عناصر الخطبة
1/ الجهاد رفعة لدين الله 2/ فضل الجهاد والغزو 3/ ضوابط الجهاد الشرعي وشروطهاهداف الخطبة
اقتباس
إِنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةُ وَعَمَلٌ دِينِيٌّ، وَلِذَلِكَ فَلا يَكُونُ مَرْجِعُ إِقَامَتِهِ إِلَى الْهَوَى أَوِ الْعَقْلِ، بَلْ إِلَى الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ بِفَهْمِ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينِ فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ تَكَاثَرَتْ بِحَمْدِ اللهِ النُّصُوصُ فِي الْجِهَادِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَنَذْكُرُ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ ضَوَابِطَ بِأَدِلِّتِهَا؛ أَسْأَلُ اللهَ لَنَا جَمِيعَاً السَّدَادَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَل.
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الذِي شَرَعَ الْجِهَادَ لِحِمَايَةِ حَوْزَةِ الدِّين، وَجَعَلَهُ ذَرْوَةَ سَنَامِ الإِسْلَامِ وَرِفْعَةً وَعِزَّةً لِلْمُسْلِمِين، أَحمْدُهُ سُبْحَانَهُ فَقَدْ جَعَلَ الْكَرَامَةَ لِحِزْبِهِ وَأَيَّدَهُمْ بِنَصْرِهِ الْمُبِين، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الأَمِين، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيراً.
أَمَّا بَعْدَ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ وَقُرْبَةٌ أَكِيدَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَة، وَخصْلَةٌ تَسَابَقَ إِلَيْهَا الأَتْقِيَاءُ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهَا الأَنْبِيَاءُ وَفَعَلَهَا مِنْ عِبَادِ اللهِ الْعُلُمَاءُ وَالصُّلَحَاءُ.
إِنَّ الْجِهَادَ رِفْعَةٌ لِرَايَةِ الدِّينِ، وَغَلَبَةٌ لِعِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، وَإِذْلَالٌ لِلْكَفَرَةِ وَالْمُنَافِقِين.
إِنَّ الْجِهَادَ فِيهِ الأُجُورُ الْعَظِيمَةُ، وَالْفَضَائِلُ الْكَثِيرَةُ وَالْمَنَاقِبُ الْكَبِيرَة، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ: يَغْفِرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ (مِنْ دَمِهِ)، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُحَلَّى عَلَيْهِ حُلَّةُ الْإِيمَانِ، وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثنَتيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ هَذِهِ الأَدِلَّةَ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، وَغَيْضٌ مِنْ فَيْضٍ فِي فَضَائِلِ الْجِهَادِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْخُطْبَةِ بَيَانَ تِلْكَ الْفَضَائِلِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُنَا الْيَوْمَ الإِشْارَةُ إِلَى الْفَضَائِلِ وَبَيَانُ ضَوَابِطَ فِي الْجِهَادِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَبِسَبَبِ الْجَهْلِ الذِي نَعِيشُ فِيهِ الْتَبَسَ الأَمْرُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ بِمَا يَجِبُ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةُ وَعَمَلٌ دِينِيٌّ، وَلِذَلِكَ فَلا يَكُونُ مَرْجِعُ إِقَامَتِهِ إِلَى الْهَوَى أَوِ الْعَقْلِ، بَلْ إِلَى الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ بِفَهْمِ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينِ فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ تَكَاثَرَتْ بِحَمْدِ اللهِ النُّصُوصُ فِي الْجِهَادِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَنَذْكُرُ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ ضَوَابِطَ بِأَدِلِّتِهَا؛ أَسْأَلُ اللهَ لَنَا جَمِيعَاً السَّدَادَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَل.
أَوَّلاً: لا يَكُونُ الْقِتَالُ جِهَاداً شَرْعِياً إِلَّا إِذَا كَانَ فِي سَبِيلِ اللهِ، بِأَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْمُقَاتِلِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟! قَالَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ثَانِياً: لا بُدَّ فِي الْقِتَالِ أَنْ يَكُونَ بِفَتْوَى الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْعِلْمِ وَالرَّوِيِّةِ وَبُعْدِ النَّظَرِ وَتَقْدِيرِ الأُمُورِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً).
