اقتباس
الكفار أَيِسوا من رجوع المسلمين عن إسلامِهم إلى دين الكفر؛ فالرسول نَسَب الإياس إلى الشيطان، ولَم يقل: إنَّ الله آيَسَه؛ فالإياس الحاصل من الشيطان، لا يَلزم تحقيقُه واستمرارُه، ولكنَّ عدوَّ الله لَمَّا رأى...
روى ابن ماجه في سُنَنه عن شَبيب بن غَرْقَدةَ، عن سليمان بن عمرو بن الأحْوَص، عن أبيه، قال: سَمِعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في حَجَّة الوداع: "يا أيُّها الناس، ألا أيُّ يوم أحرمُ؟" ثلاثَ مرَّات، قالوا: يوم الحجِّ الأكبر، قال: "فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضكم، بينكم حرامٌ كحُرمة يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا، ألا لا يَجْنِي جانٍ إلاَّ على نفسه، ولا يَجْنِي والدٌ على ولدِه، ولا مولودٌ على والده، ألا إنَّ الشيطان قد أَيِس أن يُعبد في بلدِكم هذا أبدًا، ولكن سيكون له طاعةٌ في بعض ما تَحتقِرون من أعمالكم، فيَرضى بها، ألا وكلُّ دمٍ من دماء الجاهليَّة موضوعٌ، وأوَّل ما أضَع منها دَمَ الحارث بن عبدالمطَّلب، كان مُسترْضِعًا في بني ليثٍ، فقتَلتْه هُذَيل، ألا وإنَّ كلَّ ربًا من ربا الجاهليَّة موضوعٌ، لكم رؤوسُ أموالِكم، لا تَظلِمون ولا تُظلَمون، ألا يا أُمَّتاه، هل بلَّغتُ؟" ثلاثَ مرَّات، قالوا: نعم، قال: "اللهمَّ اشْهَد" ثلاث مرَّات.
قوله: "يا أيها الناس، ألا أيُّ يوم أحرمُ" ثلاثَ مرَّات:
أحرم؛ أي: أشدُّ حُرمة، كرَّرها ثلاث مرَّات؛ اهتمامًا بها، وبما ستُرَتِّبه عليها من قوله: "فإنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم بينكم حرامٌ، وكما تقدَّم بيانُه في حديث جابر، وفيه دليلٌ على أنَّ يومَ الحجِّ الأكبر هو يوم النَّحر؛ كما اختارَه جمعٌ من المُحَقِّقين، منهم: العلاَّمة ابن القَيِّم، وغيره.
وقوله: "ألا لا يَجنِي جانٍ إلاَّ على نفسه"، قال في النهاية: "الجِناية: الذَّنب والجُرْم، وما يَفعَله الإنسان مما يوجِب عليه العذابَ، أو القِصاص في الدنيا والآخرة.
المعنى: أنه لا يُطالَب بجِناية غيرِه من أقاربه وأباعده، فإذا جَنَى أحدُهم جِنايةً لا يُعاقَب بها الآخر؛ كقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الأنعام: 164]، وقوله -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)[المدثر: 38].
فالمرءُ له حسناتُه وأعماله الصالحة، وعليه جريمة ما يَرتكبه من ذنبٍ أو جنايةٍ في: دَمٍ، أو مالٍ، أو عِرضٍ.
قوله: "ولا يَجنِي والدٌ على ولدِه، ولا مولودٌ على والدِه".
المراد: النهي عن الجِناية عليه؛ لاختصاصها بمزيد قُبْحٍ، وأن يكونَ المرادُ تأكيدَ: "لا يَجني جانٍ إلاَّ على نفسه"، فإنَّ عادَتهم جرَتْ بأنهم يأخذون أقاربَ الشخص بجِنايته، والحاصل أنَّ هذا ظلمٌ يؤدِّي إلى ظُلم آخرَ، والأظهر أنَّ هذا نفيٌ، فيُوافق قوله -تعالى-: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الأنعام: 164]، وإنما خصَّ الولدَ والوالد؛ لأنهما أقربُ الأقارب، فإذا لَم يُؤاخَذَا بفِعلهما، فغيرُهما أَوْلَى، وفي رواية: "لا يُؤْخَذ الرجُل بجريمة أبيه".
