عناصر الخطبة
1/ ضرورة قبول الحق والانقياد له 2/ أحوال القلوب عند ورود الحق 3/أمة محمد أولى الأمم باتباع الحق 4/ ما ترك أحد الحق إلا جرته الشياطين 5/ منهج البحث عن الحق 6/ معاني الحق وسُبل الوصول إليه 7/ صور وألوان من الباطل.اقتباس
وإن ظهور الباطل وبقاءه منتفشاً فترة من الزمن, ليس معناه أن الله تاركه, أو أنه من القوة بحيث لا يغلب, أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً, أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه, كلا, إنما هي حكمة وتدبير من الحكيم الخبير هنا وهناك, يملي -سبحانه- للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق، وليرتكب أبشع الآثام وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد العذاب باستحقاق...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأؤمن به وأتوكل عليه، وأساله من فضله المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُ الله ورسوله، شرَّفه بالعبودية والرسالة، فهو أكرم الرسل وأشرف العبيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: -أيها الناس- أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوه، واستغفروه؛ فإنه غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، واشكروه فكم أفاض عليكم من نعمه! وإياكم والمعاصي؛ فإنها مفاتح غضب الله ونِقَمه.
عباد الله: فطر الله -تبارك وتعالى- فطر العباد على قبول الحق والانقياد له، والطمأنينة به، والسكون إليه، ومحبته، وفطرها كذلك على بغض الباطل والكذب، والنفور عنه، وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره.
ومن تدبر القرآن أيقن أنه حق وصدق، بل أحق كل حق، وأن الذي جاء به أصدق خلق الله، وأبرهم، وأتقاهم، وأعلمهم, ولهذا ندب الله عباده إلى تدبر القرآن, قال -سبحانه-: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24]، فلو رفعت الأثقال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الهدى والإيمان، وعلمت أنه الحق، وما سواه باطل, قال -سبحانه-: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [سبأ: 6]، فهذه القلوب هي التي تنقاد لحكم الله، وتسلم لأمره,
نسأل الله أن يجعلنا منهم.
أيها الإخوة: إن الله -تبارك وتعالى- هو الحق، خلق مخلوقاته كلها بسبب الحق، ولأجل الحق قال -سبحانه-: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الدخان: 38، 39]، والحق هو الحكم والغايات التي لأجلها خلق الله ذلك كله، وهي كثيرة: منها: أن يُعرف الله بأسمائه وصفاته، وأفعاله وآياته. ومنها: أن يُـحَب ويُعبد، ويُذكر ويُشكر، ويُطاع فلا يُعصى. ومنها: أن يأمر وينهى، ويشرع الشرائع، ويدبر الأمر، ويتصرف في ملكه بما يشاء. ومنها: أن يثيب ويعاقب، فيجازي المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، فيظهر أثر عدله وفضله لعباده، فيُـحمد على ذلك ويُشكر. ومنها: أن يعلم خلقه أنه لا إله لغيره، ولا رب سواه. ومنها: ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها جلية في مخلوقاته. ومنها: أنه -سبحانه- يحب أن يجود وينعم، ويعفو ويغفر، ويسامح ويصفح، ولا بد من لوازم ذلك عقلاً وشرعاً. ومنها: أنه يحب أن يثنى عليه، ويُـمدح ويُـمجَّد، ويُسبَّح ويُعظَّم، وغير ذلك من الحكم التي تضمنها الخلق.
وكل من عُرض عليه الحق فرده ولم يقبله عُوقب بفساد قلبه وعقله ورأيه, قال -سبحانه-: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [الصف: 5], ومن كفر بالحق بعد أن عمله كان سبباً لطبع الله على قلبه, قال -سبحانه-: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 155].
عباد الله: والقلوب عند ورود الحق عليها لها أربعة أحوال: قلب يفتتن به كفراً وجحوداً, وقلب يزداد به إيماناً وتصديقاً, وقلب يتيقنه فتقوم عليه به الحجة, وقلب يوجب له حيرة وعمى فلا يدري ما يراد به, قال -سبحانه-: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) [المدثر: 31].
وهذه الأمة أولى الأمم باتباع الحق، ففوق أنه الحق هو كذلك مجد لها وذكر, قال -سبحانه-: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 10], وما كان لها لولاه من ذكر في العالمين، وقد ظلت أمة العرب لا ذكر لها في تاريخ العالم حتى جاءها الإسلام وصعد بها إلى القمة الساحقة, وقد ظل ذكرها ومجدها وعزها يدوي في آذان القرون حينما كانت مستمسكة به، إيمان وأمان، وعدل وإحسان، ورحمة وشفقة، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، فوا أسفاه وقد تضاءل ذكرها الآن عندما تخلت عنه في كثير من ديار الإسلام، فأصبحت تؤمر ولا تأمر، وتنصت ولا تتكلم، وترقد في آخر مواطن الذل والهوان، فما لها لا تعود إلى ربها، وقد ملكها الله الدين الذي تصل به إلى مدارج العز والعلا.
