عناصر الخطبة
1/ بعث الناس من قبورهم 2/ كيف يكون الحشر؟!اهداف الخطبة
اقتباس
إن موقف الحشر موقف مكروب ذليل، يثير الفزع والخوف، فما ظنك بمن يؤخذ بناصيته ويقاد، وفؤاده مضطرب، ولبه طائر، وفرائصه ترتعد، وجوارحه تنتفض، ولونه متغير، ولسانه وشفتاه قد نشَفت، وقد عض على يديه، والعالم والجو عليه مظلم، وضاقت عليه أرض المحشر كأضيق من سَمّ الخِياط...
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: وبعدما ينفخ في الصور، ويقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، يجدون الأرض على غير صفتها التي فارقوها، وهي عليها حيث قد دكت الجبال، وزالت التلال، وانقطعت الأنهار، وبادت الأشجار، وسجرت البحار، وتساوت المهاد والروابي، وخربت المدائن والقرى، وتغيرت الأحوال، وزلزلت الأرض وأخرجت أثقالها، وبعثر ما في القبور، وكذلك السماوات قد بدلت وتشققت وتفطرت أرجاؤها، وانكدرت النجوم وانتثرت، فبعد ذلك التغيير والتبديل يكون الجزاء والحساب بعد موت جميع الخلائق من إنس وجان، وملائكة وحيوان وطير، وهوام وسباع ووحش، وغيرها من جميع المخلوقات، ولا يبقى إلا رب العزة والجلال كما قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان) [الرحمن: 26-28].
بعدها يساق العباد إلى أرض المحشر لفصل القضاء بينهم، لتجزى كل نفس بما تسعى، فيجزى كل عامل بما يستحق من الجزاء، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. وقد وضح النبي -صلى الله عليه وسلم- في عدد من الأحاديث كيف يكون هذا الحشر، وكيف يكون مجيء الناس لها، وهو أنهم في هيئات وحالات ومشاهد مختلفة، فبعضهم حسنة وبعضهم قبيحة، بحسب ما قدموا من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية، فمن تلك المشاهد ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حال الناس عند حشرهم، وهو أنه سيكون المؤمن والكافر في هيئة واحدة، لا عهد لهم بها في الدنيا ولا يتصورون حدوثها، ولهذا فقد حصل التساؤل والاستغراب لتلك الحالة كما في الحديث الذي ترويه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تحشرون حفاة عراة غرلاً"، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله: الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال: "الأمر أشد من أن يهمهم ذاك". رواه البخاري ومسلم.
فالحشر يكون دون نعل أو خف، ودون ثوب أو لباس، وأيضًا يرجع البشر كهيئتهم يوم وُلدوا، حتى إن الغرلة ترجع وإن كان قد اختتن في الدنيا، تحقيقًا لقول الله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء: 104]. هذا مشهد من مشاهد الحشر.
مشهد آخر: وهو مشهد الكفار، فإنهم سيحشرون والعياذ بالله على هيئة تختلف عن غيرهم، وهو أنهم يسحبون في المحشر على وجوههم، قال الله تعالى: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) [الإسراء: 97]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: فأخبر أن الضالين في الدنيا يحشرون يوم القيامة عميًا وبكمًا وصمًّا. قال الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [طه: 124-126]. روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا نبي الله: كيف يحشر الكافر على وجهه؟! قال: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟!". قال قتادة: بلى وعزة ربنا.
ومن مشاهد الحشر الأخرى التي وردت في السنة: أن هناك صنفًا من الناس يحشرون في أحقر صفة وأذلها، وهؤلاء هم المتكبرون، فلأنهم في الدنيا يمشون في كبرهم وتبخترهم على الناس، عالية رؤوسهم عن التواضع لله أو لخلقه، هؤلاء المستكبرون ورد في صفة حشرهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان". رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي رواية عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يبعث الله يوم القيامة ناسًا في صور الذر، يطؤهم الناس بأقدامهم، فيقال: ما هؤلاء في صور الذر؟! فيقال: هؤلاء المتكبرون في الدنيا". وهذه الحالة المخزية تناسب ما كانوا فيه في الدنيا من تعاظم وغرور بأنفسهم؛ لأنهم كانوا يتصورون أنفسهم أعظم وأجل المخلوقات، فجعلهم الله في دار الجزاء أحقر المخلوقات وأصغرها، والجزاء من جنس العمل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فإنهم لما أذلوا عباد الله أذلهم الله لعباده، كما أن من تواضع لله رفعه الله. قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صُوَرِ الرجال، يغشاهم الذُّلُّ من كلّ مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يقال له: بُولَسُ، تعلوهم نارُ الأنْيَار، يُسْقَوْنَ من عصارة أهل النار طِينَةِ الخبال". رواه النسائي والترمذي.
