عناصر الخطبة
1/ حقيقة الثقة بالله سبحانه 2/ فضائل الثقة في الله وأسبابها 3/ درجات الثقة بالله تعالى 4/ سمات العبد الواثق بربه 5/ من أنواع الثقة في الله 6/ الأخذ بالأسباب لا ينافي الثقة في الله 7/ من أخبار الواثقين.اقتباس
من غير الثقة بالله -تعالى- يعجز المجاهدون عن مواجهة أعداء الله -تعالى- الذين يفوقوهم عددا وعدة، ومن غير الثقة برحمة الله -تعالى- يقنط المذنبون، ومن غير الثقة بأن الصبر من الله -تعالى- نعجز فلا نصبر على البلاء، ومن غير الثقة بأن القوة من الله وحده لا شريك له ننهار في مواجهة مُعضلات الحياة، ومن غير الثقة بأن الله كبير لا نواجه الجبارين والظالمين...
الخطبة الأولى:
الحمد لله مستحقِ الحمد بلا انقطاع، ومستوجب الشكر بأقصى ما يستطاع، الوهابُ المنان، الرحيم الرحمن، المدعو بكل لسان، المرجو للعفو والإحسان، الذي لا خير إلا منه، ولا فضل إلا من لدنه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جميل العوائد، جزيل الفوائد، أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، عالم الغيوب مفرّج الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الوافي عهده، الصادق وعده، ذو الأخلاق الطاهرة، المؤيّد بالمعجزات الظاهرة، والبراهين الباهرة. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وتابعيه وأحزابه، صلاة تشرق إشراق البدور.
أيها الإخوة: إن المسلم يحتاج كثيرًا في هذا الزمان إلى الثقة بالله -سبحانه وتعالى-، والتوكل على الله, ولِمَ لا؟ والله -سبحانه وتعالى- على كل شيء قدير، إذ الأمر كله له؛ فالإيمان مرتبط كل الارتباط باليقين, وكلما ارتفع مؤشر الايمان إلى الأعلى ارتفع مستوى الثقة واتسعت دائرته لتشمل جميع جوانب حياة المؤمن, حينئذ يصبح الإنسان سعيدًا لارتباط مصيره بقدر الله, (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82].
فهو -تعالى- يورث الأرض من يشاء من عباده, (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128], والأمور عنده -سبحانه- كما قال -عز وجل-: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة: 210]، فهو عزيز لا يُغلب كما قال -تعالى-: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد: 13]، وله -تعالى- جنود السموات والأرض قال -عز وجل-: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الفتح: 4]، وجمع القوة والعزة: (وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) [الأحزاب: 25]، قهر العباد فأذلهم، فهم لا يخرجون عن أمره ومشيئته (وَهُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [ الزمر: 4]، يقبض ويبسط ويُؤتي مُلكه من يشاء’ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) [آل عمران: 189]، بيده الضر والنفع (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) [الأنعام: 17].
أيها الإخوة: الثقة بالله هي خلاصة التوكل ولبّه، كما أن سواد العين أشرف ما في العين، فالثقة كالروح، والتوكل كالبدن الحامل لها، ونسبتها إلى التوكل كنسبة الإحسان إلى الإيمان, ولا شك أن مَرَّدَ الأمر كله لله -عز وجل- وأن الله حق وما دونه باطل، وأن هُدى الله هو الهُدى وما دونه إلا ضلال، وكذلك اليقين بأن النصر والتأيد آتي من الله وحده -عز وجل-.
فإن استقر هذا الاعتقاد بنفس المسلم وكان هذا ديدنه صار به الحال إلى استقرار الثقة المطلقة بخالقه وبصحة اعتقاده وظنه بالله -تعالى-, فلا نظن بالله إلا خيراً والوثوق بما عند الله بأنه هو الخير كله وما دونه متاع زائل، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء " (البخاري ومسلم), فالثقة بالله -تعالى- هي مفتاح كل خير، ذلك أن الخير كله بيد الله وحده لا شريك له، والله عند حسن ظن العبد به؛ ولذلك تعتبر الثقة بالله -تعالى- وحسن الظن به من أركان التوحيد، فهو -تعالى- يحمي عباده الصالحين ويتولاهم بحفظه ونصره وتأييده ما ظنوا به خيراً وأيقنوا أن لا منجى منه إلا بالركون إليه والوثوق بجنابه الواحد القهار، يقول الله -تعالى- في محكم تنزيله مخاطباً نبيه مثبتاً له: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل: 79]، وقال -تعالى-: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 51]، وهكذا يتم للمؤمن اليقين والثقة التامة أنه يأوي لركن شديد وأنه على طريق قويم ما توكل على الله حق توكله.
