عناصر الخطبة
1/ عظم حق الجار 2/ أصول حق الجوار 3/ من مظاهر إيذاء الجاراهداف الخطبة
اقتباس
ومن بين هذه الروابط العظيمة التي دعمها الإسلام وأوصى بمراعاتها وشدّد في التقصير في حقوقها وواجباتها رابطةُ الجوار، تلك الرابطةُ العظيمة التي فرّط كثير من الناس فيها ولم يرعوها حق رعايتها؛ إما جهلاً منهم بحقوق الجوار، وإمّا تناسيًا لها، أو لا مبالاة بأذى الجار والاعتداء عليه، ما سبب التنافر والتباغض بين المسلمين، بل...
أما بعد:
فإن الروابط بين الناس كثيرة، والصلاتِ التي تصلُ بعضَهم ببعض متعددة، فهناك رابطةُ القرابة ورابطةُ النسب والمصاهرة ورابطةُ الصداقة ورابطةُ الجوار، وغيرها من الروابط التي تقوم الأمم بها وتقوى بسببها، فمتى سادت هذه الروابط بين الناس على أساس من البر والتقوى والمحبة والرحمة عظمت الأمة وقوي شأنها، ومتى أُهملت هذه الحقوق وتفصّمت تلك الروابط شقيت الأمة وهانت وحل بها التفكك والدمار، من أجل ذلك -عباد الله- جاء الإسلام بمراعاة هذه الروابط وتقويمها وتمكينها وإحاطتها بما يحفظ وجودها ويعلي منارها بين المسلمين.
ومن بين هذه الروابط العظيمة التي دعمها الإسلام وأوصى بمراعاتها وشدّد في التقصير في حقوقها وواجباتها رابطةُ الجوار، تلك الرابطةُ العظيمة التي فرّط كثير من الناس فيها ولم يرعوها حق رعايتها؛ إما جهلاً منهم بحقوق الجوار، وإمّا تناسيًا لها، أو لا مبالاة بأذى الجار والاعتداء عليه، ما سبب التنافر والتباغض بين المسلمين، بل والعداء والكيد فيما بينهم، أفرادًا وجماعات، وحتى دُولاً مسلمةً متجاورة!!
أيها الإخوة في الله: الجار هو من جاورك جوارًا شرعيًا، سواء كان مسلمًا أم كافرًا، برًّا أم فاجرًا، صديقًا أم عدوًا، محسنًا أم مسيئًا، قريبًا أم أجنبيًا. وله مراتبُ بعضُها أعلى من بعض، تزيد وتنقص بحسب قربه وقرابته ودينه وخلقه، فيُعطى كلٌّ بحسب حاله وما يستحق.
فالجار الملاصق لك في الدار ليس كالبعيد، وله ما ليس للبعيد، والجارُ ذو القربى ليس كالجار الجُنب، وصاحبُ الدين ليس كالفاسق المؤذي. وكما يكون الجوار في المسكن فيكون في العمل والسوق والمسجد والسفر والدراسة ونحو ذلك، بل يشمل مفهوم الجوار التجاور بين الدول، فلكل دولةٍ على جارتها حقوق.
عباد الله: لقد أوصى الإسلام بالجار وأعلى من قدره، فللجار في الإسلام حرمة مصونة وحقوق كثيرة، لم تعرفها قوانين وشرائع البشر والدول، تلك القوانين والشرائع الوضعية التي تتنكّر للجار وتستمرئ العبث بحرمته.
فقد قرن الله حق الجار بعبادته وتوحيده وبالإحسان للوالدين واليتامى والأرحام، فقال -عز من قائل-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [النساء:36]. الجار ذو القربى: هو الذي بينك وبينه قرابة، أو مَن قرب جواره، وقيل: المسلم. والجار الجنب: الذي ليس بينك وبينه قرابة، أو غير المسلم.
هذه وصية الله -عز وجل- في كتابه، أما وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءت في صورة جليلة وتعبير مستفيض لمعاني وحقوق الجار، والوصاية به، والصيانة لعرضه، والحفاظِ والسترِ لعورته، وغضّ البصر عن محارمه، والبعد عن كل ما يريبه ويسيء إليه، قال فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثه".
