عناصر الخطبة
1/ الحكمة ضالة المؤمن 2/ أثر وجود الحكمة لدى المسلمين 3/ معنى الحكمة 4/ نماذج من الحكمة النبوية 5/ في أي شيء نحتاج الحكمة؟!اهداف الخطبة
اقتباس
والحكمة نعمة أنعم الله بها على عباده فقال -عز وجل-: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)، وللحكمة معانٍ عديدة في القرآن الكريم، فقد وردت بمعنى الفهم والعلم، قال سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ)، وتأتي أيضًا بمعنى النبوة، قال -تبارك وتعالى-: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)، وإذا جاءت مقرونة بالقرآن فتأتي بمعنى السنة؛ قال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلِّمها".
الحكمة ضالة المؤمن؛ أينما وجدها فهو أحق الناس بها، الحكمة نعمة من الله وفضل وعطاء يؤتيه من يشاء من عباده: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)، فربنا -جل وعلا- هو الحكيم، والحكمة صفة من صفاته، تجول ببصرك فيما حولك من الحياة والأحياء هل ترى مظهرًا للهو والعبث؟!
الله هو الحكيم في أقواله، الحكيم في أفعاله، حكيم في خلقه، حكيم في أمره: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). خلقنا بقدرته، وجعل لخلقه حكمة وغاية، ما خلق عباده عبثًا ولن يتركهم سدى، فما الحكمة؟! وما أركانها؟! وفي أي شيء نحتاج إلى الحكمة؟!
كم من قلوب قاسية لانت بسبب الحكمة؟! وكم من قلوب صافية طاهرة انكسرت ولم تلتئم جراحها من سنين بسبب الطيش والعجلة وعدم الحكمة؟! كم من نفوس شاردة عاصية أقبلت على ربها واصطلحت على مولاها بسبب الحكمة؟! وكم من عصاة بالغوا في عصيانهم وشردوا عن ربهم بسبب عدم الحكمة؟! كن حكيمًا وتعلم الحكمة، وادع الله أن يرزقك الحكمة، فهي رأس مال العقلاء. فكم من سفيه لا عقل له خرَّب بيته وضيع ماله وأهدر كرامته وجرَّأ عليه السفهاء والحمقى لأنه لم يكن حكيمًا.
ما الحكمة؟! الحكمة هي فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي، وأركانها: العلم والحلم والأناة، وآفاتها وأضدادها: الجهل، والطَّيش، والعجلة. فلا حِكْمَة لجاهل، ولا طائش، ولا عجول. ورأس الحكمة مخافة الله.
والحكمة نعمة أنعم الله بها على عباده فقال -عز وجل-: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)، وللحكمة معانٍ عديدة في القرآن الكريم، فقد وردت بمعنى الفهم والعلم، قال سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ)، وتأتي أيضًا بمعنى النبوة، قال -تبارك وتعالى-: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)، وإذا جاءت مقرونة بالقرآن فتأتي بمعنى السنة؛ قال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
قف طويلاً في السيرة لترى حكمة النبي –صلى الله عليه وسلم-، وهذه شواهد تنضح بحكمته:
عندما اختلف أهل مكة فيمن يحظى بوضع الحجر الأسود في مكانه عند إعادة بناء الكعبة واحتكموا إليه أشار -صلى الله عليه وسلم- عليهم بوضعه في رداء وأن يمسك رجل من كل قبيلة طرفًا منه، فاستحسنوا رأيه الحكيم ووافقوا عليه، فجنبهم بحكمته الخلاف والنزاع.
وبعد البعثة تجلت حكمته -صلى الله عليه وسلم- في حسن معاملته لمن حوله سواء من آمن به واستجاب لدعوته أو من خالفه ولم يؤمن به، هل دعا بالهلاك على أهل الطائف وهم الذين ضربوه بالحجارة حتى سال عرقه ودمه، وأبى أن يدعو عليهم بل قال: عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا. هل نفعل هذا مع من آذونا؟!
وعندما فتح مكة وسمع أحد أصحابه يقول: اليوم يوم الملحمة، أي الانتقام والثأر، فأبى هذا المنطق وخاطب أهل مكة وهم الذين طردوه وتآمروا على قتله وقتلوا أصحابه أمام عينيه وحاربوه سنين طويلة وألبوا عليه القبائل، قال: "ما تظنون أني فاعل بكم؟!"، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
كيف آخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة فأقام أمة متراحمة تعبد ربًا واحدًا؟!