فإذا كان هذا بين الوالد وولده، فغيرُهما من الأقارب بطريق الأَوْلَى، من أنه لا يُؤْخَذ أحدٌ بذنب أحدٍ، وإنما يُؤْخَذ الشخص بفِعله.
قوله: "ألا إنَّ الشيطان قد أَيِسَ أن يُعبَد في بلدِكم هذا أبدًا"؛ أي: إنه أَيِس بنفسه بالبناء للفاعل لا بالبناء للمفعول، وهو أنه لَمَّا رأى انتشارَ الإسلام ودخولَ الناس في دين الله أفواجًا، أَيِسَ أن يُعبَد في جزيرة العرب، وعبادتُه: طاعتُه بنوعٍ من أنواع الكفر؛ كما قال -تعالى-: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ)[يس: 60]؛ أي: ألاَّ تُطيعوه، وهذا من جنس قوله -تعالى-: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ)[المائدة: 3].
فإن الكفار أَيِسوا من رجوع المسلمين عن إسلامِهم إلى دين الكفر؛ فالرسول نَسَب الإياس إلى الشيطان، ولَم يقل: إنَّ الله آيَسَه؛ فالإياس الحاصل من الشيطان، لا يَلزم تحقيقُه واستمرارُه، ولكنَّ عدوَّ الله لَمَّا رأى ما ساءَه من ظهور الإسلام في جزيرة العرب وعُلُوِّه أَيِس مِن تَرْكِ المسلمين دينَهم الذي أكرَمهم الله به، ورجوعِهم إلى الشِّرك الأكبر.
فالكل يَئِسَ من ارتداد المسلمين وتَرْكهم دينَهم، ولا يَلزم من ذلك امتناعُ وجود الكفر في أرض العرب؛ ولهذا قال ابنُ رجب على الحديث: "إنَّ الشيطان يَئِس أن تُجمع الأُمَّةُ على أصْل الشِّرك الأكبر، يوضِّح ذلك ما حصَل من ارتداد أكثرِ أهل الجزيرة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- وقتال الصِّدِّيق والصحابة لهم على اختلاف تنوُّعهم في الرِّدَّة، وقال أبو هريرة: "لَمَّا مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان أبو بكرٍ، وكفَر مَن كفَر من العرب، ورِدَّة بَني حَنِيفة،....إلخ".
ولا دَلالة في هذا الحديث لِمَن قال بعدم وقوع الشِّرك في جزيرة العرب، فوقوع الشِّرك فيها معلومٌ بالضرورة؛ كارتِداد الكثير في جزيرة العرب، وكُفر مُسَيلِمة وأصحابه، والأسود العَنسي، وأمثالهم كثير، فهل يُقال: إنهم ليسوا بكفَّار، بناءً على حديث: "إنَّ الشيطان أَيِس أن يُعبد في جزيرة العرب"، أعتقد أنه لا قائلَ بهذا.
وأيضًا ما يَفعله بعضُ هذه الأُمَّة عند القبور من الذَّبح لها والنَّذر، وسؤالِها تفريجَ الكُربات، وكَشْفَ الشدائد، وطلبِ المَدَد من أصحابها؛ فهذا هو الشِّرك بعينه المنافي للتوحيد.
قال البخاري في صحيحه باب تغيُّر الزمان حتى تُعبد الأوثان: حدَّثنا أبو اليمان، أخبَرنا شُعيب عن الزُّهْري، قال: قال سعيد بن المُسَيَّب: أخبَرني أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: "لا تقومُ الساعة حتى تَضطربَ أَلَيَاتُ نساء دَوْسٍ على ذي الخَلَصَة"، وذُو الخَلَصَة طاغية دَوْسٍ التي كانوا يعبدون في الجاهلية.
وفي معنى هذا الحديث ما أخرَجه الحاكم عن عبدالله بن عمرو، قال: "لا تَقوم الساعة، حتى تُدافع مناكبُ نساء بني عامر على ذي الخَلَصَة"، وابن عَدِي من رواية أبي معشر، عن سعيد، عن أبي هريرة رفَعه: "لا تَقوم الساعة حتى تُعبد اللات والعُزَّى".