عباد الله: والثقة بالله -تعالى- موقف ينشأ عما يقوم بنفس المؤمن من أن الله حق وما خلاه باطل، وأن هدى الله هو الهدى ليس بعده إلا الضلال، فإذا استقر هذا العلم بالنفس وصار ديدن المؤمن، واعتقادًا جازمًا حاسمًا بأن الله هو الناصر, هو المؤيد بنصره من يشاء, أورث المؤمن حالة من الثقة المطلقة بصحة الطريق الذي يسلكه مقبلاً على ربه وعاملاً في سبيله، وذلك يدعوه للإقدام بثبات نحو الغاية المنصوبة أمامه على صراطها المستقيم, وثقة المؤمن في الله وفي شرعه ثقة وطيدة لا تزعزعها الشكوك، فهو إنما يوجه لأعلى ما يصبو إليه البشر، وأكمل ما يقصدون لله الكبير المتعال, بينما ينحط أهل الشرك ويتخذون من دون الله آلهة ليسو إلا بعض خلقه، لا يماثلونه في شيء.
والمؤمن إنما يجعل ولاءه لله الواحد القهار، الذي يصرف أسباب الحياة, ويجلب الخير ويكشف الضر, والذي ينفرد بالملك يوم الدين لا عاصم من أمره ولا يملك أحدٌ معه شيئًا, والمؤمن إذ يهتدي بهدى الله، ويتبع شريعته؛ يثق أنه على طريق سديد, وهكذا يتم للمؤمن اليقين القاطع بأنه يأوي إلى ركن شديد، ويسير على طريق سديد.
أيها المسلمون: والثقة بالله تجعل العبد راضيًا به، قال حاتم الأصم: "من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضا الله: أولها الثقة بالله، ثم التوكل، ثم الإخلاص، ثم المعرفة، والأشياء كلها تتم بالمعرفة، وتجعله يائسًا مما في أيدي الناس". قيل لأبي حازم: يا أبا حازم ما مالك؟ قال: "ثقتي بالله -تعالى-، وإياسي مما في أيدي الناس، ومن وثق بالله نجاه من كل كرب أهمه".
أيها الإخوة: إن الثقة بالله -تعالى- هي حصن المؤمنين من الشيطان وعدة المجاهدين، قال -تعالى-: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268]، فمن لا يثق بالله تتخطفه وساوس الشيطان من الفقر فيسقط في كل رذيلة، ويُلبّس الشيطان عليه الحق بالباطل فيستحل الحرام وينقض عرى الإسلام عروة عروة.
والثقة بالله على ثلاث درجات:
الأولى: أن يعلم الواثق بالله أن الله -تعالى- إذا حكم بحكم وقضى أمراً فلا مرد لقضائه، ولا معقب لحكمه، فمن حكم الله به بحكم، وقسم له بنصيب من الرزق، أو الطاعة، أو العلم، أو غيره فلا بدَّ من حصوله له، ومن لم يقسم له ذلك فلا سبيل إليه ألبتة، فإذا علم قعد عن منازعة الأقسام، فما كان له منها فسوف يأتيه على ضعفه، وما لم يكن له منها فلن يناله بقوته.
الدرجة الثانية: درجة الأمن، وهو أمن العبد من فوت المقدور، فمن حصل له الإياس من منازعة الأقسام حصل له الأمن, فمن عرف الله وعلم أن ما قضاه الله فلا مرد له ألبتة أمن من فوت نصيبه الذي قسمه الله له، وأمن من نقصان ما كتبه الله له، فيظفر بروح الرضا؛ لأن صاحب الرضا في راحة، ولذة وسرور، فإن لم يحصل له هذا المقام ظفر بعين اليقين، وهو قوة الإيمان، فإن لم يحصل له هذا المقام حصل على لطف الصبر، وما فيه من حسن العاقبة.