روى أحمد بسند جيد عن أبي أمامة أن شابًا قال: يا نبي الله: ائذن لي في الزنا، فصاح الناس به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قرّبوه، اُدْن"، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتحبه لأمك؟!"، فقال: لا، جعلني الله فداك! قال: "كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟!"، قال: لا، جعلني الله فداك! قال: "كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم. أتحبه لأختك؟!"، وزاد ابن عوف: حتى ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحد: لا، جعلني الله فداك! وهو -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كذلك الناس لا يحبونه"، وقالا جميعًا في حديثهما -أعني ابن عوف والراوي الآخر-: فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على صدره وقال: "اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه". فلم يكن شيء أبغض إليه منه، يعني الزنا.
في أي شيء نحتاج الحكمة؟!
أولاً: الدعوة إلى الله: ليتنا نتعلم كيف ندعو ومن ندعو وما الذي ينبغي قوله، وهل كل ما جاز قوله جاء أهله؟! وهل كل ما جاء أهله حان وقته؟! ومن الحكمة أن يأخذ أهل العلم بعين الاعتبار عند مخاطبة الناس تفاوتهم في مداركهم ومراعاة مراتب عقولهم في إدراك الحقائق وتصور الأمور، قال عبد الله بن مسعود: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". قال الشافعي: "مَن وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه". رواه أبو نعيم في الحلية (9/140).
وأنشد الشافعي -رحمه الله-:
تعمدني بنصحكَ في انفرادي *** وجنبني النصيـحةَ في الجماعة
فـإنَّ النصحَ بينَ الناسِ نوعٌ *** منَ التوبيخِ لا أرضى استماعه
وإنْ خـالفتني وعصيتَ قولي *** فلا تجـزعُ إذا لمْ تعطَ طاعه
عندما أرسل الله كليمه موسى -عليه السلام- وأخاه هارون إلى فرعون بماذا نصحهما: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، وبَيْنَمَا الرَّشِيدُ هَارُونُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ؛ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَكَ بِكَلَامٍ فِيهِ غِلَظٌ؛ فَاحْتَمِلْهُ لِي. فَقَالَ: "لَا، وَلَا نِعْمَةُ عَيْنٍ وَلَا كَرَامَةٌ، قَدْ بَعَثَ اللهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ إِلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولُ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا". المجالسة وجواهر العلم لابن عبد البر (3/364).
قال زاذان: كنتُ غلاماً حسنِ الصوتِ، جيِّد الضربِ بالطُّنْبُور، فكنت مع صاحبٍ لي، وعندنا نبيذٌ، وأنا أغنِّيهم؛ فمر ابنُ مسعودٍ –رضي الله عنه- فدخل فضرب الباطِيَةَ -كل إناء يجعل فيه الخمر- بدَّدَها، وكسر الطنبور، ثم قال: لو كان ما يُسمَعُ من حُسنِ صوتك -يا غلامُ- بالقرآن كنت أنتَ أنتْ، ثم مضى. فقلتُ لأصحابي: من هذا؟! قالوا: هذا ابنُ مسعود؛ فألقى في نفسي التوبة، فسعيت أبكي، وأخذتُ بثوبه، فأقبل عليّ فاعتنقني وبكى، وقال: مرحبًا بمن أحبه الله، اجلس؛ ثم دخل وأخرج لي تمرًا. قال زبيد: رأيت زاذان يصلي كأنه جِذْع.
ثانيًا: التعليم: روى مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال: "صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وا ثكل أماه، ما شأنكم تنظرون؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فعرفت أنهم يصمتونني، فلما رأيتهم يسكتونني سكت. قال: فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي وأمي ما ضربني ولا سبني". وفي رواية: "فما رأيت معلمًا قط أرفق من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال: "إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".
ويذكر أنه في زمن أبي جعفر المنصور، دخل عليه رجل مجوسي يدعي الإيمان. فقال: إن رائحة الطائفين حول الكعبة تزعج البعض، فلو وضعت على ظهر الكعبة بخوراً وناراً فإذا هبت الريح شم الناس ريحاً طيباً. فأمر الخليفة بفعل ذلك. وهذه قضية المجوس: الطواف وعبادة النار. فبلغ ذلك العالم يزيد بن النقاش، فقال: انشروا بين الناس أني ذاهب للحج.
فقال أبو جعفر: نذهب معه لنتعلم منه، فتواعد كلاهما أن يلتقيا في التنعيم ليلقي أبو اليزيد درساً في مناسك الحج. فاجتمع الناس وفيهم أبو جعفر. فقال أبو اليزيد: "إذا قلت: أما بعد، استوقفني. واحمد الخليفة أنه فعل كذا وكذا، حتى إنه وضع البخور على ظهر الكعبة. فبدأ أبو اليزيد حديثه، فحمد الله ثم قال: أما بعد. فاستوقفه المريد وقال ما أمره به أبو اليزيد.