وَلا شَكَّ أَنَّ الْجِهَادَ مِنْ أَعْظَمِ الأُمُورِ التِي تَهُمَّ الأُمَّةَ جَمْعَاءَ، فَلا يَتَكَلَّمُ فِيهَا آحَادُ النَّاسِ أَوْ أَنْصَافُ الْمُتَعَلِّمِينَ أَوِ الْوُعَّاظُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُوكَلَ الأَمْرُ لِأَهْلِهِ.
وَأَمَّا مَا ابْتُلِينَا بِهِ مِنْ بَعْضِ الشَبِيبَةِ الذِينَ يَدْفَعُهُمُ الْحَمَاسُ، فَيَسْأَلُونَ عَالِماً يُرِيدُونَهُ أَنْ يُفْتِي بِالْجِهَادِ فِي بَعْضِ الْمَنَاطِقِ، فَإِذَا قَالَ: لا، أَوْ قَالَ: هَذَا قِتَالُ فِتْنَةٍ، طَارُوا بِهِ وَشَكَّكُوا فِيهِ، بَلْ وَرَمُوهُ بِالْمُدَاهَنَةِ أَوْ أَنَّهُ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلاطِينِ أَوْ مِنَ الْمُخَذِّلِينَ، فَهَذَا مِنَ الْبَلاءِ وَالْفِتْنَةِ التِي تَمُوجُ بِهَا السَّاحَةُ هَذِهِ الأَيَّام، نَسْأَلُ اللهَ الْهِدَايَة.
ثَالِثاً: لا بُدَّ فِي الْجِهَادِ مِنْ إِذْنِ الْوَالِدَيْنِ، فَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلاً هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: "هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ؟!"، قَالَ: أَبَوَايَ. قَالَ: "أَذِنَا لَكَ؟!"، قَالَ: لاَ. قَالَ: "ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ وَإِلاَّ فَبِرَّهُمَا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ الأَلْبَانِيُّ: صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ. وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِوٍ -رَضِيُ اللهُ عَنْهُمَا-.
فَتَأَمَّلُوا هَذَا: أَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْيَمَنِ، وَالْمَسَافَةُ بَعِيدَةُ، وَوَسَائِلُ النَّقْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَطِيئَةٌ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَفْصِلْ: هَلْ أَبَوَاهُ مُحْتَاجَانِ لَهُ أَمْ لَا؟! وَهَلْ عِنْدَهُمَا غَيْرُهُ مِنَ الْوَلَدِ أَوْ لا؟!
فَدَلَّ الْحَدِيثُ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى وُجُوبِ إِذْنِ الْوَالِدَيْنِ فِي الْجِهَادِ.
رَابِعاً: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجِهَادِ وُجُودُ رَايَةٍ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهَا، يَقُودُهَا إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَنْ يُنيبُهُ، وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، فَفِي هَذِهِ الآيَةِ: النَصُّ عَلَى وُجُوبِ لُزُومِ أُولِي الأَمْرِ فِي حَالِ الأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَلا شَكَّ أَنَّ الْجِهَادَ وَالْغَزْوَ مِنَ أُمُورِ الأَمْنِ وَالْخَوْفِ التِي يَنْبَغِي عِنْدَهَا الرُّجُوعِ إِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنَ الأُمُرَاءِ، وَأَصْحَابِ الْوِلايَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَمِنَ الأَدِلَّةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَال...) فَفِي هَذِهِ الآيَةِ: يَأْمُرُ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِحَثِّ أَتْبَاعِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، وَلَمْ يَأْمُرِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَثِّ بَعْضِهِمْ بَعْضاً، وِإِنَّمَا خَصَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ وَلِيُّ الأَمْرِ، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّحْرِيضَ عَلَى الْقِتَالِ مِنْ خَصَائِصَ السُّلْطَانِ وَلَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ غَيْرِهِ.
وَمِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قال: "كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي". وَفِيهِ سَؤُالُهُ: فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُم"، فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ؟! قَالَ: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهُا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكْ". رَوَاهُ مُسْلِم.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمُسْلِمَ مُطَالَبٌ بِلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامِهِمْ فِي كُلِّ حَال، وَمِنْ ذَلِكَ أُمُور الْجِهَادِ وَالْغَزْوِ وَأُمُور الأَمْنِ وَالْخَوْفِ. وَأَيْضاً فَإنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِاعْتِزَالِ الْفِرَقِ الْمُخَالِفَةِ لِلْجَمَاعَةِ حِينَمَا لا يَكُونُ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِقِتَالِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ لا يَكُونُ إِلَّا خَلْفَ إِمَامٍ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ النّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ حُذَيْفَةَ بِاعْتِزَالِ هَذِهِ الْفِرَقِ، حِينَمَا لا يَكُونُ إِمَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ اعْتِزَالَ هَذِهِ الْفِرَقِ -وَمِنْهَا الْفِرَقُ الِجهَادِيَّةُ الْمَوْجُودَةُ الْيَوْمَ- فِي حَالِ وُجُودِ إِمَامٌ الْمُسْلِمِينَ مِنَ بَابِ أَوْلَى.
اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقاً وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، وَلا تَجْعَلْهُ مُلْتَبِساً عَلَيْنَا فَنَضِل.
أَقُولُ قَولِي هَذَا وأَسْتِغْفِرُ الله العَظِيمَ لي ولكُم فاستغْفِرُوهُ إِنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ الْبَرِّ الرَّحِيمِ، الْحَلِيمِ الْعَظِيم، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى النَّبِيِّ الْكَرِيم، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ.
أَمّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُون: اتقُوا اللهَ وَالْزَمُوا عُلَمَاءَكُمْ، وَتَثَبَّتُوا فِي أَمُوركِمْ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَغْزُوُّونَ مِنَ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ؛ لِأَنَّ بِلادَكُمْ بِلادُ الدِّينِ وَالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ وَبِلادُ الْمَالِ، فَلَدَيْنَا الْبِتْرُولُ الذِي هُوَ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ، فَأَعْدَاؤُنَا يُرِيدُونَ سَلَبْ هَاتَيْنِ النِّعْمِتَيْنِ مِنَّا فَاحْذَرُوهُمْ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ مَسْأَلَةَ تَرْكِ أَمْرِ الْجِهَادِ لِوَلِيِّ الأَمْرِ صَارَتْ مُشَكَّكاً فِيهَا عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّنَا نُؤَكِدُ عَلَيْهَا وَنَذْكُرُ مَزِيداً مِنَ الأَدِلَّةِ فِيهَا لِيَكُونَ الْمُسْلِمُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ دِينِهِ.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ: "قَوْلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) مَعْنَاهُ: إِذَا دَعَاكُمُ السُّلْطُانُ إِلَى غَزْوٍ فَاذْهَبُوا". فَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ: إِنْ لَمْ يَسْتِنْفرْكُم الإِمَامُ فَلا نَفِير.
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل -رَحِمَهُ اللهُ- فِي أُصُولِ السُّنَّةِ: وَالْغَزْوُ مَاضٍ مَعَ الأُمُرَاءِ -إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ- البَرِّ وَالْفَاجِرِ لا يُتْرَك.
وَقَالَ فَضِيلَةُ شَيْخِنَا الْعَلَّامُةُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالَحٍ الْعُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: "أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَقُولُونُ: نَحْنُ نَرَى إِقَامَةَ الْحَجِّ مَعَ الأُمُرَاءِ سَوَاءٌ كَانُوا أَبْرَاراً أَوْ فُجَّاراً، وَكَذَلِكَ إِقَامَةَ الْجِهَادِ مَعَ الأَمِيرِ، وَلَوْ كَانَ فَاسِقاً... لِأَنَّ الْمُخَالَفَاتِ فِي هَذِهِ الأُمُورِ مَعْصِيَةٌ للهِ وَرَسُولِهِ، وَتَجُرُّ إِلَى فِتَنٍ عَظِيمَةٍ. فَمَا الذِي فَتَحَ بَابَ الْفِتَنِ وَالْقِتَالِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالاخْتِلَافِ فِي الآرَاءِ إِلَّا الْخُرُوجِ عَلَى الأَئِمَّةِ؟!".
