكبار، وأكثرها مُخِلٌّ بالحياء الذي هو من الإيمان!حتى جحر الضبِّ لم نكتفِ بدخوله، بل يُسارع بعضُنا لإدخال الأطفال فيه، متوهِّمين أن أولئك سبقوا له مع أطفالهم!
وإنَّ ظاهرة زوال الحياء أسوأ بالنسبة لطفلة اليوم، وهي فتاة الغد، وهي أم المستقبل ومُربيَة الأجيال؛ ذلك أنهنَّ لَسْنَ كما يقال: نصف المجتمع، بل هنَّ المحضن الأول للتربية الصالحة، هنَّ الأمهات الوالدات والمُربيات للمجتمع والأمة، وهذا ينقلنا إلى حُجَّة التكليف.
• مُغالَطات حجَّة التكليف، وإنها لأمانة، ومن التضييع لها: إغماض الطرف عن تعرُّض الأطفال لأجواء سمعية وبصرية تُنافي الحياء، والأسوأ التساهل في ثياب يَلبسونها وأعمال يقومون بها تخدش الحياء إلى حدِّ تخريبه أحيانًا؛ حينما تَخرج الفتيات الصغيرات كاسيات عاريات؛ بحُجَّة عدم بلوغ سنِّ التكليف قياسًا على الصوم والصلاة، مع أنه قياس فاسد، وحُجَّة مردودة - ففي تلك الممارسات مخالفة مُجحِفة بحق الأطفال، واعتداء على الفطرة التي فطَرَهم الله عليها.
ممارَسات كانت تقضُّ مضجَعي، لا سيما أنني لم أكن أتوقعها في بيئات مسلمة وملتزمة، فأجد ربَّ أسرة مِن هؤلاء يصرُّ عليها، ثم يأتي بعد ذلك للأبناء الذين رُبُّوا على تلك الممارسات، ويطلب منهم في سنِّ التكليف دفعة واحدة التغيُّر (180) درجة، والاحتشام، وغضَّ البصر، و..، بعدها تسمعه يشتكي من أخطاء الأبناء القبيحة، ويبلُغ به الغمُّ مبلغه عندما يكتشف قلَّة حيائهم في تصرُّفات مخزية له أكثر منها لهم!
وأقول لكلِّ أم وأب: إن الطفل فطرةً يُصدَف عن المحرَّمات ودواعيها؛ فهو حييٌّ، وأُذكِّرهم ونفسي بأن التربية أمانة، بما فيها صون الحياء، والتدرُّج في التكاليف المرتبطة به؛ بالقُدوة والتقليد والتلقين، وإلا....
وتقع على المربين في البيت والمدرسة والمجتمع المسؤولية عن فشل مفاجأة التكليف تلك، وأنتَ لا تتوقَّع من طفلٍ في العاشرة لم يتلقَّ أي تعليم أن يُتقن مبادئ الرياضيات مثلاً فور دخوله السنة الحادية عشرة من عمره، ما لم تأخذه في التدرُّج بتعلُّمها منذ سنِّ الخامسة.
• عدم جواز تعريض الطفل لما يُذهب الحياء؛ فلقد تجاوز الأمر إهمال التربية على الحياء إلى إنكار عدم جواز تعريض الطِّفل لما يُذهب الحياء، الأمر الذي كنتُ أظنه بدهيًّا بين الملتزمين بالإسلام على الأقل، ولكن تتزايَد المشاهدُ المُنكَرة لبنات بملابس تصف وتشفُّ، وتصرُّفات يَستحي المار منها وهنَّ لا يستحين (بنات في التاسعة والعاشرة كأنهن في الخامسة عشرة)، ويناقش الأهل المسلمون في أنَّ هذا "عادي"؛ بحجة عدم التكليف، والسؤال: هل ترضى أن يشرب ولدك غير المكلَّف خمرًا؟ والجواب عادةً: "لا؛ خوفًا على صحته"، وأقول: إنَّ صحَّة النفس لا تقلُّ أهميةً عن صحَّة الجسم لو يعلمون، ومع ذلك تستمرُّ التجاوزات، وهي تخرج بالمُصِرِّ بعد العلم من الخطأ التربوي بعدم التدرُّج إلى الخطأ الشرعي بفعل ما لا يجوز؛ مِن التعدِّي على الحياء، وتعريض الطفل الذي لا حول له ولا قوة للمُحرَّمات، وهو ما نبَّه عليه علماؤنا منذ قرون؛ مثل: ابن القيِّم، الذي بيَّن أنَّ وليَّ الطفل (الأم والأب) مأمورٌ أن "يجنِّبَ ولده كل الموبقات، ولو لم يكن مكلَّفًا"، وضرب أمثلة فقال: "يُجنِّبهم اللواط، وشرب الخمر، والكذب، ولبس الحرير للذكور..."[6]، قلتُ: ولبس الثياب الكاشفة للبُنيَّات.