وعلى قول مَن زعَم أنَّ هذه الأُمَّة لا يقعُ فيها شِرْكٍ -استنادًا منه إلى حديث: "إنَّ الشيطان أَيِس أن يُعبَد في جزيرة العرب"- يَلزم منه أنَّ الصحابة أخْطَؤُوا في قتال مُسَيْلمة والأسود العَنسي، وأمثالهم ممن ارْتَدَّ عن الإسلام، وقد ثبَت في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تَقوم الساعة، حتى تُعبد اللات والعُزَّى".
وفي الحديث الصحيح أيضًا من خَبر الدَّجَّال: أنه لا يَدخل المدينة، بل يَنزل بالسَّبخة، فتَرجُف المدينة ثلاثَ رَجَفات، فيَخرج منها كلُّ كافرٍ ومنافق، فأخبَر أنَّ في المدينة إذ ذاك كفَّارًا ومنافقين.
وقوله: "ولكن سيكونُ له طاعةٌ في بعضِ ما تَحتقِرون من أعمالكم، فيَرضَى بها"؛ أي: دون الكفر؛ من القتل والنَّهب، ونحوهما من الكبائر، وتحقير الصغائر، فيَرضى بصيغة المعلوم؛ أي: الشيطان، بها؛ أي: بالمُحْتَقَر؛ حيث لَم يَحصل له الذنبُ الأكبر الذي هو الكفر؛ ولهذا ترى المعاصيَ -من الكذب، والخيانة، والغشِّ، ونحوها- تُوجَد كثيرًا في المسلمين، وقليلاً في الكافرين؛ لأنه قد رَضِي من الكفَّار بالكفر، فلا يُوَسْوِس لهم في الجزئيَّات، بخلاف المسلمين يَرمِيهم في المعاصي؛ لعدم حصوله منهم على الكفر.
رُوِي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "الصلاة التي ليس لها وَسْوسة، إنما هي صلاة اليهود والنصارى"؛ لأنها لا تَنفعهم، وغيرُ صحيحةٍ من أصلها؛ لوجود ما يُنافيها وهو الكفر، ومن الأمثال: "لا يدخلُ اللصُّ في بيتٍ إلاَّ فيه متاعٌ نفيسٌ.
فالشيطان كاللصِّ لا يدخل البيوت الخَرِبة، وهم الذين صدَر منهم الكفر، وإنما يدخل البيوت التي فيها أمْتَعِة ثمينة يريد انتهابَ شيءٍ منها ولو قليلاً؛ لعدم تمكُّنه مِن أخْذ المَتاع كلِّه.
قوله: "ألا وكلُّ دَمٍ من دماء الجاهليَّة موضوعٌ"، أبطَل ما بين الناس في جاهليَّتهم من الدماء، وكذا بَيْعاتهم الفاسدة التي لَم يتَّصل بها قَبْضٌ، وبدَأ في ذلك بأقاربه الأَدْنَيْن؛ ليكون أوْقَعَ في نفوس السامعين، وأَهْيَأَ لقَبولهم؛ فإن الآمرَ الناهي إذا بدَأ بنفسه وبأهله -فيما يأمرُ به، وما يَنهَى عنه- صار لعِظَته وَقْعٌ في النفوس، بقَبول ما يأمرُ به، وما يَنهَى عنه، بخلاف إذا كان يُخالف ما يحضُّ به، ويأمر ويَنهَى الناس عنه، فلا يكون لكلامه في النفوس القَبول التامُّ.
قوله: "ألاَ يا أُمَّتاه، هل بلَّغتُ" ثلاثَ مرَّات، قالوا: نعم، قال: "اللهمَّ اشْهَد" ثلاثَ مرَّات -تقدَّم شرحُ هذا الحديث في خُطبته يومَ عرَفَة-، واستشَهد اللهَ عليهم ثلاثَ مرَّات، حين اسْتَنْطَقهم بتبليغه لهم، واعترافهم بذلك، فلقد بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانة، ونصَح الأُمَّة، وجاهَد في الله حقَّ جهاده، فما توفِّي إلاَّ وقد أكمَل اللهُ به الدِّينَ، وبلَّغ البلاغ المُبين.
التعليقات