عناصر الخطبة
1/اختلاف الثوابت باختلاف البشر 2/المقصود بالثوابت الإسلامية الشرعية 3/استعراض لأهم الثوابت والمسلمات الشرعية 4/سبل التعامل مع المخالفين.اقتباس
الثوابت والمسلَّمات هي قواعد لا يجوز لأحدٍ أن يتخطاها، ولا أن يتعداها، ومن تعدَّاها فقد كان من الأمة أشقاها وأعداها وأهواها، وقد خاب من للنفس دساها وما زكاها. الثوابت هي صريح القرآن وصريح السنة وصريح الإجماع وما سواه فإنه ليس من الثوابت ولا المسلَّمات.
الخطبة الأولى:
الحمد لله..
أما بعد: فلا تزال العواصف تعصف كل حين فتمزق وتحرق ويظل الثابت الحق لا يتغير فهو في معزلٍ عن الاستماع للمُضِل والأخذ عن المُخِلّ.
إن الثوابت للمؤمنين إذا اهتزت اهتزت مكانتهم، وانسلخت قيمتهم، وأصبحوا عالة يتكففون القاصي والداني ليرشدهم أو ليدلهم إلى شاطئ الأمان، وإلا سيظل أحدهم حبيس النفس يستمع الهوى، ويقلب الدوا، ويكفر بفالق الحب والنوى.
كثيرًا ما نسمع كلمة "الثوابت"، ولا يفقه كثيرٌ من الخلق ماهية الثوابت ولا معناها ولا مُرادها، وأصبح كل أحدٍ يرى الثوابت على ما عاش عليه في مُحيطه الذي هو فيه؛ فأنت تعيش في الشرق فهناك ثوابت، وأنت تعيش في الغرب فعندك ثوابت!
إن الثوابت موجودة عند كل أحد، وفي كل بلد، ولكن الثوابت الإسلامية الشرعية هي التي لا تتغير ولا تتحول مع تغير البلد ولا تغير الزمان ومن ضيعها كان مضيعًا لدينه.
ليست الثوابت نقاطًا يضعها الناس باجتهاداتهم ومسلََّماتٍ لدى نفوسهم ومن خالفهم قذفوه بالشتم وألحقوا عليه العار والشنار وحذروه من العاقبة وسوء البوار.
الثوابت لا تُكتب بخطبة أو مقال أو كلمة أو ندوة أو مجلس، ليست الثوابت اجتهادات النفس وتحركات الضمير وهوى الفؤاد.
إن الثوابت والقيم الراسخة والمسلَّمات لدى الإنس والجن من المؤمنين تتعلق بأمر الله -تعالى-، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإجماع الصحابة -رضوان الله عليهم-.
الثوابت والمسلَّمات هي قواعد لا يجوز لأحدٍ أن يتخطاها، ولا أن يتعداها، ومن تعدَّاها فقد كان من الأمة أشقاها وأعداها وأهواها، وقد خاب من للنفس دساها وما زكاها.
الثوابت هي صريح القرآن وصريح السنة وصريح الإجماع، وما سواه فإنه ليس من الثوابت ولا المسلَّمات.
ولعلنا نعرج على بعض الثوابت التي لا تُمس ولا يُتجرأ عليها، ومن تجرأ عليه فهو آثم كفار أو فاجر ختّار؛ فأجلّ الثوابت:
الإيمان بأركانه الستة، وأعظم الثوابت الإيمان بالله بوجوده وبربوبيته وبألوهيته.
ومن الثوابت: أن لا ندعو مع الله أحدًا؛ فلا نعبد إلا إياه ولا نسجد إلا له، ولا نركع إلا له ولا نذل إلا له، ولا نستغيث إلا به ولا نستعين تمام العون إلا به، ولا نتوكل إلا عليه؛ فالذين طافوا حول القبور واستغاثوا بالمقبور، واستعانوا بالساحر وآذوا المسحور، وسجدوا للولي من دون الله -تعالى- وحلفوا بغير الله، وأحبوا مع الله مثل حب الله أولئك هم شرار الخلق الذين جعلوا مع الله آلهة أخرى فسوف يعلمون.
ولك أن تتأمل كيف تحدث المصطفى عَن مَن ضلَّ وتجرأ على هذا الثابت؛ فقال عن من تعلق تميمة: "لا أتم الله له"، وقال عَن مَن حلف بغير الله: "فقد أشرك".
ومن الثوابت: الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومحبته فوق كل محبة والإيمان برسالته وعدم التعرُّض له أو سبّه أو شتمه، أو ترك احترامه وتعظيمه، ومن يفعل ذلك فأولئك هم المعتدون.
