الشيخ أبو الوفاء محمد درويش
جاء الإسلام فنهض بالأمم التي دانت به إلى مستوى من العلم سبقت إليه من يعاصرها من الأمم الأخرى جميعًا، فأفاض عليها العلم قوة وعظامة[1] وهيبة، ومكن لها في الأرض، وآتاها من كل شيء سببًا، وشق لها طريقًا إلى الفنون والصناعات، فبلغت فيها الذِّروة، وانتهت إلى حد غبطتها عليه الأمم التي لها فيها سابقة وقدم، ولكن لم تكد تنسلخ القرون الخيِّرة، حتى أخذت الأمة الإسلامية تنغمس في جهل عميق لا يدرك له قاع، ولا يعرف له قرار.
وأول ما ظهر من أعراض هذا الداء الوبيل: الجهل بأمور الدين، دُفِعت الأمة إليه دفعًا، وحُمِلت عليه حملًا، أكثر العلماء من تشقيق المسائل، وتفريغ الفروع، وتنافسوا في ذلك تنافسًا دفعهم إلى وضع المؤلفات الضخمة، والأسفار الكبيرة، حرصًا على أن يعرف كلٌّ بأنه أرسخ من أخيه في العلم قدمًا، وأطول باعًا، وأغزر مادة، وأوسع اطلاعًا، وأكثر تصنيفًا، وأضخم تأليفًا، ثم حظروا على الأمة أن تستهدي بالقرآن الكريم أو السنة المطهرة، وزعموا لها أنها أضعف إدراكًا، وأقصر باعًا، من أن تنر في الكتاب أو السنة، نظر المستهدي أو المستبصر المستفيد، وأوجبوا عليها أن تقلد حبرًا منهم، وأن تطفئ نور عقلها، وأن تضع غشاوة على بصيرتها، وخيلوا إليها أن عقولها مهما تتسع آفاقها، فلن تبلغ عقول الأولين، كأن الله الذي خلق عقول الأولين عجز عن أن بخلق مثلها للآخرين، أو كأن خزائن فضله نفدت فلم يبق فيها ما يمنحه الآخرين.
رأت الأمة نفسها أمام جبال من العلم لا يتسنى لها حملها، ووقر في نفسها أنها لم تهيأ لهذا العلم ولم تخلق له، فانصرفت عنه لاعتقادها أن تحصيله من المستحيل إلا على فئة قليلة تنصرف إليه عن كل شيء، وتفني حياتها في الاقتصار عليه والتوفر على تحصيله، ثم تتخذه مرتزقًا تكسب منه قوت اليوم من لقمة الخبز وجرعة الماء.
جهلت الأمة أمر دينها، وأصبحت الكثرة الكثيرة منها عالة في أمر دينها على شرذمة قليلين تصدر عن رأيهم، وتعمل بقولهم، وتتمثل بهم في اعتقاداتها وعباداتها.
جهلت أمر دينها ففسدت عباداتها، وساءت اعتقاداتها، أصبحت عباداتها صورًا وأشكالًا لا روح فيها ولا حياة، حتى الصلاة التي هي عماد الدين أصبحت مجرد حركات وهيئات لا تصدر عن علتها الصحيحة، ولا تشمر عن ثمرتها المرجوة، وحتى عقيدة التوحيد التي هي أصل الإيمان، وأساس دعوة القرآن، فسدت فسادًا لم يبرأ من دائه كثير من العلماء الذين كانت الأمة ترجوهم لإصلاح فسادها، وتنوط بعلمهم أملها في رأب ما أثأته يد الجهلة.
بالملح مصلح ما نخشى تغيُّره *** فكيف بالملح إن حلت به الغير؟؟
أصبح المسلمون - إلا قليلًا ممن عصم الله - يدعون غير الله، ويستعينون الموتى والأحياء في أمور لا يقدر عليها إلا رب العزة، وما ذلك إلا للجهل الذي ران على عقول كثير من العلماء، فحجب عن بصائرهم نور الحق فضلوا عن سواء السبيل.
إن آيات الأحكام في القرآن الكريم لا تزيد على خمسين ومائة آية، وإن أحاديث الأحكام لا تتجاوز خمسمائة وألف حديث، وهي من السهولة واليسر والوضوح، بحيث لو سمعها سواد الأمة لفهموها وأحاطوا بمعناها علمًا، ولكن أنى لهم أن يسمعوها وقد حرم عليهم العلماء النظر والاستهداء!
أو اقتصر المسلم على استقاء التوحيد من منهل القرآن الكريم، ذلك النبع الصافي النمير، ما فسدت عقيدته، ولا تسربت إليها أوضار الشرك وأقذاره، ولو تعاون العلماء على أن يضعوا للناس كتبًا موجزة، يجمعون فيها صحاح الأحاديث الواردة في العبادات والمعاملات - ما زهدت الأمة في طلب العلم، ولا نفرت من التحصيل والاطلاع، ولأقبلت على هذه الكتب توسعها درسًا وفهمًا وحفظًا.
لم يقف الجهل بنا عند حد الدين، بل امتد إلى كل شيء نافع، جهلنا العلوم الكونية التي أمرنا الله أن ننظر فيها، وأن نستمد منها العظة والعبرة؛ قال تعالى: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [يونس: 101]، وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 185]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164].