وعلَّل ابن القيِّم ذلك بقوله الرائع: "الصبيُّ وإن لم يكن مكلَّفًا فوليُّهُ مكلَّف، ولا يجوز له أن يُمَكِّنَهُ من الحرام؛ فإنه يَعتاده ويَعسُر فطامه عنه"، ذلك في زمنهم، فما بالك في زمننا الصعب، ونحن نتعرَّض لرياح السموم؟!
والطفل بدون حياء هو الناشئ المكلَّف الذي قد يَنتقِل فيما بعد مِن حُرمةٍ يراها المجتمع اليوم مخفَّفةً - مثل: الاختلاط باسم الصداقة والحب، ونزع حجاب الفتاة، والسُّخرية من الدين وأهله - إلى المحرمات الأشد التي تُسمى بغير اسمِها في الغرب، وصارتْ كذلك بين فَتياتنا وفِتْياننا؛ (مثل: الجنس قبل الزواج = الزنا، والمثلية الجنسية = اللواط / السحاق) مع شديد الألم[7].
الحياء والوازع الاجتماعي:
وهكذا يتراجع الحياء اليوم في المُجتمعات الإسلامية بشكل مُخيف؛ مخيف لأنه حصْنُ المقدمة للعفاف، وانهياره يترافق مع ظهور فِتَنٍ أخلاقيَّة، وانتِشار ظواهر أدناها خلْع الحِجاب، بعد خلْع الحياء، وأسوؤها الفُسوق والفُجور.
وبتدبُّر ذلك، نُدرك الارتباط بين الحياء والوازع الاجتماعي[8]، وهو ما نبَّهَنا إليه الحبيب بهذا الحديث الصحيح والحمد لله؛ عن سعيد بن يزيد الأزدي عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((أوصيك أن تستحي من الله تعالى كما تَستحي من الرجل الصالح من قومك))[9]؛ (صحيح الجامع الصغير؛ الألباني)، فهذا الحديث يُبيِّن التلازم الشديد بين الحياء وبين دور "الناس" في فعالية الوازع الاجتماعي، وتحديدًا أفراد المجتمع المسلم، كما في الحديث الصحيح المذكور عن النواس[10]، وهي علاقة تجعلُنا نتمسَّك بوجود صالِحي القوم بيننا؛ فصلاحهم يَزَعُنا حياءً عن ارتكاب المعاصي بإذن الله، وهذه مِن ألْطَفِ أسرار الاتِّزاع الأخلاقي.
ويَزيدها بيانًا ما رُوي عن أنس رضي الله عنه وهو قوله: "مَن لا يستحي من الناس لا يستحي من الله"[11]؛ إذ المرء عندما لا يَستحي من الناس يَستعلن بالإثم، فيكاد لا يترك سبيلاً لنفسِه للتراجُع حياءً من الله تعالى، وهذا يجعلنا نفهم كيف أن ذلك الحياء - الذي هو مِن أسرار نجاح الوازع الاجتماعي، ويجعل صاحبه يستجيب له - هو ذاته الذي يحتاج الإنسان إلى الوازع وأهله ليدعمه ويُقوِّيه إن ضَعف، وليستعيده إن أفسدته الذنوب.
والأسوأ القادم.. عندما يصبح الحياء عيبًا:
رغم أنَّ الحياء هو خلُق طبعي فطري، إلا أنه كأي فِطرة سليمة أخرى لا بدَّ مِن تنميتِه وتقويته بالتربية الإيمانية التي توجِّهه نحو طاعة الله وخشيته والحياء منه، ونحن مطالَبون اليوم بذلك أكثر من أي وقت مضى؛ لأنَّ هناك من يسعى لاستئصال هذا الخلُق مِن النفوس، ولتشويه تلك الفطرة السليمة مِن داخل مُجتمعاتنا وخارجها، وهم يُعلنون هذا على الملأ بإصرار، ويفعلونه بوقاحة!
فتجدهم مثلاً - فيما يُسمَّى برامج المنوَّعات - يقولون عن فتاة (في مُقتبَل العمر) تتقدم لمسابقة غناء مثلاً: "عيبها فقط أنها تستحي"!
ويَعرضون على الناس كيف حاول المدرِّب والمُزيِّن (الماكير)، و.. إلخ نزْعَ هذا الحياء منها! لا حول ولا قوة إلا بالله!