أيها الإخوة: ومنهج البحث عن الحق سهل، ومعرفة الافتراء من الصدق لازم, (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) [سبأ: 46], إنها دعوة إلى القيام لله بعيداً عن الهوى، بعيداً عن المصلحة، معتمداً على مراقبة الله وتقواه، متجرداً من الرواسب والمؤثرات, ثم التفكر ثانياً فيمن جاء بهذا الحق؟, ما مصلحته؟, وما بواعثه؟, وماذا يعود عليه منه؟ إنه لا يريد عوضاً من أحد، بل يرجو ثوابه ممن كلفه، ولا يتطلع أبداً إلى أجر من أحد, (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سبأ: 47].
ثم التفكر ثالثاً في هذا الحق، فهو الحق الذي يقذف به الله، فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله؟ لا أحد، فالطريق أمامه مكشوف, (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) [سبأ: 48].
ورابعاً: إذا جاء الحق بقوته فقد انتهى أمر الباطل، وما عادت له حياة, (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) [سبأ: 49]. وإنه لكذلك، فمنذ جاء القرآن استقر منهج الحق واتضح، ولم يعد للباطل إلا مماحكة ومماحلة أمام الحق الواضح الحاسم.
ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف، إلا أنها ليست غلبة على الحق، إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق، غلبة الناس لا غلبة المبادئ، وهذه موقوتة ثم تزول. وأخيراً, (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) [سبأ: 50].
أيها الإخوة: وقد وعد الله عباده أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون، ومن خفايا أنفسهم على السواء، حتى يتبين لهم أنه الحق، هذا الدين حق، وهذا الكتاب حق، وهذا المنهج حق, ولقد صدقهم الله وعده، فكشف لهم عن آياته في الآفاق وفي الأنفس، ووَعْد الله ما يزال قائماً قال -سبحانه-: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت: 53]، وإنها لرحمة من الله، فكلما ابتعد الناس عن زمن النبوة، وعن منهج النبوة، فتح الله لهم من أبواب العلم ما يردهم إلى الله، ويذكرهم به، ويسهل عليهم أمور معاشهم.
فالبشرية بعد الضلال والشرود من جراء العلم أخذت عن طريق العلم تثوب إلى الدين، وتعرف أنه الحق عن هذا الطريق, ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في أغوار النفس بأقل منها في جسم الكون، فقد أطلع الله البشر على أسرار وخصائص في الجسم البشري، وعرفوا تركيبه وتكوينه ووظائفه وغذاءه، وأمراضه وعلاجه، وعرفوا من أسرار حركته ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله الباري.
عباد الله: إن الله وحده الذي خلق هذا الكون، له الحق وحده أن يشرع لعباده ما يشاء، وليس لأحد من خلق الله أن يعتدي على خلقه، فيشرع لهم غير ما شرعه الله وأذن به كائناً من كان, فالله مبدع هذا الكون، ومدبره بالأوامر الكلية التي اختارها له، والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير؛ فينبغي أن يحكمها تشريع يتماشى مع أوامر الكون الأخرى، ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها محيط بالكون وما يجري فيه.
وكل ما سوى الله قاصر وعاجز عن تلك الإحاطة بلا جدال، فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور، وكيف يرضى الناس بمخلوق مثلهم أن يشرع لهم, (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الشورى: 21]، لقد شرع الله -عزَّ وجلَّ- للبشرية من الدين ما يوافق طبيعتها وفطرتها، ووضع الأصول لذلك، وترك للبشر استنباط التشريعات الجزئية التي تتجدد مع تجدد الحياة في حدود المنهج الكلي للدين، فإذا اختلفوا في شيء، رجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها الله للناس؛ لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريع جزئي، وكل تطبيق حادث على مدار الزمن.
وبذلك يتوحد مصدر التشريع، ويكون الحكم لله وحده وهو خير الحاكمين, وما عدا هذا المنهج فهو خروج على شريعة الله، وعلى دين الله، ومع وضوح هذا إلا أن بعض الناس يجادلون في هذا، ويجرءون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله، زاعمين أنهم يختارون لشعوبهم ما يسعدهم، كأنما هم أعلم من الله، وأحكم من الله، ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم.
