عناصر الخطبة
1/ حال الأرض والسماوات يوم البعث والنشور 2/ الملك لله وحده 3/ آيات في أهوال القيامة 4/ بعث الخلائق وحشرها 5/ أول من تنشق عنه الأرض وأول من يكسى 6/ صفة الناس عند الحشراهداف الخطبة
اقتباس
إذا قام الناس من قبورهم وجدوا الأرض على غير صفتها التي فارقوها وهي عليها؛ حيث قد دكت الجبال وزالت التلال وانقطعت الأنهار وبادت الأشجار وسجرت البحار وتساوت المهاد والروابي، وخربت المدائن والقرى وتغيرت الأحوال وزلزلت الأرض وأخرجت أثقالها وبعثر ما في القبور، وكذلك السماوات قد بدلت وتشققت وتفطرت أرجاؤها ..
أما بعد: فإذا قام الناس من قبورهم وجدوا الأرض على غير صفتها التي فارقوها وهي عليها؛ حيث قد دكت الجبال وزالت التلال وانقطعت الأنهار وبادت الأشجار وسجرت البحار وتساوت المهاد والروابي، وخربت المدائن والقرى وتغيرت الأحوال وزلزلت الأرض وأخرجت أثقالها وبعثر ما في القبور، وكذلك السماوات قد بدلت وتشققت وتفطرت أرجاؤها وانكدرت النجوم وانتثرت، فبعد ذلك التغيير والتبديل يكون الجزاء والحساب بعد موت جميع الخلائق من إنس وجان وملائكة وحيوان وطير وهوام وسباع ووحش وغيرها من جميع المخلوقات، ولا يبقى إلا رب العزة والجلال كما قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) [الرحمن: 26-28]، وقال تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) [القصص: 88]، وقال تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [إبراهيم: 48-52].
ويطوي الله السماوات والأرض كطي السجل للكتب، وينادي -عز وجل-: (لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)، فلا يجيبه أحد لموت الخلق أجمعين، ثم يجيب الحق -جل جلاله وتعالى سلطانه- بقوله -سبحانه وبحمده-: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67]، وقال -عز وجل-: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104]، وقال تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 15-19].
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أنا الجبار، أين ملوك الأرض؟! أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟!". وفي حديث الصور أنه -عز وجل- إذا قبض أرواح جميع خلقه فلم يبق سواه وحده لا شريك له حينئذ يقول: لمن الملك اليوم؟! فيجيب نفسه قائلاً: لله الواحد القهار. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ...) [سورة التكوير]، (وإِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ...) [سورة الانفطار]، (وإِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ...) [سورة الاشقاق]". وهو في صحيح الجامع. وإنما كانت هذه السور الثلاث أخص بالقيامة لما فيها من انشقاق السماء وانفطارها وتكور الشمس وانكدار النجوم وتناثر الكواكب وخروج الخلق من القبور ونشر الصحف وقراءة الكتب وأخذها بالأيمان والشمائل كل حسب عمله.
قال تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) [التكوير: 1-14]، (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار: 1-5]، (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق: 1-6].
وجاء في حديث الصور: "ويبدل الله الأرض غير الأرض، فيبسطها ويسطحها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا"، قال تعالى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا * وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا) [طه: 102-112]، وقال تعالى: (وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) [النبأ: 20]، وقال تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 13-18]، وقال -عز وجل-: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ) [المعارج: 8، 9]، وقال -عز وجل-: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) [القارعة: 5]، وقال -عز وجل-: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 47-49]، وقال تعالى: (إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتْ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ) [الواقعة: 1-14]، وقال -عز وجل-: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتْ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً * إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً * فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) [المزمل: 12-19]، وقال -عز وجل-: (كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر: 21-24].
وفي الحديث أنه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى لَيْتًا ورفع لَيْتًا -اللّيْتُ صفحة العنق-، وأول من يسمعه رجل يليط حوضه فيصعق، ولا يسمعه أحد إلا صعق، ثم يرسل الله مطرًا كأنه الطل -أو: الظل- فينبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون".
وروى البخاري -رحمه الله- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما بين النفختين أربعون"، قالوا: يا أبا هريرة: أربعون يومًا؟! قال: أَبَيْتُ، قالوا: أربعون شهرًا؟! قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟! قال: أبيت، "ثم يُنزل الله من السماء ماءً فينبتون كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد وهو عَجْبُ الذنب، منه يركب الخلق يوم القيامة". رواه البخاري.