سبحان الله! أسأل نفسي:
هل يخطر لأحد أن يستأصل عينًا خلقها الله تعالى له ليبصر بها، ويقول: يكفي عين واحدة؟! أو يقطع إصبعًا، ويقول: يكفي أربعة؛ هذه زائدة؟! أو صيوانَ أذنٍ؛ لأن هناك مَن قال: هذا الصيوان هو عيب فلان؟! والحياء مكانته عظيمة، وقيمته لا تقارن بالماديات، ولكن نضرب مثلاً لنقربه.
وهل إذا نظرت فرأيتَ الجماهير تسير بصيوان أذنٍ مقطوع، أو أنف مجدوع، أو عين مقلوعة، تتخلى عن هذه النِّعمة التي حباك الله تعالى إياها، وتفعل فعلهم مِن غير ما بأسٍ سوى أنهم هكذا يفعلون؟!
عندما تضيع المفاتيح:
إذا أُضعف الحياء الفطريُّ، وغاب المثل الحي والقدوة الصالحة للتقليد والاتِّزاع بالنسبة لجميع الأخلاقيات، ومن بينها الحياء، وما يترتَّب عليه مِن ترْك قبائح، وأداء حقوق، وستْر عورات، وامتناع عن الفواحش كما عرَّفه ابن القيم - خلَتِ الساحة لوسائل مُفسدة تُزيل ما تبقَّى من حياء، وهيمنَتْ أدواتُ الفِسْق، فسيطرَت تلك الظاهرة على مُستوى الأخطاء اليومية الاجتماعية، وغطَّى الرانُ الفِطرةَ السليمة، فتحوَّل الفسق مِن ظاهرةٍ استِثنائية إلى فتنة أخلاقية تجرُّ شباب الأمة لمُستَنقعات الفحشاء والمنكر والبغي، لا سيَّما في حالات تفكك المجتمع؛ كالكوارث والنزاعات!
واليوم تلحُّ مِن جديدٍ أهميَّة استعادة القدوة الصالحة لوجودها ولدورها الفعال، وعندما تضعف تلك القدوة في هذه التركيبة الاجتماعية وتُغَيَّب، ويَضعف لغيابها الحياء الذي ((لا يأتي إلا بخير)) - حسب الحديث المتفق عليه[12] - فإنَّ خيرية الأمة تُصبح موضعَ شكٍّ، وحيث يَغيب الحياء تمامًا فلا شيء يبقى مِن خيرية أهل هذه القرية أو تلك، بل هو الظلم والتظالم، كيف لا وهو كما قال ابن قيم الجوزية - وافتتحنا به -: "خلُق يبعث على ترك القبائح، ويَمنع مِن التفريط في حق صاحب الحق"، "وهو الخلُق الذي لولاه لم يُقر الضيف، ولم يؤدَّ لعبدٍ أمانة، ولا سُتر له عورة، ولا امتنع عن فاحشة"؟!
وهذا يُذكرني - سبحان الله - بأنَّ أخْذ القرى الظالمة، إذا أخذها الله تعالى وهي ظالِمة، هو أخذٌ أليم شديد، بقدْر إيلام خلعهم للحياء وما ترتَّب عليه من مظالم وآثام؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]، أن تتحوَّل قرية بأكملها إلى أن تكون قرية ظالمة، وتُقيم على الظلم، رغم التذكير والإمهال من ربِّ العباد، هذا من أعظم الأدلَّة على أهمية "الوازع الاجتماعي"، وعلى ضرورة الصبر على هذا الوازع، والاتِّزاع بما يُرضي الله تعالى، وإلا حلَّ الدمار الأخلاقي، ولا خير بعده يُرتجى؛ قال الشاعر:
إذا قلَّ ماء الوجه قلَّ حياؤه = ولا خَيْر في وجهٍ إذا قلَّ ماؤه!
هذا إذا قلَّ، وكأن الشاعر العربي لا يتخيَّل أن يزول الحياء!
نفع الله به
[*] شرعت في البحث، وبقيتُ أؤجل إنجاز الموضوع على أهميته، حتى قرأتُ مِن واقع بلد مسلم تُقاوم فيه فئة مؤمنة أخرى كافرة مُسيطِرة تحكم عباد الله بالسجن والقتل - التالي: "في حافلة ركاب عامة دار حديث بين اثنين من جند الكفار المدنيين خلال استعراض صور "الصديقات" على الجوال، بألفاظ منع الحياء السامع مِن ذِكْرها، إلى أن قال أحدهما (ع): هذه الجميلة جدًّا محجبة! كيف اصطدتها؟! ردَّ (س): هذا الذي على رأسها اسمه حجاب، ولكنها "فِرِي" - منفتحة - سأل (ع): وماذا بعد؟ أجابه (س): سأترك النقطة وأذهَب لحاجز ثانٍ، هكذا اتفقتُ مع الضابط، وعندما أترك سأُرسل صورَها لأهلِها؛ فابن عمها يقف ضدنا، هم يُحارِبوننا بالجبهات، ونحن نحاربهم ببناتهم وأخواتهم"، سلاح النذالة والجبن نضعه نحن في أيديهم ليُصيبونا به في مقتل، غفرانك ربنا!