الدرجة الثالثة: شهود تفرد الرب -تعالى- بالبقاء، وتيقنه فراغ الرب -عز وجل- من المقادير، وسبق القدر بها، وبذلك يتخلص من المحن التي تعرض له، ويتخلص من الالتفات إلى الأسباب بقلبه، ويتخلص كذلك من طلب ما حماه الله -تعالى- عنه قدراً، فلا يتكلف طلبه وقد حماه الله عنه، ويتخلص كذلك من تكلف الاحترازات، وشدة احتمائه من المكاره، لعلمه بسبق القدر بما كتب الله له منها، لكن يحتمي مما نهى الله عنه، وما لا ينفعه في طريقه.
أيها الأخ الكريم: إذا كان الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في جانب، فاحذر أن تكون في الجانب الآخر، فإن ذلك يُفضي إلى المشاقة والمحادة، ولا تستسهل هذا فإن مباديه تجر إلى غايته، وقليله يدعو إلى كثيره، وكن في الجانب الذي فيه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان الناس كلهم في الجانب الآخر، فإن لذلك عواقب هي أحمد العواقب وأفضلها، وليس للعبد بأنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته.
وأكثر الخلق إنما يكونون في الجانب الآخر إذا ضعف الإيمان، فهناك لا تكاد تجد أحداً في الجانب الذي فيه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل يعده الناس ناقص العقل، سيئ الاختيار لنفسه، وربما نسبوه إلى الجنون، وذلك من مواريث أعداء الرسل، حيث نسبوهم إلى الجنون لما كانوا في شق وجانب، والناس في شق وجانب آخر.
ولكن من وطّن نفسه على ذلك فإنه يحتاج إلى علم راسخ بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكون يقيناً له، ولا ريب عنده فيه، وإلى صبر تام على معاداة من عاداه، ولوم من لامه، وهذا كله صعب في بادئ الأمر، فإن نفسه وهواه وشيطانه ومعاشريه من ذلك الجانب يدعونه إلى العاجل، فإذا خالفهم تصدوا لحربه، فإن صبر وثبت جاءه العون من ربه، وصار ذلك الصعب سهلاً, وذلك الألم لذة, فإن الرب شكور, لا بدَّ أن يذيق عبده ووليه لذة تحيزه إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-, ويريه كرامة ذلك.
ولا يستصعب العبد مخالفة الناس، والتحيز إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان وحده، فإن الله معه وإنما امتحن يقينه وصبره، وأعظم الأعوان على هذا بعد عون الله التجرد من الطمع والفزع إلى غير الله، فمتى تجردت منهما هان عليك التحيز إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: ومما يعين العبد على التجرد من الخوف والفزع: التوحيد، والتوكل، والثقة بالله، وعلم العبد بأن الأمر كله لله، وأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، وليس لأحد مع الله شيء، بل الخلق كله والأمر كله بيد الله وحده لا شريك له: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54]، فلا يثق بالله من لا يعرف الله، ولا البعيد عن ذكره، ولا العاصي له، ولا الغافل عن الفرائض، ولا المُقصر في أداء السنن.
إن الثقة بالله -تعالى- درجات يصعدها المجاهدون لله بالذكر والعبادة والسهر في طاعات الله -تعالى- الدارسون معاني صفات الله وأسمائه, وإن المسلم الواثق بالله يُوقن بأنّ الله لن يتركه ولن يُضيعه إذا ما تخلى عنه كل من في الأرض, فثقته بما عند الله أكبر من ثقته بما عند الناس.
والإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأنه لا حول لأي قوة في العالم ولا طول لها إلا بعد أن يأذن الله، والإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأن هذا الكون وما فيه من أنواع القوى ما هي إلا مخلوقات مسخرة لله، تجري بأمره وتتحرك بقضائه وقدره, (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ ءامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقا) [الجن: 13].
الواثق بالله تراه دائماً هادئ البال ساكن النفس إذا ادلهمت الكروب وزادت عليه المشاكل والخطوب؛ فهو يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ولسان حاله: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 51].
من يثق بالله -تعالى- يثق بمغفرته ويثق بفضله وسعته، ويعلم أن الله قادر على كل شيء، وأنه يخلق من العدم، ويُحي الأرض بعد موتها، ويُحي العظام وهي رميم.