عباد الله: والله -تبارك وتعالى- هو الحق الذي يحب الحق ويدعو إليه، ويكره الباطل ويحذر منه، وما ترك أحد الحق إلا جرته الشياطين إلى الباطل, فاليهود لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم جرتهم الشياطين إلى الكفر والكذب كما قال -سبحانه- عنهم: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) [البقرة: 101 ،102].
والحق: هو ما أوحاه الله إلى رسوله محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- من البينات والهدى، المتضمن للعلم النافع، والعمل الصالح، والخلق الفاضل، فإذا جاء هذا الحق زهق الباطل, فكما لا يجتمع النور مع الظلام، ولا الليل مع النهار، ولا الحر مع البرد، كذلك لا يجتمع الحق مع الباطل؛ لأن كل واحد منهما يطرد الآخر، والباطل زهوق، ولكنه قد يكون له صولة ورواج إذا لم يقابله الحق، فعند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك, ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمنة والأمكنة الخالية من العلم بالله وأسمائه وصفاته، والعلم بآياته وبيناته، والعلم بدينه وشرعه، ولذلك مدح الله أهل الحق ممن يتواصون بنشره وتعليمه، فقال: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1-3].
وسنة الله التي لا تتبدل أن الحق إذا جاء زهق الباطل، فالباطل لا يمكن أن يثبت للحق, قال -سبحانه-: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81], وإن ظهور الباطل وبقاءه منتفشاً فترة من الزمن, ليس معناه أن الله تاركه, أو أنه من القوة بحيث لا يغلب, أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً, أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه, كلا, إنما هي حكمة وتدبير من الحكيم الخبير هنا وهناك, يملي -سبحانه- للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق، وليرتكب أبشع الآثام وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد العذاب باستحقاق, (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران: 178].
فالله -عزَّ وجلَّ- يملي للظالم حتى يزداد طغيانه، ويترادف كفرانه، حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر، فليحذر الظالمون من الإمهال، ولا يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال, قال -سبحانه-: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102]، ويبتلي -سبحانه- الحق؛ ليميز الخبيث من الطيب، ويعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت, (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 74].
أيها الإخوة: والحق: هو الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-، وهو يتضمن: معرفة الحق، وإيثاره، وتقديمه على غيره، ومحبته، والانقياد له، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد أعدائه، وما سواه فهو صراط أهل الباطل، أهل الغضب والضلال، قال -سبحانه-: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 6،7].
ومن رحمة الله بالخلق وعنايته بهم أن بعث إليهم الرسل تبين الحق وتميزه من الباطل، بحيث يصير مشهوداً للقلب كشهود العين للمرئيات، وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه، والتي لا يعذب أحداً ولا يضله إلا بعد وصوله إليها, قال -سبحانه-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التوبة: 115].
عباد الله: والحق هو الذي بعث الله به رسله، وجعل إبلاغه إليهم وإلى العلماء من بعدهم، وبعد ذلك يضل الله من يشاء، ويهدي من يشاء, قال -سبحانه-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [إبراهيم: 4]، فالرسل تبين الحق, والله يضل من يشاء, ويهدي من يشاء, وسماع الحق لفظه ومعناه وقبوله خاص بمن أراد الله هدايته, قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 17،18].
عباد الله: والناس صنفان: عالم, وأعمى, فأهل الجهل بمنزلة العميان الذين لا يبصرون، وأهل الجهل صم بكم عمي، وكما لا يستوي الأعمى والبصير كذلك لا يستوي العالم والجاهل قال -سبحانه-: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الرعد: 19].
ولمعرفة الحق، والاستفادة منه، والعمل به، وقبوله، لا بدَّ من النور الخارجي وهو القرآن الذي فيه تبيان كل شيء، والنور الداخلي وهو الإيمان ومحله القلب، وإذا امتلأ القلب بالإيمان وتزين به فرَّق بين الحق والباطل، وأحب الطاعات، وأبغض المعاصي. وإن صلاح البشرية بأمرين: بالإيمان, والعمل الصالح.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أمر بالعدل والإحسان, وأوعد الظالمين بالعقوبة والخسران، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
عباد الله: إن الحق لا يحق والباطل لا يبطل في أي مجتمع بمجرد البيان النظري للحق والباطل، ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حق وهذا باطل، وإن كانت الهداية تنزل على من شاء الله من عباده، ولكن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس، والباطل لا يبطل ولا يذهب من واقع الناس إلا بالتضحية وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله، وتحطيم سلطان الباطل حتى يعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا, (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 74].