وهذا العظم الصغير جدًّا الذي يعاد تكوين الإنسان منه موجود داخل العصعص أسفل فقرة في الظهر تحت الحوض وما بين الإليتين في كل إنسان، قال تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) [طه: 55] أي: من الأرض وترابها خلق الله بني آدم، وقال -عز شأنه-: (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) [الأعراف: 25]، وقال -عز شأنه-: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) [نوح: 17، 18]، وقال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ) [الزمر: 68-70]، وقال -عز وجل-: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) [النبأ: 17-20]، وقال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [يس: 51-54]، وقال -عز وجل-: (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) [النمل: 87].
وعن ذي القرنين ويأجوج ومأجوج والسد العظيم الذي طلبوه والذي بناه لهم شرق الأرض وبعد أن ذكر الله قصة ذي القرنين جاء على لسانه عن السد ودكّه وإخبار الله -عز وجل- عن القيامة والنفخ في الصور، جاء في قول الله تعالى: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا * وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) [الكهف: 98-101].
وبعد أن ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأخيرة نفخة البعث والنشور يخرج الناس من القبور ومن أي جزء كانوا فيه في بر أو بحر وحيثما هلكوا في أجواء الفضاء أو في أعماق البحار، أو غُيِّبت قبورُهم في الأرض أو حُرقت أجسادُهم وصارت رمادًا ثم نُثرت على قمم الجبال أو في البحار كما يفعل بعض الكفار اليوم بموتاهم عندما يحرقونهم ويفرقون الرماد على الجبال والبحار، أو أكلتهم الحيوانات المفترسة أو الطيور الجارحة، فإن الله سوف يأتي بهم جميعًا ويعيدهم مرة أخرى ويجمع عظامهم المفتتة وأجسامهم البالية، بل أكثر من ذلك وهو بصمات أصابعهم التي كانوا يعرفون بها في الدنيا؛ حيث تختلف بصمة كل شخص عن الآخر كما هو معروف لدى الباحثين في الأدلة الجنائية في الجرائم وغيرها، سوف تُعاد مرة أخرى، قال تعالى: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) [القيامة: 3، 4]، وقال تعالى: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 148]، وقال -عز وجل-: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 93-95]، وقال سبحانه: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف: 47].
وكذلك الحال يحشر جميع المخلوقات من بهائم وغيرها، قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام: 38]، وقال -عز وجل-: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [التكوير: 5]، وقال سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) [الشورى: 29].
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
ففي صحيح مسلم -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه قُبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا فيه من الصلاة عليَّ، فإن صلاتكم معروضة عليَّ"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه الصعقة وفيه النفخة".
وبعد أن تكون نفخة البعث والنشور يقوم الناس لرب العالمين وتنشق الأرض عنهم، وأول من تنشق عنه رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأول من يُكسى أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، قال تعالى: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 52]، وقال -عز وجل-: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) [يس: 51]، وقال -عز وجل-: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر: 68]، وقال تعالى: (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) [النبأ: 18]، (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [المعارج: 43، 44]، وقال -عز شأنه-: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ) [ق: 41-44]، (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [ق: 6-8]، وقال تعالى: (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) [المطففين: 4، 5].
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً"، ثم قرأ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104]، وعندما سمعت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً"، قالت: يا رسول الله: الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: "يا عائشة: الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض"، وفي الرواية الأخرى: "شغل الناس عن ذلك، لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه". ومعنى حفاة: لا أحذية لهم، وعراة: لا ملابس تكسوهم وتستر عوراتهم وأجسامهم، وغرلاً: غير مختونين.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل". رواه البخاري. ثم رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم النبيون.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من رفع رأسه فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان ممن استثنى الله أم رفع رأسه قبلي، ومن قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب".
أيها المسلمون: أكتفي بهذا القدر من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة حول الحشر والبعث والنشور لأنتقل في الخطب القادمة إن شاء الله للحديث عن أهوال يوم القيامة يوم الجزاء والحساب وما بعد ذلك اليوم العصيب عن الجنة والنار، نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1، 2].
التعليقات