فقال أبو اليزيد: اخسأ يا هذا، أأنت أفقه من أمير المؤمنين؟! أمير المؤمنين أفقه مني ومنك وأعلم بكتاب الله مني ومنك. كيف تدّعي على أمير المؤمنين كذباً أنه يفعل كما تفعل المجوس؛ نطوف حول النار!! وانفعل أبو اليزيد حتى قال أمير المؤمنين لأحدهم: اذهب بسرعة وأنزل البخور وأطفئوا النيران". فانتهى الأمر بأدب، دون تجريح لأحد.
ثالثًا: بين الزوجين: كم كان للحكمة من أثر عظيم في حفظ البيوت واستقرارها وعلاج ما قد يطرأ بينهما حتى تدوم المودة والرحمة بينهما!!
وهذا درس للأصهار يتعلمونه من حياة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وكيف كان حنانه وحرصه على ابنته واستقرار بيتها وهي التي بقيت له بعد موت أمها وأخواتها، ما كان لعلي -رضي الله عنه- اسم كنية أحب إليه من أبي تراب، وإن كان ليفرح به إذا دعي بها، روى البخاري عن سهل بن سعد قال: جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت فاطمة، فلم يجد علياً في البيت، فقال: "أين ابن عمك؟!". فقالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني فخرج فلم يقل عندي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإنسان: "انظر أين هو". فجاء فقال: يا رسول الله: هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله وهو مضطجع. قد سقط رداؤه عن شقه فأصابه تراب، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسحه عنه وهو يقول: "قم أبا تراب، قم أبا تراب". وتهلل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما أصلح بينهما.
فالخلاف وارد في البيوت الزوجية، وليس ذلك مدعاة ليحرض أهل الزوجين كل منهما طرفه على الآخر ويقف في صفه خصمًا للآخر، وإنما يقتدي بنبيه -صلى الله عليه وسلم- حينما جعل نفسه كالأب الحنون الشفيق على الطرفين فأصلح ما بينهما.
كم من بيت كاد أن ينهدم بسبب خلاف تافه بين الزوج والزوجة، وكاد الطلاق يعصف بالبيت ومن فيه؟! وإذا بهذا المصلح الصالح بكلمة طيبة ونصيحة حانية وربما مال مبذول يصلح به بين زوجين ويمسك بيتًا مسلمًا متماسكًا خشية الانهيار.
كم من قطيعة كادت أن تكون بين أخوين أو صديقين أو قريبين بسبب زلة أو هفوة، وإذا بهذا المصلح الصالح يطفئ نار الفتنة والقطيعة ويصلح ما بينهما..
كم عصم الله بالمصلحين من دماء وأموال؟! كم أطفئ بهم نار فتن ومكائد شيطان كادت أن تشتعل لولا فضل الله ثم المصلحين؟!
وهذا موقف آخر داخل بيت النبوة كيف كان فيه الإصلاح برفق ولين ورحمة، روى أبو داود عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- فسمع صوت عائشة عالياً، فلما دخل تناولها ليلطمها وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله، فجعل النبيُّ يحجزه، وخرج أبو بكر مغضباً. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين خرج أبو بكر: "كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟!".
قال: فمكث أبو بكر أياماً، ثم استأذن على رسول الله فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد فعلنا، قد فعلنا".
حقًّا هذه هي أخلاق الأصهار، فلا خصومة ولا عراك، ولا وحشة ولا قطيعة، فالكلمة الطيبة بلسم يشفي الجروح الغائرة ويداوي علل النفوس المستعصية، ويؤلف بين القلوب من أقصر طريق وأوضح سبيل. الكلمة الطيبة صدقة، والمؤمن هين لين سهل، والله يبغض الرجل الألد الخصم، العنيد الغليظ الجافي.
رابعًا: في القضاء بين الناس: روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صوت خصوم بالباب، عالية أصواتهما، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج عليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟!". فقال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب. وفي لفظ البخاري أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد دَيْنًا له عليه، في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كشف سجف حجرته، ونادى: "يا كعب بن مالك، يا كعب". قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن: "ضع الشطر من دَيْنك". قال كعب: قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قم فاقضه".
يا صاحب الدَيْن: قد يكون المدين معسرًا مكروبًا فلا تزده هلاكًا على هلاكه، واصبر عليه وارفق به، أو ضع عنه جزءًا من دينه رحمة به، أو أنظره إلى حين ميسرة، ويا من رأى بين المسلمين مثل هذا: كن مسارعًا في الخيرات مقتديًا بنبيك، وأصلح ما بين المسلمين واشفع للمكروبين بكلمة طيبة، اشفعوا تؤجروا ويقضي الله ما يريد.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود -عليه السلام- فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود -عليهما السلام- فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقُّه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل -يرحمك الله-، هو ابنها، فقضى به للصغرى".
