عناصر الخطبة
1/فضائل التواضع 2/قمة التواضع وأفضله 3/من صور التواضع 4/ لماذا العجب والتعالي؟اقتباس
إنه خُلق التواضع يهبه الله لمن يشاء؛ رزقٌ من الله صفة عظيمة مَن اتَّصف بها رفع الله مقامه وأعلى مكانته في الدنيا والآخرة.. التواضع لين الجانب، حُسن الخلق، دماثة الطبع، التواضع العفو والصفح، والتغاضي والتماس الأعذار، التواضع قبول الحق، وتقدير الناس..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله وسلم وبارك عليه ما تعاقبت الليالي والأيام .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[سورة آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[سورة النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[سورة الأحزاب:70].
عباد الله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[سورة الفرقان:63]، عباد الرحمن نسبهم الله إليه، أهل صفات عظيمة يحبها الله ويحب أهلها، ويرفع ذِكْرهم ومكانتهم ويعظم أجرهم، ومن أجمل صفاتهم التي يحبّها الله أنهم (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا).
(يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)، أي: متواضعون, (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) إذا جهل عليهم جاهل بالكلام أو بالطبع أو بسوء الأدب (قَالُوا سَلَامًا) قالوا قولاً سليمًا من العيب والرد القاسي لا يردون الإساءة بالإساءة، متواضعون، إنه خُلق التواضع يهبه الله لمن يشاء؛ رزقٌ من الله صفة عظيمة مَن اتَّصف بها رفع الله مقامه وأعلى مكانته في الدنيا والآخرة.
التواضع لين الجانب، حُسن الخلق، دماثة الطبع، التواضع العفو والصفح، والتغاضي والتماس الأعذار، التواضع قبول الحق، وتقدير الناس وإنزالهم منازلهم، قبول الحق قبول دين الله والرضى به، وعدم الشك أو التردد.
دينٌ أنزله الله من عنده، شرعٌ الله أمَر باتباعه، كتابٌ أمر الله بتحكيمه في كلّ صغيرة أو كبيرة في حياتنا, قبول سُنّة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، نسير وَفْقها ونرضى بها ولا نخالفها، إنَّ دين الله حقّ لا شكّ فيه ولا ريب ولا خلل ولا عيب، وقبوله من العبد دون جدال ولا روغان ولا زوغان ولا حِيل ولا تشكيك هذا قمة التواضع لله, قمة التواضع مع رب الأرباب ومسبب الأسباب؛ (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[سورة البقرة:112].
إن الله أمرنا بقبول الدين؛ لأنه -سبحانه- هو الذي شرعه، وهو الذي أمر به، وجعل فيه فلاحنا في الدنيا، فما يفلح في هذه الدنيا إلا أهل الدين الذين قبلوه وتواضعوا له, ونجاتنا يوم القيامة, فما ينجو يوم القيامة إلا أهل الدين الذين عملوا به واعتقدوه وانقادوا له, واسمعوا ماذا يقول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)[سورة الأنفال: 20- 23].
أسمعتم أعجب من هذا الوصف؟ أمرنا الله أن نُطيعه ونُطيع رسوله، ونقبل شرعه ولا نتولى عنه تكبراً، وكأننا لا نسمع المواعظ ولا الآيات, ولا نرى سنن الله البينات في المتكبرين والمعرضين, وصفهم الله بالصمّ البكم فاقدي العقل عندما لم يقبلوا الحق ولم يتواضعوا له, وصف الله -تعالى- في الآيات التي تليها أن التواضع لله وقبول دينه والاستجابة له هو الحياة السعيدة، حياة القلوب حياة التقوى والايمان، حياة التسديد والتوفيق، حياة النعيم والبعد عن الجحيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[سورة الأنفال:24].
عباد الله: ما لعن الله الكافرين والمنافقين وأعد لهم جهنم إلا أنهم لم يتواضعوا للحق لم يقبلوا دين الله، ردّوه رفضوه تكبروا عليه؛ قالوا دين تخلف.. دين ظلم.. دين إرهاب.. فتأملوا وتذكروا ما صنع الله بهم: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[سورة العنكبوت:40].