أيها الإخوة: الثقة بالله هي ركيزة التوكل على الله -تعالى- فلا يستطيع أن يتوكل على الله من لا يثق به -تعالى-، وكل الذين لا يثقون بالله -تعالى- ملبوسين بالشياطين، لأنهم حُرموا نعمة التوكل على الله -تعالى-، ذلك أن الحصن من لبس الشيطان هو الإيمان بالله -تعالى- والتوكل عليه بنص الآية الكريمة: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل: 99 ].
من غير الثقة بالله -تعالى- يعجز المجاهدون عن مواجهة أعداء الله -تعالى- الذين يفوقوهم عددا وعدة، ومن غير الثقة برحمة الله -تعالى- يقنط المذنبون، ومن غير الثقة بأن الصبر من الله -تعالى- نعجز فلا نصبر على البلاء، ومن غير الثقة بأن القوة من الله وحده لا شريك له ننهار في مواجهة مُعضلات الحياة، ومن غير الثقة بأن الله كبير لا نواجه الجبارين والظالمين.
إن الله -عز وجل- يفعل ما يشاء ويقدّر ما يشاء ولذلك كانت الثقة به والتوكل عليه واجبين، فموسى -عليه السلام- لمّا جاء فرعون وجنوده وأجمعوا كيدهم وبغيهم وظُلمهم وعدوانهم فأُسقط في يد ضعفاء النفوس وقال بعض من كان مع موسى -عليه السلام- إنا لمُدرَكون، لا محالة هالكون، لا نجاة، محاط بنا، ستقع الكارثة، سيُدركنا فرعون، سيقتلنا، قال موسى الواثق بربه: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62]، إنها الثقة بالله.
ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، إنه الله -عز وجل-، وهذه قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الحديبية: "إنه ربي ولن يضيّعني"، وهي التي قالها الصحابة (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 173-174] ولذلك قال -تعالى- بعدها: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ, يعني يخّوفكم بأوليائه ومناصريه فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175].
وقد قيل لإبراهيم بن أدهم: ما سر زهدك في هذه الدنيا؟ فقال أربــع: "علمت أن رزقي لا يأخذه أحد غيري؛ فاطمأن قلبي, وعلمت أن عملي لا يقوم به أحد سواي؛ فانشغلت به, وعلمت أن الموت لا شك قادم؛ فاستعديت له, وعلمت أني لا محالة واقف بين يدي ربي؛ فأعددت للسؤال جواباً". وقال عامر بن قيس: "ثلاث آيات من كتاب الله استغنيت بهن على ما أنا فيه؛ قرأت قول الله -تعالى-: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ) [الأنعام: 17]، فعلمت وأيقنت أن الله إذا أراد بي ضر لم يقدر أحد على وجه الأرض أن يدفعه عني وإن أراد أن يعطيني شيئاً لم يقدر أحد أن يأخذه مني. وقرأت قوله -تعالى-: (فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152]، فاشتغلت بذكره -جل وعلا- عمّا سواه. وقرأت قوله -تعالى-: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [هود: 6]، فعلمت وأيقنت وازددت ثقة بأن رزقي لن يأخذه أحد غيري".
عباد الله: الأخذ بالأسباب لا ينافي الثقة في الله والتوكل عليه، فإن الثقة بالله تعني تعلق القلب به مع فعل الأسباب الشرعية, الثقة بالله تعنى نزع الثقة بالمخلوق مهما كان مركزه أو نفوذه, الثقة بالله طمأنينة بالنفس، وراحة في الضمير، وعلو في الهمة، وتجرد من المخلوقين، وسمو إلى الخالق -جل وعلا-.
وتأمل كيف كان الثقة سواد عين التوكل ونقطة دائرة التفويض وأساس التسليم في قوله -تعالى- لأم موسى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 7]، ففعلها هذا هو عين ثقتها بالله -تعالى- إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه إلى حيث ينتهي أو يقف.
اللهم اجعلنا أوثق خلقك بك، واملأ قلوبنا بحبك والثقة فيك والتوكل عليك، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون: من أنواع الثقة: الثقة بثواب الله، فالمسلم يعتقد أن أي خطوة يخطوها في سبيل الله؛ أي تسبيحة أو تحميدة أو صدقة أو حركة يتحركها لعز الإسلام فسيكتب الله له الأجر على ذلك: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة: 120].
