عناصر الخطبة
1/تكريم الإسلام للمرأة 2/مفهوم الحجاب وصوره 3/فرضية الحجاب في الإسلام 4/الحكم والمقاصد الشرعية من الحجاب 5/فضائل الحجاب على المرأة والمجتمع.اقتباس
وَإِنَّ أَعْظَمَ تَكْرِيمٍ لِلْمَرْأَةِ تَبَنَّاهُ الْإِسْلَامُ وَشَرَعَهُ: صِيَانَتُهَا مِنْ كُلِّ مَا يُدَنِّسُ عِرْضَهَا, أَوْ يَقْدَحُ فِي شَرَفِهَا, أَوْ يُلَوِّثُ سُمْعَتَهَا, أَوْ يَجْعَلُهَا مَطْمَعًا لِلرِّجَالِ, أَوْ سِلْعَةً رَخِيصَةً تُمْتَهَنُ؛ لِذَلِكَ فَرَضَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ وَأَمَرَهَا بِهِ, وَالْحِجَابُ هُوَ السِّتْرُ؛ إِمَّا...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَظْلُومَةً مُهَانَةً, مَسْلُوبَةَ الْحُقُوقِ؛ فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا كَأَيِّ مَتَاعٍ, إِنِ اشْتَهَاهُ اسْتَمْتَعَ بِهِ، وَإِنِ اسْتَغْنَى عَنْهُ رَمَاهُ, وَحَسْبُكَ مَثَلًا مِنِ احْتِقَارِهِمْ لِلْمَرْأَةِ مَا حَكَاهُ اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُمْ حِينَ وِلَادَتِهَا: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[النحل: 58، 59], فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرَّمَهَا وَرَفَعَ الظُّلْمَ عَنْهَا، وَرَعَى حُقُوقَهَا كَامِلَةٍ, وَوَضَعَهَا فِي مَكَانِهَا الطَّبِيعِيِّ اللَّائِقِ بِهَا؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)[الروم: 21] ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَنْزِلَةَ الْمَرْأَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ؛ فَقَالَ: "إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ"(رَوَاهُ أحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ)؛ أَيْ: نَظَائِرُهُمْ وَأَمْثَالُهُمْ.
وَإِنَّ أَعْظَمَ تَكْرِيمٍ لِلْمَرْأَةِ تَبَنَّاهُ الْإِسْلَامُ وَشَرَعَهُ: صِيَانَتُهَا مِنْ كُلِّ مَا يُدَنِّسُ عِرْضَهَا, أَوْ يَقْدَحُ فِي شَرَفِهَا, أَوْ يُلَوِّثُ سُمْعَتَهَا, أَوْ يَجْعَلُهَا مَطْمَعًا لِلرِّجَالِ, أَوْ سِلْعَةً رَخِيصَةً تُمْتَهَنُ؛ لِذَلِكَ فَرَضَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ وَأَمَرَهَا بِهِ, وَالْحِجَابُ هُوَ السِّتْرُ؛ إِمَّا حِجَابًا مَادِّيًّا بِسَتْرِ الْمَرْأَةِ جَسَدَهَا عَنْ أَعْيُنِ الرِّجَالِ, أَوْ حِجَابًا مَعْنَوِيًّا بِمَنْعِهَا مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ, أَوْ خُضُوعِهَا بِالْقَوْلِ لَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَجْعَلُهَا فِي سَتْرٍ مِنْهُمْ؛ رِفْعَةً وَكَرَامَةً لَهَا!.