وهي سُنة جارية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والله لن ترى متكبرًا على الله وعلى شرعه ودينه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- إلا وترى النقص فيه في صِحّته وسعادته ورضى الله عنه، وفي خاتمته وآخرته، حتى لو أمهَله الله واستدرجه بالمال والإمهال فإنما هو استدراج (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)[سورة الأعراف:181-182].
اللهم اجعلنا من المتواضعين لك المنقادين لشرعك ولسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-, اللهم لا تجعلنا من المعرضين ولا من المتكبرين يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يُحب ربُنا ويرضى.
عباد الله: ومن التواضع: تقدير الناس واحترامهم، والتواضع للأقارب والأرحام التواضع للضعفاء للأيتام للمنكسرين للمقلين.
من أنت حتى لا تتواضع للخلق؟
أأنت الذي رزقتَ نفسك؟!
أأنت الذي عافيتَ بدنك؟!
أأنت من أفصح لسانك؟!
أهو أنت؟ أم الله؟
لماذا العجب والتعالي؟
أما كنت فقيرًا فأغناك الله؟ أما كنت طفلاً صغيرًا فكبّرك الله وربّاك وأنعم عليك؟ أما كنت جاهلاً لا تُحسن كتابة حرف واحد فعَلَّمك الله؟ فلماذا اليوم لا نرى بعض الناس يتواضعون؟ لا يتواضعون مع أقاربهم وأرحامهم, مشاكل وخصام وقطيعة أعوام وأعوام, لا يتواضعون مع جيرانهم وجماعتهم وزملائهم, نعوذ بالله من هذا الحال.
(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ)[لقمان:18]؛ لا تمل بوجهك عن الناس ما كأنك تراهم, أو تراهم الأقل وأنت الأكثر… احذر (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[سورة لقمان:18-19]، قال الله -تعالى- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[سورة الشعراء:215]، وقال -سبحانه- (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[سورة آل عمران:159].
قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ أوْحَى إِلَيَّ أنْ تَوَاضَعُوا حتَّى لا يَفْخَرَ أحدٌ على أَحَدٍ ، و لا يَبْغِي أحدٌ على أَحَدٍ"(السلسلة الصحيحة للألباني).
لا تركن إلى دنياك، ولا إلى ما جمعتَ فيها من مالٍ وعيالٍ وجاهٍ وعلمٍ وصحة وعافية، لا تركن إليه فسيزول عنك أو تزول عنه، ثم يرثه قوم آخرون.
لما فتح الله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- مكة جاءه رجل يرتعد من الهيبة والخوف؛ فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "هوِّن عليكَ، فإنِّي لستُ بملِكٍ، إنَّما أَنا ابنُ امرأةٍ تأكُلُ القَديدَ"(صحيح ابن ماجه للألباني).
وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العظيم عند الله, العظيم في السماء, والعظيم في الأرض, أعظم المخلوقات وأطيبها وأشرفها عند الله, قال -عليه الصلاة والسلام-: "لَوْ دُعِيتُ إلى ذِراعٍ أوْ كُراعٍ لَأَجَبْتُ، ولو أُهْدِيَ إلَيَّ ذِراعٌ أوْ كُراعٌ لَقَبِلْتُ"(صحيح البخاري)؛ يجيب الناس، ويأكل معهم، ويحضر مناسباتهم ولو كان الطعام ذراعًا أو كراعًا, ويقبل الهدية ويمشي في الأسواق وينام على الحصير.
تواضعْ تكنْ كالنجمِ لاحَ لناظرٍ*** على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تكُ كالدخّان يرفع نفسه *** إلى طبقات الجوّ وهو وضيع
قالَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ- في الحديث القدسي: "الكبرياءُ ردائي، والعظمةُ إزاري، فمَن نازعَني واحدًا منهُما، قذفتُهُ في النَّارِ"(صحيح أبي داود للألباني)، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِن مالٍ، وما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بعَفْوٍ، إلَّا عِزًّا، وما تَواضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ"(صحيح مسلم).
فلنتلبّس أيها الناس بخُلُق التواضع، نتواضع مع الله, ونتواضع مع خلقه حتى نغنم الدنيا والآخرة.
وصلوا وسلموا…
التعليقات