وهذا عمر بن الخطاب أتته امرأة فشكرت عنده زوجها وقالت: هو من خير أهل الدنيا؛ يقوم الليل حتى الصباح، ويصوم النهار حتى يمسي، ثم أدركها الحياء فقال: جزاك الله خيرًا فقد أحسنت الثناء، فلما ولت قال كعب بن سور: يا أمير المؤمنين: لقد أبلغت في الشكوى إليك، فقال: وما اشتكت؟! قال: زوجها، قال: علي بهما، فقال لكعب: اقض بينهما، قال: أقضي وأنت شاهد؟! قال: إنك قد فطنت إلى ما لم أفطن له، قال: إن الله تعالى يقول: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ)، صم ثلاثة أيام وأفطر عندها يومًا وقم ثلاث ليال وبت عندها ليلة، فقال عمر: هذا أعجب إليّ من الأول، فبعثه قاضيًا لأهل البصرة. فكان يقع له في الحكومة من الفراسة أمور عجيبة، وكذلك شريح فراسته وفطنته.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا وحبيبنا وشفيعنا محمد، وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
روى البخاري عن ابن عباس قال: ضمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى صدره وقال: "اللهم علّمه الحكمة".
ما أغلى هذه الضمة وما أكرمها من نبي كريم رؤوف رحيم بأمته، يعلمنا كيف ينتقل العلم من القلب إلى القلب فينشرح له الصدر وتستنير به البصيرة.
ومما يدل على براعة ابن عباس في فهم القرآن ما جاء: أن ابن عباس دخل على معاوية فقال له معاوية: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فلم أجد لنفسي خلاصًا إلا بك. فقال: وما هي؟! فقرأ معاوية هذه الآية وقال: أو يظن نبيء الله أن الله لا يقدر عليه؟! قال ابن عباس: هذا من القدر لا من القدرة؛ يعني التضييق عليه.
من الحكمة في نزول القرآن التدرج في الأحكام فلم يحرم الخمر دفعة واحدة وإنما جاء تحريمها على ثلاث مراحل، ونزل القرآن منجمًا خلال ثلاثة وعشرين عامًا ولم ينزل جملة واحدة، هذا كله تعليم للأمة أن تفهم عن الله منهج الحكمة في الفهم والتعلم والحكمة في التطبيق والعمل، والحكمة في البلاغ والدعوة.
أخرج أبو الشيخ الأصبهاني: قال: خرج عمر بن الخطاب، فإذا هو بضوء نار، ومعه عبد الله بن مسعود، قال: فاتبع الضوء حتى دخل دارًا، فإذا سراج في بيت، فدخل، وذلك في جوف الليل، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقينة تغنيه، فلم يشعر حتى هجم عليه، فقال عمر: "ما رأيت كالليلة منكرًا أقبح من شيخ ينتظر أجله"، فرفع الشيخ رأسه إليه، فقال: "بلى، يا أمير المؤمنين، ما صنعت أنت أقبح، إنك قد تجسست، وقد نهي عن التجسس، ودخلت بغير إذن"، فقال عمر: صدقت، ثم خرج عاضا على يديه يبكي، قال: "ثكلت عمر أمه إن لم يغفر له ربه، يجد هذا، كان يستخفي هذا من أهله، فيقول: الآن رأى عمر فيتتابع فيه"، قال: وهجر الشيخ مجالس عمر حينًا، فبينما عمر بعد ذلك بعيد جالس، إذا هو به قد جاء شبه المستخفي، حتى جلس في أخريات الناس، فرآه عمر، فقال: "عليّ بهذا الشيخ"، فقيل له: أجب. فقام وهو يرى أن عمر سينبئه بما رأى، فقال له عمر: "ادن مني"، فما زال يدنيه حتى أجلسه بجانبه، فقال: "أدن مني أذنك، فالتقم أذنه"، فقال: "أما والذي بعث محمدًا بالحق رسولاً، ما أخبرت أحدًا من الناس بما رأيت منكرًا، ولا ابن مسعود، فإنه كان معي" فقال: "يا أمير المؤمنين: أدن مني أذنك، فالتقم أذنه، فقال: ولا أنا والذي بعث محمدًا بالحق رسولاً، ما عدت إليه حتى جلست مجلسي، فرفع عمر صوته فكبر"، ما يدري الناس من أي شيء يكبر.
التعليقات