وَالْحِجَابُ: هُوَ اللِّبَاسُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي تَسْتُرُ بِهِ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ نَفْسَهَا؛ لِيَمْنَعَ الرِّجَالَ الْأَجَانِبَ مِنْ رُؤْيَةِ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا أَوْ زِينَتِهَا, وَيَكُونُ اسْتِتَارُهَا بِاللِّبَاسِ, وَالْبُيُوتِ, وَالْأَخْلَاقِ؛ فَالْحِجَابُ مَنْهَجٌ شَامِلٌ لِحَيَاةِ الْمُسْلِمَةِ، يَحْكُمُ كُلَّ أَفْعَالِهَا وَتَصَرُّفَاتِهَا حَتَّى فِي كَلَامِهَا وَحَرَكَتِهَا، وَلَيْسَ غِطَاءً تَسْتُرُ بِهِ جَسَدَهَا فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ هَذَا السَّتْرُ لِلْجَسَدِ جُزْءًا مِنْ مَنْظُومَةِ الْحِجَابِ الشَّامِلَةِ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِذَلِكَ فَالْحِجَابُ لَهُ صُوَرٌ مُتَنَوِّعَةٌ، مِنْهَا:
أَوَّلاً: احْتِجَابُ الْمَرْأَةِ بِقَرَارِهَا فِي بَيْتِهَا, قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى )[الأحزاب: 33]؛ وَقَرَارُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا خَيْرٌ لَهَا مِنْ خُرُوجِهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ.
ثَانِيًا: تَغْطِيَةُ الْمَرْأَةِ جَسَدَهَا عَنِ الْأَجَانِبِ, قَالَ -تَعَالَى-: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ)[النور: 31], فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا لِحَاجَةٍ كَانَتْ فِي غَايَةِ الِاحْتِشَامِ وَالْحَيَاءِ.
ثَالِثاً: أَنَّ تَسَتُّرَ صَوْتِهَا أَنْ يَكُونَ فِيهِ رِقَّةٌ وَلِينٌ عِنْدَ مُخَاطَبَةِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ؛ (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)[الأحزاب: 32]؛ "أَيْ: مَرَضُ شَهْوَةِ الزِّنَا"(تفسير السعدي).
رَابِعًا: أَنْ تَسْتُرَ كُلَّ حَرَكَةٍ مِنْهَا تُثِيرُ شَهْوَةَ الرِّجَالِ؛ (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ)[النور: 31], وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي رِجْلَيْهَا خَلَاخِلُ فَتُحَرِّكُهُنَّ عِنْدَ الرِّجَالِ, بَلْ حَتَّى رَائِحَتُهَا الطَّيِّبَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتُرَهَا وَلَا تُبْدِيهَا إِلَّا لِمَحَارِمِهَا؛ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ، فَمَرَّتْ بِقَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا؛ فَهِيَ زَانِيَةٌ"(رواه أحمد والترمذي).
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ آيَاتِ الْحِجَابِ نَهْيُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى زَوْجَاتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, فَإِذَا أَرَادُوا مِنْهُنَّ شَيْئًا فَلْيَطْلُبُوهُ مِنْ وَرَاءِ سَاتِرٍ؛ فعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ, فَلَوْ حَجَبْتَهُنَّ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ الْحِجَابِ"(متفق عليه), وَهِيَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)[الأحزاب: 53].
وَقَدْ عَلَّلَ اللهُ -تَعَالَى- وُجُوبَ الْحِجَابِ بَيْنَهُمْ؛ بِأَنَّهُ أَطْهَرُ لِلنَّفْسِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الرِّيبَةِ, وَهَكَذَا الْمَنْهِيَّاتُ الشَّرْعِيَّةُ تَأْتِي تَطْهِيرًا وَتَزْكِيَةً لِلنُّفُوسِ, وَ"كُلَّمَا بَعُدَ الْإِنْسَانُ عَنِ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الشَّرِّ؛ فَإِنَّهُ أَسْلَمُ لَهُ، وَأَطْهَرُ لِقَلْبِهِ"(تفسير السعدي), وَقَدْ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ مِنْ قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) عُمُومَ الْحِجَابِ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنَاتِ, وَأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِزَوْجَاتِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، يَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ: "وَإِذَا سَأَلْتُمْ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- وَنِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ, اللَّوَاتِي لَسْنَ لَكُمْ بِأَزْوَاجٍ مَتَاعًا (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)؛ يَقُولُ: مِنْ وَرَاءِ سَتْرٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ"(تفسير الطبري). وَقَالَ الْجَصَّاصُ: "وَهَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ نَزَلَ خَاصًّا فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَزْوَاجِهِ، فَالْمَعْنَى عَامٌّ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ"(أحكام القرآن). وَقَالَ الشَّيْخُ بَكْرُ أَبُو زَيْدٍ: "وَحُكْمُ الْعِلَّةِ عَامٌّ لِمَعْلُولِهَا هُنَا؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَسَلَامَتَهَا مِنَ الرِّيبَةِ مَطْلُوبَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَصَارَ فَرْضُ الْحِجَابِ عَلَى نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى مِنْ فَرْضِهِ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ"(حِرَاسة الفضيلة).