ومن مشاهد الحشر يوم القيامة: مشهد أولئك السائلين المتسولين الذين يسألون الناس وعندهم ما يغنيهم، هؤلاء يأتون يوم القيامة للحشر وفي وجوههم خموش أو كدوح، ومنهم من يأتي وليس في وجهه مُزعة لحم يعرفهم الناس كلُهم؛ عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم". رواه البخاري. وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سأل وله ما يغنيه جاءت خموشًا أو كدوحًا في وجهه يوم القيامة". أخرجه النسائي.
ومن مشاهد الحشر أيضًا: مشهد أولئك الذين يأخذون من الغنائم وهي من أموال المسلمين العامة، هؤلاء يحشرون في هيئة تشهد عليهم بالخيانة أمام الخلق أجمعين، فمن غلّ شيئًا في حياته ولم يُرجعه أو يتوب منه فسيظهره الله يوم الحشر، وسيشهر به أمام الناس زيادة للنكاية به، يحمل ما غلّ على ظهره، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [آل عمران: 161]، قال قتادة: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا غنم مغنمًا بعث مناديًا: "ألا لا يغلنّ رجلٌ مخيطًا فما دونه، ألا لا يغلنّ رجل بعيرًا فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء، ألا لا يغلنّ رجل فرسًا فيأتي به على ظهره يوم القيامة له حمحمة". وعن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساعيًا ثم قال: "انطلق -أبا مسعود- لا ألفينّك يوم القيامة تجيء وعلى ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته"، قال: إذًا لا أنطلق، قال: "إذًا لا أكرهك". أخرجه أبو داود.
ومن مشاهد الحشر: ما ذكره بعض أهل العلم بأن المرء يبعث ويحشر يوم القيامة على ما مات عليه من خير أو شر، فالزامر يأتي يوم القيامة بمزماره، والسكران بقدحه، والمؤذن يؤذن ونحو ذلك. نسأل الله حسن الختام. قال الله تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم: 85، 86]. وقال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) [الصافات: 22، 23]، وهذا يشمل الطائعين والعاصين كما قال سبحانه: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير: 7]، أي قُرن كل صاحب عمل بشكله ونظيره، فقرن بين المتحابين في الله في الجنة، وقرن بين المتحابين في طاعة الشيطان في الجحيم، فالمرء مع من أحب شاء أم أبى، وفي المستدرك للحاكم وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يحب المرء قومًا إلا حشر معهم". قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وقد نَقل عن قتادة في تفسير قوله تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) [الصافات: 22]، قال: فأهل الخمر مع أهل الخمر، وأهل الزنا مع أهل الزنا، وكل كافر معه شيطانه في سلسلة، الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح، ويُلحق كل امرئ بشيعته، اليهودي مع اليهود، والنصراني مع النصارى، وأعوان الظلمة كما جاء في الأثر: إذا كان يوم القيامة قيل: أين الظلمة وأعوانُهم؟! فيجمعون في توابيت من نار ثم يقذف بهم في النار. وقد قال غير واحد من السلف: أعوان الظلمة من أعانهم ولو برى لهم قلمًا، ومنهم من كان يقول: بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم. فيحشر كل امرئ مع صاحب عمله حتى إن الرجل يحب القوم فيحشر معهم كما ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لمّا قيل له: الرجل يحب القوم ولمّا يلحق بهم، قال: "المرء مع من أحب". وقال: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". وقال: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل". فنسأل الله تعالى أن يحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بحبنا إياهم وإن لم نعمل مثلهم.