ولا ننسى ما رواه عبدالله بن هشام -رضي الله عنه- حيث قال: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخِذٌ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الآن يا عمر"(أخرجه البخاري).
ومن سبَّه وشتمه وظاهَر وأعلَن حربه عليه وعلى الإسلام؛ فقد أمر بقتلهم -صلى الله عليه وسلم- ولو تعلقوا بأستار الكعبة.
ومن الثوابت: عدم التعرض لأحاديثه -صلى الله عليه وسلم- الصحاح والحسان بما ليس للإنسان به علم أو تفسيره بالعقل القاصر أو اتهام السنة بالمذمة والقصور؛ فذلك محض الزلل والعثور.
وأعظم من ذاك الكذب عليه أو نقل الكلام المكذوب عنه -صلى الله عليه وسلم-، ولا ريب أنّ من كذب عليه فإن الله أعدّ له عذابًا أليمًا قال -صلى الله عليه وسلم-: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".
وكذلك الاستهزاء به أو بما جاء فيه فهو جُرم لا يُغتفر إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا فعسى الله أن يتوب عليهم: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)[التوبة:65-66].
ومن علم ما جاء به النبي المصطفى فخالفه إلى ما هوى فقد هوى؛ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور:63].
ومن الثوابت: الإيمان بما نزل الله -تعالى- من الكتب، وأعظمها والمهيمن عليها القرآن العظيم فهو النور والضياء المُبين (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت:42].
وجميع الكتب قد أصابها تحريف ما عدا هذا الكتاب العزيز؛ فمن زعم أنَّ حرفا منه حُرّف أو غيِّر أو بُدِّل فهو ضالّ مُضِلّ مبين لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، ومَن ردَّ أو رفض حرفًا منه فقد حادَ عن الهدى، ورضي بالهوى، ومأواه جهنم وبئس المصير، ولما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاروق هذه الأمة يحمل بعضًا من الكتب السابقة؛ غضب، وقال لعمر: "لقد أتيتكم بها بيضاء نقية".
ومن فسَّر القرآن برأيه وهواه كان شرًّا عليه ووبالاً ونكالاً، وها هو الصِّدِّيق يسـألونه عن قوله -تعالى-: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا)[عبس:31]، فيقول: "أيُّ سماء تُظلّني وأيّ أرضٍ تقلُّني وأي سماء تظلُّني إن أنا قلت في كلام الله ما لا أعلم".
ومن الثوابت: العقائد التي شرعها الإسلام وسنَّها سيد الأنام وإمام الأئمة الأعلام محمد سيد ولد عدنان وجعلها باقية في أمته ومرجعًا لا نحيد عنه ولا نحول، ومنها عقيدة الولاء والبراء؛ فالولاء للإسلام وأهله بالحب والنصرة، والبراءة من الكفر وأهله بالبغض وعدم النصرة على المؤمنين، وهذا باب أفلح فيه قوم وضل فيه أقوام؛ فإن من لا يعرف فقهه يضل ويزل؛ فها هم الصحابة أئمة الهدى حين يكونون في قتال يقاتلون آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وفي زمن الرخاء يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أم حبيبة أن تحسن لأبيها أبي سفيان، وأصدق من ذلك قوله -سبحانه-: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[لقمان:15].
ومن فقه المرء أن ينظر في قوله -سبحانه-: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الممتحنة:8-9].
ومن الفقه أن تتأمل قول الله -تعالى-: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)[آل عمران:28]، وما يُفعل باسم الإسلام من جهاد لا يوافق الشرع إنما هو محاولة قتل للشريعة وتشويه لما بقي من معالمها.
ومن العقائد: عقيدة الجهاد فهو ماضٍ إلى يوم القيامة وهو ذروة سنام الإسلام، وعقيدة الجهاد ليست حماسًا وعاطفة بل عقيدة يرتسمها الإسلام، ويمدها القرآن ويبينها علماء الأمة الراسخون.
وعندنا جهاد عيني وجهاد كفائي والذي يبينه علماء الإسلام لا دعاته أو مفكروه؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- بقي فترة وهو يرى أصحابه يُعذَّبُون ولا يملك إلا أن يقول: "صبرا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة"، وبقي فترة يطوفُ على الكعبة والأصنام من حوله، فأي وقع على النفس سيكون وهو يرى حُماة الدين يُقتلون أمامه ويعذبون ويرى مظاهر الشرك تحيا أمامه لكنه فقه العالم الرباني والرسول العدناني؛ حيث علَّمه الله -تعالى- ورباه.