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: وَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ عَلَى مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ بِالْحِجَابِ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنَاتِ, فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى نَبِيِّهِ تَوْجِيهًا رَبَّانِيًّا صَرِيحًا: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الأحزاب: 59]؛ وَالْجِلْبَابُ: "هُوَ اللِّبَاسُ الْوَاسِعُ الَّذِي يُغَطِّي جَمِيعَ الْبَدَنِ، وَهُوَ بِمَعْنَى: الْمَلَاءَةِ وَالْعَبَاءَةِ، فَتَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثِيَابِهَا مِنْ أَعْلَى رَأْسِهَا مُدْنِيَةً وَمُرْخِيَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهَا وَسَائِرِ جَسَدِهَا، وَمَا عَلَى جَسَدِهَا مِنْ زِينَةٍ مُكْتَسَبَةٍ، مُمْتَدًّا إِلَى سَتْرِ قَدَمَيْهَا"(حِرَاسَةُ الْفَضِيلَةِ).
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ), خَرَجَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنَ السَّكِينَةِ, وَعَلَيْهِنَّ أَكْسِيَةٌ سُودٌ يَلْبَسْنَهَا"(رواه أبو داود). اللهُ أَكْبَرُ! مَا أَعْظَمَ هَذَا الِامْتِثَالَ لِأَمْرِ اللهِ -تَعَالَى-! مَا كَانَ لَهُنَّ أَنْ يَتَرَدَّدْنَ أَوْ يُنَاقِشْنَ الْأَمْرَ, أَوْ يَتَحَجَّجْنَ بِأَنَّهُنَّ اعْتَدْنَ السُّفُورَ وَنَشَأْنَ عَلَيْهِ, بَلْ هُوَ اسْتِسْلَامٌ وَانْقِيَادٌ تَامٌّ لِلشَّرْعِ؛ سَمْعًا وَطَاعَةً, مَحَبَّةً وَرَغْبَةً, وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمُؤْمِنَةُ!.
فَأَيْنَ تِلْكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ الصَّالِحَاتُ مِنْ بَعْضِ نِسَاءِ عَصْرِنَا -هَدَاهُنَّ اللهُ-, مِمَّنْ نَشَأْنَ عَلَى الْحِجَابِ وَالسَّتْرِ مُنْذُ طُفُولَتِهِنَّ, فِي بِيئَةٍ مُسْلِمَةٍ فَاضِلَةٍ تُعِينُ الْمَرْأَةَ عَلَى حِجَابِهَا, وَلَكِنَّهُنَّ يَأْبَيْنَ إِلَّا اتِّبَاعَ الشَّيْطَانِ؛ فَتَنْزِعُ الْمَرْأَةُ حِجَابَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا؟! فَلْتَحْذَرِ الْمُسْلِمَةُ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ؛ فَقَدْ حَذَّرَنَا اللهُ مِنْهُ؛ (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا)[الأعراف: 27], وَلْنَحْذَرْ دُعَاةَ الْبَاطِلِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى الِانْحِلَالِ وَالتَّبَرُّجِ وَالسُّفُورِ.
فَأَيْنَ مَنْ كَانَتِ الزَّهْرَاءُ أُسْوَتَهَا *** مِمَّنْ تَقَفَّتْ خُطَى حَمَّالَةِ الْحَطَبِ؟!
أَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ حَقَّ حَمْدِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ لِلْعِبَادِ, وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخرَةِ, وَفِي فَرْضِ اللهِ الْحِجَابَ عَلَى الْمُؤْمِنَاتِ تَتَجَلَّى كَثِيرٌ مِنْ حِكَمِ وَمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ فِي تَكْرِيمِ الْمَرْأَةِ وَصِيَانَتِهَا عَنْ كُلِّ فَسَادٍ وَرِيبَةٍ؛ تَحقِيقًا لِمَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ, وَمَصْلَحَةِ الرَّجُلِ, وَمَصْلَحَةِ الْمُجْتَمَعِ؛ فَمِنْ مَقَاصِدِ الْحِجَابِ:
أَنَّهُ حَائِلٌ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأَطْمَاعِ الرِّجَالِ, وَوِقَايَةٌ لَهَا مِنَ الْأَذَى؛ (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ)[الأحزاب: 59]؛ قَالَ أَبُو حَيَّانَ: "الْمَرْأَةُ إِذَا كَانَتْ فِي غَايَةِ التَّسَتُّرِ وَالِانْضِمَامِ، لَمْ يُقْدَمْ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْمُتَبَرِّجَةِ؛ فَإِنَّهَا مَطْمُوعٌ فِيهَا"(البحر المحيط).
وَمِنْ مَقَاصِدِهِ: تَمْيِيزُ الْمَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ فِي لِبَاسِهَا؛ فَالْمَرْأَةُ تُخَالِفُ الرَّجُلَ فِي خِلْقَتِهَا, وَمِنْ هُنَا لَا بُدَّ أَنْ تَتَمَيَّزَ فِي لِبَاسِهَا, وَتَأْكِيدًا لِهَذَا حَرَّمَ الْإِسْلَامُ تَشَبُّهَ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ وَتَشَبُّهَ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْعَبَثِ بِسُنَنِ اللهِ -تَعَالَى-، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا طَبِيعَتُهُ وَتَكْوِينُهُ الَّذِي يَخْتَلِفُ عَنِ الْآخَرِ.
وَمِنْ مَقَاصِدِهِ: أَنَّهُ يَقِي الرِّجَالَ الْوُقُوعَ فِي الْفَوَاحِشِ, كَمَا يُسَاعِدُ فِي تَطْهِيرِ قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ, الشَّيْطَانِيَّةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الشَّهَوَاتِ.
وَمِنْ مَقَاصِدِهِ: سَدُّ أَبْوَابِ الْفَوَاحِشِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ, فَاللهُ -تَعَالَى- حَرَّمَ الزِّنَا, وَحَرَّمَ كُلَّ وَسِيلَةٍ إِلَيْهِ, فَأَمَرَ بِغَضِّ الْبَصَرِ؛ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)[النُّور: 30]، وَقَالَ لِلنِّسَاءِ: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)[النُّور: 31]؛ وَزَادَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ)[النُّور: 31], قَالَ الْجَصَّاصُ: "الْعَيْنُ إِذَا لَمْ تَرَ لَمْ يَشْتَهِ الْقَلْبُ, أَمَّا إِذَا رَأَتِ الْعَيْنُ فَقَدْ يَشْتَهِي الْقَلْبُ, وَقَدْ لَا يَشْتَهِي, وَمِنْ هُنَا كَانَ الْقَلْبُ عِنْدَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ أَطْهَرَ, وَعَدَمُ الْفِتْنَةِ حِينَئِذٍ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْحِجَابَ يَقْطَعُ أَطْمَاعَ مَرْضَى الْقُلُوبِ"(أحكام القرآن).
فَالْحِجَابُ بِصُوَرِهِ الْمُخْتَلِفَةِ يُطَهِّرُ الْمُجْتَمَعَ مِنْ مُحَرِّكَاتِ الشَّهْوَةِ وَعَوَامِلِ إِثَارَتِهَا؛ لِكَيْ يَتَّجِهَ النَّاسُ إِلَى مَا فِيهِ نَفْعُ وَخَيْرُ الْمُجْتَمَعِ, وَالْوَاقِعُ يَشْهَدُ أَنَّ الْمُجْتَمَعَاتِ الَّتِي يَنْتَشِرُ فِيهَا السُّفُورُ وَالتَّبَرُّجُ هِيَ مُجْتَمَعَاتٌ بَهِيمِيَّةٌ يَكْثُرُ فِيهَا الزِّنَا وَالْفَوَاحِشُ!.