أيها المسلمون: ومن مشاهد الحشر لأهل الطاعات: أهل الوضوء الذين يحشرون غرًّا محجلين كرامة من الله تعالى لأوليائه وأحبائه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أمتي يدعون يوم القيامة غرًّا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل". رواه البخاري.
وهناك مشهد الشهداء في سبيل الله: فإنهم يحشرون ودماؤهم تسيل عليهم كهيئتها يوم جرحت في الدنيا تفجر دمًا؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل كَلْم يكلمه المسلم في سبيل الله ثم تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجر دمًا، اللون لون دم، والعرف عرف المسك". رواه مسلم. وهذا إكرام لهم وبيان لمزاياهم، وتشهيرًا بمواقفهم، وعلو مقامهم عند الله تعالى. قال النووي -رحمه الله تعالى-: والحكمة في مجيئه يوم القيامة على هيئته أن يكون معه شاهد فضيلته وبذله نفسه في طاعة الله تعالى.
أيها المسلمون: إن موقف الحشر موقف مكروب ذليل، يثير الفزع والخوف، فما ظنك بمن يؤخذ بناصيته ويقاد، وفؤاده مضطرب، ولبه طائر، وفرائصه ترتعد، وجوارحه تنتفض، ولونه متغير، ولسانه وشفتاه قد نشَفت، وقد عض على يديه، والعالم والجو عليه مظلم، وضاقت عليه أرض المحشر كأضيق من سَمّ الخِياط، مملوء من الرعب والخجل من علام الغيوب ومن الناس، وقد أتي يتخطى رقاب الناس ويخترق الصفوف، يقاد كما يقاد الفرس المجنوب، وقد رفع الخلائق إليه أبصارهم حتى انتُهِيَ به إلى عرش الرحمن، فرموه من أيديهم، وناداه الله -سبحانه وتعالى-، فدنا بقلب محزون خائف وجل، وطرف خاشع ذليل، وفؤاده متحطم متكسر، وأُعطي كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فكم من فاحشة نسيها فتذكّرها، وكم من ساعة قتلها عند منكر، وكم من ليلة أضاعها عند ملهى، وكم من ريال أنفقه في المعاصي، وكم من صلاة تأخر عنها وهو غير معذور، وكم من زكاة تهاون بها، وكم من صيام جرحه بغيبة أو كذب، وكم من أعراض تكلم فيها ولحوم مزقها، وكم من جيران تأذوا بمجاورته، وكم من مخالطة له أوقعته في الحرام، وكم من أرحام قطعهم، وكم من مسلم غشّه، وكم من حقوق لخلق الله تناساها، وكم من أسرار تسمّعها لم يؤذن له، وكم من محرم نظر إليه بعينيه، وَكَمْ من رحلة إلى بلاد الكفر أقامها وأنفق فيها الأموال في المعاصي، وَكَمْ من أعداء لله جالسهم ومازحهم وشاركهم ووالاهم وداهنهم، وَكَمْ من أَوْلِيَاء لله عاداهم وانتهك أعراضهم، وَكَمْ من كفار والاهم وصادقهم ومدحهم، وَكَمْ من عمل بالرياء أفسده: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُون * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) [الزمر: 47، 48]، وكم وكم وكم. فليت شعري بأي قدم يقف بين يدي الله، وبأي لسان يجيب، وبأي قلب يعقل ما يقول، وبأي يد يتناول كتابه، بل وبأي عين ينظر لرب العالمين: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) [مريم: 93-95].
إن هذا الحشر -يا عباد الله- ليس خاصًّا بالإنس، بل سيحشر الإنس والجنّ، بل وحتى البهائم والحيوانات والطيور؛ قال الله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام: 38]، وقال تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [التكوير: 5]. وعند الإمام أحمد من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان جالسًا وشاتان تقترنان، فنطحت إحداهما الأخرى فأجهضتها، قال: فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: ما يضحكك يا رسول الله؟! قال: "عجبت لها، والذي نفسي بيده ليقادنّ لها يوم القيامة". قال عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وحشر الجن والإنس والدواب والوحوش، فإذا كان ذلك اليوم جعل الله القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجمحاء من القرناء تنطحُها، فإذا فرغ الله من القصاص بين الدواب قال لها: كوني ترابًا، فيراها الكافر فيقول: (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) [النبأ: 40].