ومن العقائد والثوابت: معرفة حق الصحابة -رضي الله عنهم- وآل البيت -عليهم السلام-؛ فحبهم إيمان، وبغضهم كفر أو فسق، ومَن سبَّ الصحابة أو شتمهم أو انتقصهم أو نال منهم شيئًا فهو ضالّ مُضِل مُبين لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، وأولئك هم الظالمون، ومَن سبَّ آل البيت -عليهم السلام- أو أبغضهم؛ فوالذي نفس محمد بيده لا يبغض أحد آل البيت -عليهم السلام-؛ كعلي وعقيل، والعباس وجعفر، والحسن والحسين ومن كانوا مع النبي؛ إلا أدخله الله النار، وذلك حكم محمد -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح.
ومن الثوابت: أحكام الإسلام الظاهرة الواضحة البيِّنة والتي من جحدها فقد كفر؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعمومها دون تفصيلاتها وصفاتها وما فيها وما عليها ودون ما يُشترط فيها وما يَجب وما يُسَنّ فهذه ليست ثوابت.
ومن الثوابت: الأحكام الشرعية الواضحة في التحريم أو الإباحة؛ فمَن حرَّم حلالاً واضحًا أو أحلَّ حرامًا واضحًا فذاك الظلوم الجهول، ومثال ما حرم الله -تعالى-؛ كالخمر والزنا واللواط والسرقة والفطر في نهار رمضان، وحلي الذهب للرجال، والإتيان في الحيض وغيرها؛ فمن وقع فيها أثم، ومن أباحها فقد غامَر في جهنم، ومثال ما أباح الله -تعالى- من المآكل والمشارب المحرمية، وما أباح لذوي المحارم وما أباح الله من التعدُّد والقِوامة والطلاق؛ فمن حرمه فقد تجرأ على الله -تعالى- وحرّمه فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مُبينًا.
ومثل ما أوجب الله -تعالى-؛ كالوضوء، واستقبال القبلة، والنفقة على الزوجة والولد، وصلة الرحم؛ فمن قام بها أُجِرَ، ومن تركها أثم، ومن جحد وجوبها كفر.
ومن الثوابت: جمع كلمة المسلمين، ونبذ الفُرْقَة والاختلاف، والبيعة الحقة لولي الأمر، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، ومن فارق الجماعة شبرًا مات على الضلالة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على رسول رب العالمين وقائد الغر المحجلين.
أما بعد: فمما ينبغي التنبيه له أن المراد بغير الثوابت هو مالم يأتِ نصٌّ صريحٌ فيه أو لم يكن فيه إجماع للصحابة -رضوان الله عليهم-؛ فكلٌّ يُؤْخَذ منه ويُرَدُّ إلا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ولا ينبغي أن يقتل بعضنا بعضًا، ويشتم بعضنا بعضًا لمجرد اجتهادات صائبة أو خاطئة ما دامت لا تمس الثوابت التي جاء بها الإسلام، وليست الثوابت ما رُبِّينا عليه أو عشنا عليه إنما الثابت ما ثبَّته الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فإذا علمنا بعض الثوابت في الإسلام كان لزامًا علينا أن نعرف كيف نتعامل مع المخالف ومن تجرأ على هذه الثوابت.
وهناك من له سلطة التغيير؛ كولي الأمر أو نائبه؛ فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وهناك من ليس له سلطة؛ فلا ينبغي أن يكتسب السلطة بعير حق، ولنا أن نتأمل جيدًا في حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في تغيير المنكر: "من رأى منكم منكرًا .." الحديث.
وعلينا أن نزداد فقها في التعامل مع المخالف فليسوا سواء في المجازاة أو الردع؛ فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أن قُذفت عائشة -عليها الرضوان والسلام- طهَّر بالجلد ثلاثة من الصحابة -رضوان الله عليهم-، وترك رأس المنافقين والذي تولّى كبر هذه الحادثة، وهو ابن أبي بن سلول.
وهاهو يرى مع أحد الصحابة خاتمًا من ذهب فينزعه بينما يأتيه أحد الصحابة ليقول: ائذن لي في الزنا، فيضع يده على صدره ويكلمه بكلمات جعلت أبغض شيء إليه الزنا.
وفي قصة الذي تخلفوا عن غزوة تبوك فإن قومًا كذبوا في أعذارهم من المنافقين ومرضى القلوب ويعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم كاذبون فما قاطعهم ولا أمر بمقاطعتهم، وإنما قاطع من صدقوا حتى نزل تشريفًا لمقامهم قول الله -تعالى-: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[التوبة:118]؛ فالذي يجب هو موازنة المنكر وحسن التعامل معه حتى لا يكبر ويزداد، ولا يسعنا أن نستخدم العنف؛ فإن الله -تعالى- رفيق يحب الرفق.
اللهم أعزّ الإسلام وأهله وأذلّ الباطل وأهله..
التعليقات