معاشر المسلمين: إن حقوق جيراننا علينا كثيرةٌ عديدة، وكلُّها حقوق عظيمة، لا يجوز التساهلُ فيها أو الإخلال بها. وتَرْجعُ الحقوق بين الجيران في أصولها إلى أربعة حقوق:
الأول: كفّ الأذى، فقد جاء الزجر الأكيد والتحذير الشديد في حق من يؤذي جاره؛ لأن الأذى بغير حق محرم، وأذية الجار أشد تحريمًا، فعن أبي شريح -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: من يا رسول الله؟! قال: "من لا يأمن جارُه بوائقه". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جارُه بوائقه". وفي الصحيحين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل: يا رسول الله: إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار، وفي لسانها شيء، تؤذي جيرانها، سليطة، قال: "لا خير فيها، هي في النار"، وقيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدّق بالأثوار -أي: القطعة الكبيرة من الأقط- وليس لها شيءٌ غيره، ولا تؤذي أحدًا، وفي رواية الإمام أحمد: ولا تؤذي بلسانها جيرانها، قال: "هي في الجنة".
بل جاء الخبر بلعن من يؤذي جاره، ففي حديث أبي جُحيفة قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يشكو جاره، فقال له: "اطرح متاعك في الطريق"، قال: فجعل الناس يمرون به فيلعنونه -أي: يلعنون من كان يؤذي جاره-، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: ما لقيتُ من الناس، قال: "وما لقيتَ منهم؟!"، قال: يلعنونني، قال: "فقد لعنك الله قبل الناس"، قال: يا رسول الله: فإني لا أعود. أخرجه البخاري في الأدب المفرد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
فهل بعد هذه الأحاديث وهذا الترهيب الشديد من أذى الجار يتساهل متساهل بحقه ويتعرض لأذيته؟!
فكم -وللأسف- بيننا من صورٍ مشاهدةٍ ملموسةٍ للإخلال بهذا الحق العظيم بين الجيران في مثل مضايقة الجار بإيقاف السيارات أمام بابه لتُضيّق عليه دخولَه وخروجه، ومِنْ تركِ المياه تتسرب أمام منزله، وإيذائه بالروائح الكريهة المنبعثة من مياه المجاري والزبائل ونحوها، ومن إيذائه بمخلفات البناء التي لا داعي لبقائها أمام منزل الجار، أو إيذائه بالاعتداء على حقوقه كأخذ شيء من أرضه والتعدي على حدوده بإزالةٍ أو تغيير، أو بالسرقة من الجار وأخذ شيء من متاعه، سواء في العمل أو المدرسة أو السوق ونحو ذلك، فقد جاء عن المقداد بن الأسود قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فما تقولون في السرقة؟!"، قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام، قال: "لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره".
ومن صور الأذى للجيران التعدي على الجار بإيذاء أبنائه أو العبث بسيارته وممتلكاته، والإزعاج برفع الصوت المنكر، كصوت الغناء أو لعب الصبيان أو بالشجار، أو لعب الأولاد بالكرة، أو بطرق الأبواب، أو إطلاق منبّهات السيارات والإزعاج بها، وخاصة في وقت النوم والراحة، فكل هذه صورٌ من الأذى المحرم بين الناس وبين الجيران من باب أولى.
ومن صور أذية الجيران تأجير من لا يرغبون في إسكانه بينهم، كحال من يؤجر للعزّاب بين البيوت الآهلة بالحُرم، أو من يؤجر للفسقة المنحرفين الذين يخشى منهم إفساد أبناء الحي، أو كحال من يؤجر المحلات التي تجلب الضرر على الجيران، كقصور الأفراح ومحلات المقاهي والاستراحات ونحوها، قال ابن رجب -رحمه الله-: "ومذهب أحمد ومالك أن يمنع الجار من أن يتصرف في خاص ملكه بما يضرّ بجاره".
وقريب من هذا أن يبيع الرجل ما يملكه من منزل أو أرض دون عرض ذلك على جيرانه، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من كانت له أرض فأراد أن يبيعها فليعرضها على جاره".