وَقَالَ أَيْضاً: "لا يَجُوزُ غَزْوُ الْجَيْشِ إِلَّا بِإِذْنِ الإِمَامِ مَهْمَا كَانَ الأَمْرُ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْغَزْوِ وَالْجِهَادِ هُمْ وُلاةُ الأُمُورِ، وَلَيْسَ أَفْرَادَ النَّاسِ، فَأَفْرَادُ النَّاسِ تَبَعٌ لِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَلا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَغْزُوَ دُونَ إِذْنِ الإِمَامِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الدِّفَاعِ، وَإِذَا فَاجَأَهُمْ عَدُوٌ يَخَافُونَ (بأسه وخطره) فَحِينَئِذٍ لَهُمْ أَنْ يُدَافِعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِتَعَيُّنِ الْقِتَالِ إِذَا".
وَسِئُلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ صَالِحٍ الْفَوْزَانِ -حَفِظَه ُاللهُ- عن شُرُوطِ الْجِهَادِ، وَهَلْ هِيَ مُتَوَفِّرَةٌ الآنَ؟! فَأَجَابَ: "شُرُوطُ الْجِهَادِ مَعْلَومَةٌ: أَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ قَوَّةٌ وَإِمْكَانِيَّةٌ لِمُجَاهَدِةِ الْكُفَّارِ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إِمْكَانِيَّةٌ وَلا قُوَّةٌ فَإِنَّهُ لا جِهَادَ عَلَيْهِمْ، فَالرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ كَانُوا فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَلَمْ يُشْرَعْ لَهُمُ الْجِهَادُ لِأَنَّهُمْ لا يَسْتِطِيعُون.
وَكَذَلِكَ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْجِهَادُ تَحْتَ قِيَادَةٍ مُسْلِمَةٍ، وَبِأَمْرِ وَلِيِّ الأَمْرِ، لِأَنَّهُ هُوَ الذِي يَأْمُرُ بِهِ وَيُنَظِّمُهُ، وَيَتَوَلَّاهُ وَيُشْرِفُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِنْ صَلاحِيَّاتِهِ، وَلَيْسَتْ مِنْ صَلاحِيَّاتِ أَيِّ أَحَدٍ أَوْ أَيِّ جَمَاعَةٍ تَذْهَبُ أَوْ تَغْزُو بُدُونِ إِذْنِ وَلِيِّ الأَمْرِ".
وَسُئِلَ حَفِظَهُ اللهُ: مَا حُكْمُ الذهَابِ إِلَى الْجِهَادِ دُونَ إِذْنِ وَلِيِّ الأَمْرِ؟! مَعَ أَنَّهُ يُغفرُ لِلْمُجَاهِدِ مِنْ أَوِّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ وَهَلْ يَكُونُ شَهِيداً؟!
فَأَجَابَ: "إِذَا عَصَى وِلِيَّ الأَمْرِ وَعَصَى وَالِدَيْهِ وَذَهَبَ فَإِنَّهُ لا يَكُونُ مُجَاهِداً، بَلْ يَكُونُ عَاصِياً".
فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنِ اسْتَمَعَ الْقَوْلَ فَاتَّبَعَ أَحْسَنَهُ، وَنَسْأَلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَحْفَظَ دِينَهُ وَيُعْلِي كَلِمَتَهُ وَأَنْ يَرُدَّ كَيْدَ أَعْدَاءِ الإِسْلَامِ فِي نُحُورِهِمْ، وَأَنْ يَجْمَعَ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنْ يُصْلِحَ وُلَاةَ أُمُورِهِمْ وَيُصْلِحَ لِلْوُلَاةِ بِطَانَتَهُمْ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيَن، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين.
التعليقات