[1] بعضُ العلماء يجعل الحياء صِنفيْنِ؛ فطريًّا (أو غريزيًّا)، ومُكتسبًا، ولكنني أرى - والله أعلم - أنَّ الحياء غريزة فطَرَنا الله عليها، وتتمُّ تقويتها وتوجيهها بالاكتساب كما أشرتُ، أو على العكس: يتمُّ قمْعُها وتشويهها بالإفساد للفطرة السليمة عمومًا، أو لهذه الغريزة بالذات، وتجد في كتُبِ علم النفس أنَّ أولى أمارات الحياء تبدأ مُبكِّرًا، وتُصبح واضحةً في عُمر سنَة؛ وللوراثة دورٌ في شدة الاستِحياء عند الطفل، والتي تغدو قابلة للتوجيه سلبًا أو إيجابًا بعمر ثلاث سنوات؛ حيث يظهر دور البيئة بوضوح.
[2] مختصر مدارج السالكين؛ لابن قيِّم الجوزية، اختصرَه الشيخ: خالد العك، المكتب الإسلامي بيروت.
[3] عن كتاب: مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد؛ تأليف: عدنان حسن صالح باحارث، (ص: 173 - 175)، دار المجتمع للنَّشر والتوزيع، ط: الخامسة، 1996.
[4] يمتدُّ سن الطفولة بيولوجيًّا بين الولادة والبلوغ، واعتباريًّا حتى النضوج، ويقسم - مع وجود اختلاف يسير من مصدر لآخر - إلى:
1 - الطفولة المبكِّرة:
أ) سن الرضاعة: حتى السنتين.
ب) مرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية: مِن سن الثالثة حتى السابعة.
وفي هذه المرحلة يتعلم الطفل بواسطة التأمل والملاحظة تكوين الخبرات (التجربة)، والتواصل مع الآخرين.
2 - الطفولة المتوسطة: وتغطِّي سنَّ المدرسة: منذ الـ(7 - 8) سنوات وحتى بداية البلوغ.
3 - الطفولة المتأخِّرة: المراهقة: منذ بدء البلوغ حتى النُّضج، حين يصبح المراهق راشدًا ومسؤولاً، وهي نهاية فترة الطفولة بالكامل، وتختلف باختلاف الثقافات ما بين السادس عشر إلى الحادي والعشرين، لكن الثامن عشر هو العمر الشائع لانتهاء الطفولة، والمعتَمَد قانونيًّا من المنظمات الدولية.
[5] والنص الكامل لهذا القانون في طب الطفل: "لا تلفزيون في عمر سنتين وما دون، ويجب الإشراف المباشر على المشاهَدة حتى سن السابعة، ولا تلفزيون في غرف الأطفال"، وذلك وفق أبحاث ومصادر منها منشورات "الأكاديمية الأمريكية لطب الطفل" according to research by the American Academy of Pediatrics (AAP
[6] الأستاذ عبدالرحمن النحلاوي، كتاب: التربية الاجتماعية (ص: 193)، نشر دار الفكر، دمشق.
وفطرة الحياء ليست كالصوم والصلاة، وحتى هذه العبادات يؤخذ الأطفال فيها بالتدرج كما في الهدْي النبوي: ((مُروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين))، وأورده أبي رحمه الله مُثنيًا على كلام ابن القيم في كتابه المذكور "التربية الاجتماعية"، رحمهما الله وجمعني وإياهما تحت ظلِّه، وانظر كتابه: أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع، وكتابي: "الثابت والمتغير" فصل الثوابت والتغيير المدمِّر (ص: 51)، ثم القسم العملي (ص: 126)، عنوان: بين ثابت تحريم الزنا واللواط ومتغيِّر الجنس قبل الزواج والمثلية الجنسية.
[7] السابق نفسه.
[8] كتاب: الوازع الاجتماعي؛ د. غنية النحلاوي، مخطوط.
[9] صحَّحه الألباني كما أوردتُه في المتن، (ص: 343)، مج، الثاني، برقم: 2538.
[10] حديث: ((الإثم ما حاك..))؛ رياض الصالحين، باب: حسْن الخلُق، رقم الحديث: 624، مراجعة الشيخ شعيب الأرناؤوط، وقال: رواه مسلم وأخرجه الترمذي.
[11] قول أنس، (ص: 63)؛ جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة، 1963.
[12] رياض الصالحين؛ للإمام النووي، مرجع سابق، الحديث رقم: (682)، كتاب الأدب، باب الحياء، رقم: 84.
التعليقات