وأول من يحشر هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث تنشق عنه الأرض قبل كل مخلوق، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر". رواه مسلم.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: اعلموا أن الحشر حشران: حشر في الدنيا وحشر في الآخرة.
أما حشر الدنيا: فسيكون عن طريق النار التي تخرج من قعر عدن تحشر الناس إلى أرض الشام؛ روى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الشام أرض المحشر والمنشر"، وعند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، يَنْحَازُ النَّاسُ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ، لا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ إِلاَّ شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُمْ، تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ، تَحْشُرُهُمْ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، تَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا، وَتَأْكُلُ مَنْ تَخَلَّفَ". والسبب في كون أرض الشام هي أرض المحشر هو أنه عندما تقع الفتن في آخر الزمان تكون أرض الشام هي محل الأمن والأمان؛ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلا وَإِنَّ الإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّام". رواه الإمام أحمد بسند صحيح. هذا حشر الدنيا.
وأما حشر الآخرة: فإنه يكون يوم القيامة بعد بعث الناس من القبور، ويكون الحشر لجميع الناس مؤمنهُم وكافرهم، يحشرون حفاة عراة غرلاً بُهمًا (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء: 104]، وسيكون هذا الحشر في أرض أخرى غير هذه الأرض، قال الله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم: 48]، وقد أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صفة هذه الأرض الجديدة التي يكون عليها الحشر فقال كما في حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- عند البخاري: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ، ليس فيها معلم لأحد". والعفراء: البيضاء التي بياضها ليس بالناصع، والنَّقِيِّ: الخبز الأبيض، والْمَعْلَم: ما جُعل علمًا وعلامة للطريق والحدود. ومعناه أنها لم توطأ من قبل، حتى يكون فيها أثر أو علامة لأحد. قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: تبدل الأرض أرضًا كأنها الفضة لم يسفك عليها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة.
أيها المسلمون: كلنا نعلم أن حياتنا مهما امتدت وصفت للزَوَال، وكَذَلِكَ كُلّ واحد منا يعلم أنه أتى للدنيا للاختبار بما كلفنا به من العبادات والمعاملات، سيصبح الواحد منا عما قريب فِي حفرة وحيدًا لَيْسَ معه أولاد ولا أموال، وحينئذ تَكُون -أيها الأخ- كأنك ما رَأَيْت الدُّنْيَا ولا هِيَ رأتك لحظة من اللحظات، ويا ليتك إِذَا زالت الحياة تزول دون أن يترتب عَلَيْهَا آثار، لو كَانَ ذَلِكَ لأحب بعضنا الموت؛ لأنه يكون بشيرًا بانتهاء الأمراض والمصائب والآلام، لكنك تعلم أنه يعقب ذَلِكَ الموت أهوال، وأمور مزعجات، تلاقي جزاء ما كَانَ منك قبل الموت فِي الاختبار، فإن كنت قَدْ أحسنت، رَأَيْت قبرك روضة نعيم، وإن كنت مسيئًا رأيته نيرانًا محرقات، ويا ليت الأَمْر ينتهي ويقف عَنْدَ هَذَا الحد، فتبقى فِي قبرك على الدوام، فإنه أخف مِمَّا بعده، فتَكُون آلامك فيه أخف إن كنت من أَهْل الشقاء والآثام، ولكن تعلم أن ما أخبر به الله سيقع، وَهُوَ القيام من القبور، قَالَ الله تَعَالَى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين) [المطففين: 6]. وحينئذ تسوقك نتيجة اختبارك إما إِلَى الْجَنَّة وإما إِلَى السعير.
اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة: أيقظنا من نوم الغَفْلَة، ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة، وَوَفِّقْنَا لمصالحنا، واعصمنا من قبائحنا، ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنّته سرائرنا، من أنواع القبائح والمعايب التي تعلمها منّا، وامنن عَلَيْنَا -يَا مولانَا- بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين، الأحياء والميتين، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
التعليقات