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: إِنَّ كُلَّ مَا شَرَعَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَضَائِلِ, وَكُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الْأَضْرَارِ وَالْقَبَائِحِ؛ (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)[الأعراف: 157], وَلِلْحِجَابِ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا:
أَنَّ فِيهِ امْتِثَالًا وَانْقِيَادًا لِأَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ, دَخَلَ نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَلَيْهِنَّ ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَقَالَتْ: "إِنْ كُنْتُنَّ مُؤْمِنَاتٍ؛ فَلَيْسَ هَذَا بِلِبَاسِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَإِنْ كُنْتُنَّ غَيْرَ مُؤْمِنَاتٍ؛ فَتَمَتَّعْنِ بِهِ"(تفسير القرطبي).
وَمِنْ فَضَائِلِهِ: أَنَّهُ طَهَارَةٌ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: "فَأَمَّا اللَّحَظَاتُ فَهِيَ رَائِدُ الشَّهْوَةِ وَرَسُولُهَا، وَحِفْظُهَا أَصْلُ حِفْظِ الْفَرْجِ، فَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ أَوْرَدَ نَفْسَهُ مَوَارِدَ الْمُهْلِكَاتِ"(الجواب الكافي).
وَمِنْ فَضَائِلِهِ: تَقْوِيَةُ حَيَاءِ الْمَرْأَةِ, فَالْمَرْأَةُ مَفْطُورَةٌ فِي تَكْوِينِهَا عَلَى الْحَيَاءِ, وَالْحِجَابُ عَلَامَةٌ عَلَى ذَلِكَ, وَهُوَ خُلُقٌ يَمْنَعُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الرَّذَائِلِ, قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ", وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ".
وَمِنْ فَضَائِلِهِ: أَنَّهُ يُحَافِظُ عَلَى كَرَامَةِ الْمَرْأَةِ, وَيَصُونُهَا مِنَ النَّظَرَاتِ الْوَقِحَةِ, وَالْكَلِمَاتِ الْقَبِيحَةِ, وَيُكْسِبُهَا التَّقْدِيرَ وَالِاحْتِرَامَ.
وَمِنْ فَضَائِلِهِ: أَنَّهُ سَتْرٌ لِمَفَاتِنِ الْمَرْأَةِ وَجَمَالِهَا, فَلَا تُبْدِيهِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا, وَكَفَى بِذَلِكَ مِنْ فَضْلٍ؛ فَالْمَرْأَةُ فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ سِلْعَةً رَخِيصَةً يَتَمَتَّعُ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ, حَتَّى مُجَرَّدِ الْوَصْفِ بِالْكَلَامِ, فَقَدْ نُهِيَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَصِفَ لِزَوْجِهَا امْرَأَةً أُخْرَى, قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتُهَا لِزَوْجِهَا؛ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا"(متفق عليه).
اعْلَمُوا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- أَنَّ جَمَالَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ فِي جَسَدِهَا فَقَطْ؛ فَجَمَالُهَا فِي جِسْمِهَا وَثِيَابِهَا وَزِينَتِهَا وَصَوْتِهَا وَحَرَكَتِهَا, وَمِنْ هُنَا أَمَرَهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ تَصُونَ جَمَالَهَا كُلَّهُ عَنْ أَعْيُنِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ؛ حَتَّى لَا تَكُونَ مَطْمَعًا لِشَهَوَاتِهِمْ, وَحِفْظًا لِعِرْضِهَا وَشَرَفِهَا مِنَ الْفُحْشِ وَالرِّيبَةِ؛ لِذَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَسَتَّر بِالْحِجَابِ الشَّرْعِيِّ الْكَامِلِ, وَتَقَرَّ فِي بَيْتِهَا فَلَا تَخْرُجْ مِنْهُ إِلَّا لِحَاجَتِهَا, وَأَنْ لَا تَخْضَعَ بِالْقَوْلِ لِلرِّجَالِ الْأَجَانِبِ, وَأَنْ يَكُونَ كَلَامُهَا بِالْمَعْرُوفِ, فَأَلْزِمُوا أَزْوَاجَكُمْ وَبَنَاتِكُمْ بِالْحِجَابِ الشَّرْعِيِّ, وَحَذِّرُوهُنَّ مِنَ التَّبَرُّجِ وَالسُّفُورِ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ؛ وكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"(متفق عليه).
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
التعليقات