جهلنا هذه العلوم فجهلنا كثيرًا من أسرار الطبيعة وقوى الكون التي سخرها لنا مدبر الكائنات؛ لننتفع بها في حياتنا الدنيا وعرفها غيرنا، فخضعت لهم العناصر، وذلت لهم قوى الوجود، عرفوا البخار وأسراره، فسخروه في إدارة الآلات المتفرقة، عرفوا الكهرباء فانتفعوا بها في شتى المنافع، وأحدثوا المعجزات، ولم ينتهوا بعد من الغوص على أسرارها، وما برحوا يكشفون كل يوم من نواميسها غريبًا، ويهتكون من أسرارها عجيبًا، حتى لقد نقلوا أخفى الأصوات إلى أقصى الجهات، ونقلوا الصور والرسائل إلى أبعد الأقطار من وراء البحار، ولا يزالون يواصلون البحث عن أعمق من هذه الأسرار.
جهلنا تدبير المنزل، فأصبحنا ننفق أكثر مما نكسب، حتى رزحنا تحت أوقار الدَّيْن، والدين هم بالليل ومذلة بالنهار، وخرجت الثروة من أيدينا، ورسفنا في قيود الافتقار.
جهلنا الصناعات المهمة التي يقتضيها نظام العمران، فأصبحنا عيالًا على الأجانب، إذا حبسوا عنا وارداتهم، حرنا في أمرنا، ووقفنا لا نبدي ولا نعيد.
الكثير من بلاد الإسلام لا يحسنون نسج الثياب التي يلبسون، ولا صنع الآنية التي فيها يأكلون ويشربون.
ثيابنا وفرشنا وأغطيتنا، وأثاث بيوتنا وأدوات طعامنا وشرابنا، وآلات صُنَّاعنا؛ وأقلامنا ومدادنا وأوراقنا، كل هذا من صنع غيرنا، حتى الإبرة والخيط والقارورة، بَلْه السيارة والطيارة، والقاطرة والباخرة.
جهلنا الزراعة، فما نزال نصطنع الآلات القطرية التي كان يصطنعها آباؤنا الأولون قبل أن تكتب صحائف التاريخ، جهلنا استغلال الأرض وما زال الكثير من أرضنا بطاحًا جرداء، في وسعنا أن نحيلها إلى حدائق غناء، أو خمائل غيداء، أو غابات شجراء، لو أننا عرفنا كيف نستخدم القوى المعطلة في أجسامنا وأموالنا وأرضنا!
جهلنا التجارة، فما زال تاجرنا على بداوته وسذاجته، يشتري السلع ليبيعها ويكسب فرق الثمن، وهذا مبلغ علمه بالتجارة، وهو لا يدري كيف ينسقها في متجره، ولا كيف يغري المشترين بإحسان عرضها، ولا كيف ينظم وضعها في حانوته؛ حتى تكون السلع في متناول يده كلما أراد، ولا يكف يكسب ثقة الناس بصدقه وأمانته، وحسن معاملته وبشاشته ولطفه وكياسته.
ما أقل التجار الذين نرى تجارتهم تنمو وترفع رؤوسها! وما أكثر الذين ينفقون كل ما يكسبون، وكأن أموالهم أقسمتْ لتَبقينَّ حيث وضعها الجهل، لا تزيد درهمًا ولا سحنونًا، لا أحدثك عن التجار الذين يدفعهم الجهل إلى أكل مكاسبهم، والقطع من رؤوس أموالهم، فتأخذ تجارتهم في الذبول والاضمحلال، كأنها المصائب تبدو عظيمة ثم تصغر، ثم يقضي بهم الأمر إلى المصير المحتوم، وهو الإفلاس الذي يتردون في هوته، الذي ينتظره كل تاجر يحترف التجارة وهو يجهل قواعدها وأصولها.
ولو رحتُ أُعدد صنوف الجهل الذي أصابنا، لملأت صفحات وصفحات، فلأقف عند هذا الحد، وفي الإشارة ما يغني عن العبارة:
هذا هو الداء، فما الدواء؟
دواؤنا أن نتعلم، وأن نحارب الجهل، وأن نشن عليه غارة شعواء لا هوادة فيها؛ حتى نجليه عن بلادنا، ونشق لأنفسنا طريقًا إلى الحياة السعيدة بين الأمم الرشيدة.
دواؤنا أن نتعلم ديننا قبل كل شيء، وأن نصحح عقيدتنا عبادتنا، وأن نعرف بقدر الإمكان أسرار هذا الدين الحنيف الذي أكمله الله، وأتم به علينا النعمة ورضِيه لنا دينًا.
ولست الآن بسبيل تقرير مناهج للتعليم في الدين والعلوم الكونية والصناعة والزراعة والتجارة، ولكني أوجز القول وأشير إشارة عامة إلى أن العمل أقوم سبل الرقي وأهداها وأمثلها، ولا يتسنى لأمة أن تسير في طريق المجد والقوة والعظامة، ما لم يكن العلم أمضى أسلحتها.
أروني أمة بلغت مناها *** بغير العلم أو حد الحسام
مجلة الهدي النبوي - المجلد السادس - العدد (23-24) - ذو الحجة سنة 1361هـ
[1] العظامة والعظم ضد الصغر.
التعليقات