إن الحق شأنه كبير، وما تقف له أي قوة مهما كانت إلا ويدفعها؛ لأن الله هو الحق، وهو الذي أنزل الحق، ولكن الحق لا يتحقق في عالم الواقع إلا بعد تمامه في عالم الضمير, وما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد أن يستعلوا بالحق في الباطن, إن للحق والإيمان والتوحيد حقيقة متى تجسمت في المشاعر أخذت طريقها، فاستعلنت ليراها الناس في صورتها الواقعية, فأما إذا ظل الإيمان مظهراً لم يتجسم في القلب، وظل الحق شعاراً لا ينبع من القلب، فإن الطغيان والباطل قد يغلبان؛ لأنهما يملكان قوة مادية حقيقة لا مقابل لها ولا كفاء في مظهر الحق والإيمان.
فإذا استقرت حقيقة الحق والإيمان في القلب أصبحتا أقوى من حقيقة القوى المادية التي يستعلي بها الباطل، ويصول بها الطغيان, وبهذا وقف الأنبياء لكل قوة غاشمة تواجههم في الأرض، فنصر الله أولياءه، وخذل أعداءه, وتحقق وعد الله لأنبيائه ورسله وأتباعهم بالنصر على أعدائهم, قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171-173].
عباد الله: وللباطل صور وألوان وشُعَب: فمنها باطل الكبر، فالكبر عادة يحول دون قبول الحق، وأخطر ما يواجه الداعي إلى الله من صنوف الناس المتكبرون، فهم شر من يدعى إلى الحق فيأباه, ودعوتهم ومعالجة كبريائهم تكون بالقول اللين، ومن ذلك دعوة موسى لفرعون، ودعوة نوح لقومه، ودعوة شعيب لقومه.
ومنها باطل التقليد، تقليد الأبناء للآباء، والخلف للسلف فيما يعتقدون ويعملون، فهذا التقليد من أكبر الحوائل التي تقف دون قبول المقلدين للحق ومعرفته، بل كثيراً ما يدفع المقلد إلى مناهضة الحق وأهله.
ومنها: باطل الحسد، فالحسد من الصوارف عن الحق، وهو أخطر من الكبر والتقليد؛ لأن الحاسد يحمله الحسد على الكيد للداعي والمكر به, وقد حسد اليهود النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه من أولاد إسماعيل، وناصبوه العداوة، وحاولوا قتله، وسموه وسحروه، وحاربوه وألَّبوا عليه القبائل، قال -سبحانه-: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 109].
ومنها: أهل المنافع والمصالح، فكل واحد من هؤلاء المستفيدين لا يرضى بتغيير وضعه حفاظاً على الذي يحصل له منه من الكسب المحرم, لذا ينبغي في دعوتهم الانتباه إلى وعدهم بالخير، وبشارتهم بحال أحسن، وأن يقدم لهم من النفع والخير ما يعوضهم عما فاتهم.
أيها الإخوة: إن منطق الباطل هو الطغيان الغليظ كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان، وخاف أن يستعلي الحق بما فيه من قوة وفصاحة، وهو يخاطب الفطرة فتصغي له وتستجيب، كما آمن السحرة الذين جاء بهم فرعون ليغلبوا موسى -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، فانقلبوا أول المؤمنين بالحق في مواجهة فرعون الجبار، فما موقف فرعون وملئه من الحق الذي جاء به موسى -عليه السلام-: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 25 ،26].
هكذا قال فرعون الطاغية الوثني الضال عن النبي المصطفى المؤمن الهادي، وهي الكلمة التي يقولها كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح, إنها كلمة الباطل الطالح في وجه الحق الجميل، وكلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه أهل الإيمان والهدى، وهي تتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان، في كل زمان، وفي كل مكان: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26], فما أظلم هؤلاء الطغاة؟, وما أجهلهم بالحق؟, وما أضرهم على أنفسهم وعلى من تحت أيديهم؟ فلماذا قَتْلُ الدعاة المصلحين بغير حق؟, ولماذا ترويعهم ومطاردتهم؟, (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر: 28]، مما سبق يتبين أن أكثر الناس للحق كارهون؛ لأنه يسلبهم القيم الباطلة التي بها يعيشون، ويصدم أهواءهم المتأصلة التي بها يعتزون.
عباد الله: والحق لا يمكن أن يدور مع الهوى، وبالحق قامت السموات والأرض، فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة, وبالحق الواحد يدبر الله الكون كله فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة, ولو خضع الكون للأهواء العارضة والرغبات الطارئة لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين وتأرجحت كلها بين الغضب والرضا، والكره والحب، والرغبة والرهبة، وسائر ما يعرض من الأهواء بالانفعالات, (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون: 71].
اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.
التعليقات