ومن أنواع الثقة: الثقة بنصر الله فالله وعدنا بنصره إن كنّا مؤمنين ونصرنا دينه ورفعنا رايته، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105]، وقال -تعالى-: (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 173]، وقال -تعالى-: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51].
ومن هنا وجب أن نتسائل: هل نحن واثقين كل الثقة فيما عند الله من جزاء وجنة ونعيم؟!.
إذا لماذا لا نعمل لننال ذلك الجزاء, قال الربيع بن خيثم: "إن الله -تعالى- قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب دعواه، وتصديق ذلك في كتاب الله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن: 11]، وقوله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3], وقوله: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) [التغابن: 17], وقوله: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101], وقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة: 186]".
فالثقة بالله -تعالى- ليست كلمات يتفوه بها المقصرون والعصاة، هؤلاء كذبوا على أنفسهم، هؤلاء نسوا الله فأنساهم أنفسهم، هؤلاء أذلوا أنفسهم وأهانوها بالمعاصي، فأهانهم الله وأخرجهم من النور إلى الظلمات، وحرمهم الله نعمة الأمان، فهم في خوف من المستقبل وأحداثه، هم لم يتعلموا حب الله فحُرموا حقيقة التوكل عليه، ولم يتعلموا الإخلاص لله -تعالى-، فلم يوفوا بعهودهم، فحرمهم الله نعمة الثقة به.
أيها الإخوة: إن صاحب الثقة بالله -تعالى- لا تلين له قناة ولا يهتز له يقين ولا يتزعزع له إيمان، ولا تضعف له همة، وتعالوا لنتعرف على جانب عملي من الثقة في الله -سبحانه-، ونتحسس أخبار صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ذلك الجيل القرآني الفريد ننظر إليهم بمنظار الثقة بالله, فهذا عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ لمّا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لأَصْحَابِهِ يَومَ بَدْرٍ: "قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ" قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: بَخٍ بَخٍ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ", قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا, قَالَ: "فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَ", فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ: "لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ, فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ" (مسلم).
ومع إحدى النساء الصالحات زوجة أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- السيدة هاجر إذ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ, وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ, وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ, ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا, فَقَالَتْ: لَهُ آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟, قَالَ: نَعَمْ, قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ. (البخاري).
فتقول الزوجة التي آمنت بربها، وعرفت معنى اليقين بصِدْقِ وَعْدِ الله، وفهمت كيف تكون معينة لزوجها على طاعة ربها، فقالت فى غير تردد ولا قلق: "إذن لا يضيعنا". وانصرف إبراهيم وهو يدعو ربه ويقول: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) [إبراهيم: 37، 38].
ونفد الماء والزاد، والأم لا تجد ما تروى به ظمأ طفلها، وقد جفّ لبنها فلا تجد ما ترضعه, فيتلوى الطفل جوعًا وعطشًا، ويصرخ، ويتردد فى الصحراء والجبال صراخه الذى يدمى قلب الأم الحنون وتسرع الأم وتصعد على جبل الصفا؛ لتنظر أحدًا ينقذها هى وطفلها من الهلاك، أو تجد بعض الطعام أو الشراب, ولكنها لا تجد فتنزل مسرعة وتصعد جبل المروة، وتفعل ذلك سبع مرات حتى تمكن منها التعب، وأوشك اليأس أن يسيطر عليها، فيبعث الله جبريل فيضرب الأرض بجناحه؛ لِتَخْرُجَ عينُ ماءٍ بجانب الصغير، فتهرول الأم نحوها وقلبها ينطلق بحمد الله على نعمته، وجعلت تغرف من مائها، وتحاول جاهدة إنقاذ فلذة كبدها، وتقول لعين الماء: "زُمّى زُمّي"، فسميت هذه العين زمزم. يقول النبي: "يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لكانت زمزم عينًا معينًا" (البخاري).
من هذا نرى مدى إيمان وثقة وتوكل هذه المرأة على الله، وأن الله لن يضيعها، فلم يضيعها الله كما وثقت، وكفى بهذه القصة دليلاً على هذه الثقة.
اللهم اجعلنا أفقر خلقك إليك، واجعلنا اللهم أغنى خلقك بك، اللهم اجعلنا أذل خلقك لك، واجعلنا اللهم أعز خلقك بك.
التعليقات