ومن أعظم وأخطر صور الأذية للجار الخيانةُ والغدر به، كالتجسس عليه، والوشايةِ به عند أعدائه، وتتبع عوراته، والنظر إلى محارمه عبر سطح المنزل أو النوافذ المطلّة، أو حال زيارةِ الجيران لأهله، فإنه من أقبح الخصال وأحطِّها، ولا يصنع ذلك إلاّ لئيم خسيسُ الطبع، فإن العرب على جاهليتها كانت تأنف من مثل هذه الخصال الدنيئة وتأباها وتفخر بالترفّعِ عنها كما قال عنترة:
وأغضّ طرفي إن بدت لي جـارتي *** حتى يواري جارتي مأواها
أين هذا من أخلاق وتصرفات بعض قليلي المروءة والحياء حين ينتظرون جاراتهم ويرقبونهن حال دخولهن وخروجهن من بيوتهن؟! وأين هذا من حال أولئك الغادرين الخائنين الذين نشاهدهم كل يوم وهم ينتظرون حافلات الرئاسة ونحوها لنقل الطالبات؛ ليعاكسوا بنات الجيران ويؤذونهن؟! وأين هذا من فعل ذلك الغادر الخائن لجاره حين عاكس جارته عبر الهاتف أو جلس أمام منزلها مقابلاً لبابها، أمام دكانه أو مكتبه؟! فكم -وللأسف الشديد- تقع حالاتٌ من الخيانة والغدر والأذية في الأعراض بين الجيران، بل أغلبُ ما تكون هذه الأفعالُ الدنيئة صادرةً من جار على جاره -والعياذ بالله- أو جارة سيئة مع جارها، تُبدي له زينتها وتتبرج أمامه، ما قد ينتج عنه خيانةٌ وغدر بالأعراض عن طريق ارتكاب المنكرات والفواحش بين الجيران، وهذا في غاية الفحش والبشاعة؛ لأن فاعل ذلك قد جمع جرائم عدّة، كلُّ جريمة أكبرُ من أختها، من الاعتداء على حق الله، وعلى حق الزوج، وهتك حرمة الجار الذي ينتظر من جاره أن يصونه ويحافظ على عرضه حال غيابه.
ولهذا جاء الوعيد الشديد من النبي -صلى الله عليه وسلم- محذرًا كلَّ معاكسٍ وغادرٍ ومتطلع على عورات جيرانه ونسائهم، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟! قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك"، قلت: ثم أي؟! قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك"، قلت: ثم أي؟! قال: "أن تزاني حليلة جارك".
وعن المقداد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما تقولون في الزنا؟!"، قالوا: حرام حرّمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره".
ألا فليتق الله أولئك الغادرون الخائنون الذين يتصيدون الفرص وينتهزون الأوقات؛ ليخونوا جيرانًا لهم ويؤذوهم ويغدروا بهم، عن طريق المعاكسات الحيّة والهاتفية، أو عن طريق النظر والمراسلة، فإن جُرْمَ ذلك عظيم وخطرَه جسيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب:58].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون- واقدروا الجار حق قدره، واحذروا أذيته، فهو أول حق لكل جار على جاره، أن يكفّ أذاه عنه، بأي صورة كان الأذى، حسيًّا كان أم معنويًّا، في دينه أو ممتلكاته أو عرضه وهو أشدّ.
أيها الإخوة في الله: وثاني حقوق الجار على جاره: حمايتُه، فمن الوصاية بالجار ومن حقه حمايتُه، سواء أكان ذلك في عرضه أم بدنه أم ماله، فقد كانت العرب تفاخر بحماية الجار حتى ملأت أشعارهم:
وإني لأحمي الجار من كل زلةٍ *** وأفرح بالضيف المقيم وأبهج
أما ما يحدث اليوم من إخلال بهذا الحق بين الجيران فأمر لا يجوز، كاحتقاره والسخرية به، إما لفقره أو لجهله أو بكشف أستاره؛ لأن الجار أقرب الناس إلى جاره، أو بتتبع عثراته والفرح بزلاّته، أو تنفير الناس من الجار إذا أرادوا خِطبة منه أو تعاملاً معه، كل ذلك دون ما مناسبة، وإنما لؤمًا وخسّةَ طبع وقلّة دين.
وثالث الحقوق بين الجيران: الإحسان، فلا يكفي الإنسان في حسن الجوار أن يكفّ أذاه عن جاره، أو أن يدفع عنه بيده أو جاهه يدًا طاغية أو لسانًا مفزعًا، بل يدخل في حسن الجوار أن يحسن إليه في كافة وجوه الإحسان، فذلك دليل الفضل وبرهانُ الإيمان وعنوانُ الصدقِ والعرفان، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره"، وفي رواية: "فليكرم جاره".
فمن حسن الجوار أن تعزّي جارك عند المصيبة، وتهنئه عند الفرح، وتعودَه عند المرض، وتبدأه بالسلام، وتُطلق له وجهك عند اللقاء، وترشدَه إلى ما ينفعُه في أمر دينه ودنياه، وتواصلَه بما تستطيع من ضروب الإحسان، فقد يكون محتاجًا مُعدمًا، أو قد ركبته الديون، أو لديه مريض، أو في البيت أرامل وأيتام، وأنت لا تعلم عنهم شيئًا، وهم أولى بالإحسان من الأباعد.
ومن الإحسان للجيران تفقّدهم بالطعام، فمع أنه لا يكلف شيئًا إلا أن الغفلة عنه بين الجيران كبيرة، وآثاره في التآلف بينهم عظيمة، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا طبخت مرقًا فأكثر ماءه، ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمعروف"، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع".
ومن صور الإحسان بين الجيران التهادي بينهم، فقلّ أن يسلم الجيران من هفوات وزلاّت، فتأتي الهدية لتزيل وتذيب ما قد يحصل في نفوس من حزازات وظنون سيئة.
إن الـهــدية حـلــوةٌ *** كالسحر تجتذب القلوبَ
تـدني البعيـد عـن الهـوى *** حتى تـصيّـره قريـبًا
وتعيـد مضطعـن العــدا *** وة بعد بُغـضته حبـيبًا
تنفي السخيمة عن ذوي الشـ *** ـحنا وتمتحـق الذنوبَ
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تهادُوا تحابُّوا"، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله: إن لي جارتين، فإلى أيهما أهدي؟! دلالة على تواصل السلف والنساء بالهدايا، قال: "إلى أقربهما منك بابًا".
وينبغي أن لا يحقر الجار هديةً جاءته من جاره مهما كانت، فإن ذلك من الكبر المذموم، فإن الهدية لا تقدّر بقيمتها، وإنما تقدر بمعناها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا نساء المؤمنات: لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فِرسن شاة"، أي: العظم قليل اللحم، وهو خفّ البعير. والمقصود به هنا حافر الشاة. ولعلّ النبي خصّ النساء هنا المتجاورات بالتهادي لأنه يكثر منهن الاحتقار للهدية أو للمُهدي، ولأنهن أكثر التصاقًا بالجيران من الرجال، ولأنهن موارد المودة أو البغضاء بالجيران.
عباد الله: ورابع الحقوق بين الجيران: احتمال أذى الجار، فللرجل فضلٌ في أن يكفّ عن جاره الأذى، وله فضل في أن يذودَ عنه ويحميه، وله فضل في أن يواصلَه بالإحسان إليه جهده.
وهناك فضل رابع وهو أن يغضي عن هفواته، ويتلقى بالصفحِ كثيرًا من زلاّته وإساءاته، ولا سيما إن صدرت عن غير قصد. فاحتمال أذى الجار وترك مقابلته بالمثل من أرفع الأخلاق وأعلى الشيم، وقد فقه السلف هذا المعنى وعملوا به، روى المروذي عن الحسن: "ليس حسن الجوار كفّ الأذى، حسنُ الجوار الصبر على الأذى".
وكم نرى ونسمع في مخالفات لهذا الحق بين الجيران، فكم من الناس من هو كثيرُ الخصومة والملاحاةِ مع جيرانه، يشاجرُ على كل صغيرة وكبيرة، وربما وصل الأمر إلى الاشتباك بالأيدي، أو تطوّرَ إلى الشُرطِ والمحاكم، وعلى أمور لا تستدعي. وكم من جيران تهاجرُوا وتقاطعُوا عند أسباب تافهة أو ظنون سيئة، أو لخلافات يسيرة، لا تستدعي ما وصلت إليه.
ومما جعل هذه الأخلاق المبغوضة توجد بين بعض الجيران قلّة حرص الجيران على إصلاح ذات بينهم، بل -والعياذ بالله- قد يوجد من حمّالة الحطب من يغري العداوة ويذكي أوارها بين جيرانه.
فالواجب على الجيران احتمالُ بعضهم بعضًا، فإذا ما حصل نزاع أو خصومة سعى الأخيار في الإصلاح بين المتنازعين، وعلى الجار أن يقبل بالصلح ويفرح به ويشكرَ من سعى له، لا أن يرفض ويستعلي. فالجار أولى بالعفو من غيره، والتغاضي عن زلته، خصوصًا إذا كان ذا فضل وإحسان.
وإذا الحبيبُ أتى بذنب واحدٍ *** جاءت محاسنُه بألف شفيع
وليس من حق الجار على جاره أن يردّ الأذى بمثله والإساءة بأختها، فالله تعالى يقول: (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يشكو جاره، فقال: "اذهب فاصبر"، فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: "اذهب فاطرح متاعك في الطريق"، فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه: فعل الله وفعل، فجاء إليه جاره فقال له: ارجع، لا ترى شيئًا تكرهُه.
فالصبرُ واحتمالُ الأذى والعفوُ والصفحُ هو الأولى بين الجيران كما قال أحدهم:
أقول لجاري إذا أتـاني معـاتبـًا *** مُدِلاًّ بحـقٍّ أو مُـدلاًّ بباطـلِ
إذا لم يصل خيـري وأنـت مجاورٌ *** إليك فما شرّي إليك بواصـل
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة يحبهم الله"، وذكر منهم: "والرجل يكون له الجار يؤذيه جارهُ فيصبر على أذاه حتى يفرّق بينهما موتٌ أو ظعن".
أيها المؤمنون المتحابون المتآلفون: هذه هي حقوق الجار على جاره، فكم فينا من تقصير، وكم في تعاملنا مع جيراننا من خلل ونقص!! مع أن حقّه عظيم، ولا غرابة بعد هذه الحقوق أن يظن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله سيورثُ الجار الجار.
عباد الله: هنيئًا لمن وفّقه الله لجار صالح، فإن الجار الصالح الذي يرعى هذه الحقوق مكسبٌ وسعادة، فـ"من سعادة المرء المسلم المسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء"، هكذا أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وللأسف تجد الكثير من الناس لا يبالي باختيار الجار الصالح، خاصة إذا أراد بناءَ منزل جديد أو شراءَه، فتراه يحرص على حسن الموقع وقربه من الخدمات، أما صلاح الجيران من عدمه فلا يهمه ذلك، وهذا خلل كبير، فالجار قبل الدار كما أُثر عن علي -رضي الله عنه-.
وقد كان السلف الصالح والكرامُ من الناس لا يؤثرون بالجار الصالح مالاً ولا عرضًا من الدنيا، فهذا أبو الجهم العدوي باع داره بمائة ألف درهم، ثم قال: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟! قالوا: وهل يُشترى جوارٌ قط؟! قال: ردّوا عليّ داري، وخذوا مالكم، لا أدع جوار رجل إن قعدتُ سأل عني، وإن رآني رحّب بي، وإن غبتُ حفظني، وإن شهدت قرّبني، وإن سألتُه قضى حاجتي، وإن لم أسأله بدأني، وإن نابتني نائبة فرَّج عني، فبلغ ذلك سعيد بن العاص فبعث إليه بمائة ألف درهم.
فالجارُ الصالح له منزلةٌ عند العقلاء ومن يقدُرون المكارم قدرها، فهم يحرصون عليه، ولا يفرّطون في مجاورته إن أراد الانتقال عنهم، بخلاف جار السوء -أعاذنا الله وإياكم منه-، فقد تعوذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه فقال: "اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقام، فإن جار الدنيا يتحوّل"، فهو إذًا من البلاء ومما يتعوذ منه، فقد لا يطيقُ الإنسانُ احتمال أذى الجار السيئ وإهانتَه ومذلتَه له أو مضرته له في دينه أو عرضه، فإن الحزم والحكمة يقتضيان أن يرتحل عن داره ما دام هذا وصف جاره.
وفي هذا يُحكى عن رجل أنه كان مجاورًا لجيران سوء، فصبر عليهم وصابر، إلا أنهم يزدادون سوءًا، فباع داره برُخصٍ وانتقل عنهم، فلامه أقاربُه ومعارفُه لومًا شديدًا فقال:
يلومونني إذ بعـت بالرخص منزلاً *** ولم يعرفوا جارًا هناك ينغِّصُ
فقلت لهم: كفّـوا الكلام، فإنهـا *** بجيرانها تغلو الديار وترخصُ
التعليقات