عناصر الخطبة
1/من خصائص القصص النبوية 2/قصة أصحاب الغار وما فيها من العبر 3/منهج الموحدين عند نزول الكرباتاقتباس
في الحديث بيان منهج المؤمنين الموحدين حينما تنزل بهم الكربات، وتحل بهم النكبات، وأنهم في ذلك يرجعون إلى ربهم، ويخلصون له الدعاء، ولا يشركون به أحدًا سواه، ولا يتوسلون إليه إلا بما شرع لهم التوسل به، ولم يثبت عن أحد من الأنبياء...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي جعل مدار الأعمال على صدق المقاصد والنيات، وفرَّق بالنية بين الأعمال المتشابهات، وتكرَّم -سبحانه- بتعجيل جزاء بعض الأعمال لمن احتاجه قبل الممات، وشرع لنا -سبحانه- التوسل إليه بصالح الأعمال في النائبات، أحمده وحمدُهُ وسيلة إلى المزيد من فضله ونِعَمِهِ، وأشكره على واسع نَواله وكرمه، والصلاة والسلام على من حرص على تربية أمته وإرشادها بكل وسيلة؛ فحينًا بالموعظة البليغة، وتارة بالقصة المستحسنة الجميلة، صلى الله عليه وعلى آله المطهرين من الأدناس، وصحابته الذين عليهم المعول عند البأس، والتابعين لهم بإحسان من سائر الأمم والأجناس.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته، ولا ندَّ له في ألوهيته، ولا شبيه له في أسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، الذي لا فلاح إلا في طاعته، ولا ثواب إلا في متابعته، ولا جنة إلا في محبته.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون: إن من وسائل تربية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته استخدام القصص التي تبعث على سمو النفوس، وارتفاع الروح، وحسن الاقتداء، وتصور الجميل في أبهى حُلَلِهِ، وتُغري به، وتحث عليه، وترسم القبيح في أبشع أشكاله، وتنفر وتزجر عنه، واليوم نستعرض قصة من قصص النبي -صلى الله عليه وسلم-، لنا فيها أبلغ العِبرة، وأتم الموعظة.
فعن عبدالله بن عمر -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خَرَجَ ثَلاَثَةٌ يَمْشُونَ فَأَصَابَهُمُ الْمَطَرُ فَدَخَلُوا فِي غَارٍ فِي جَبَلٍ فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صخْرَةٌ، قَالَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْعُوا اللهَ بِأَفْضَلِ عَمَلٍ عِمَلْتُمُوهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنِّي كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَرْعَى، ثُمَّ أَجِيءُ فَأَحْلُبُ فَأَجِيءُ بِالْحِلاَبِ، فَآتِي بِهِ أَبَوَيَّ، فَيَشْرَبَانِ ثُمَّ أَسْقِي الصِّبْيَةَ، وَأَهْلِي وَامْرَأَتِي فَاحْتَبَسْتُ لَيْلَةً، فَجِئتُ فَإِذَا هُمَا نَائِمَانِ قَالَ: فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً، نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ قَالَ: فَفُرِجَ عَنْهُمْ وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أُحِبُّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ عَمِّي، كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّسَاءَ، فَقَالَتْ: لاَ تَنَالُ ذَلِكَ مِنْهَا حَتَّى تُعْطِيَهَا مَائَةَ دِينَارٍ، فَسَعَيْتُ فِيهَا حَتَّى جَمَعْتُهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتِ: اتَّقِ اللهَ، وَلاَ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِهِ فَقُمْتُ وَتَرَكْتُهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً، قَالَ: فَفَرَجَ عَنْهُمُ الثُّلُثَيْنِ، وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ تَعْلَمُ أَنِّي اسْتَأجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهُ وَأَبَى ذَاكَ أَنْ يَأْخُذَ، فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ، فَزَرَعْتُهُ حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا عَبْدِ اللهِ، أَعْطِنِي حَقِّي فَقُلْتُ: انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا فَإِنَّهَا لَكَ، فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِي بِي؟! قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَسْتَهْزِي بِكَ وَلكِنَّهَا لَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا؛ فَكُشِفَ عَنْهُمْ"(أخرجه البخاري).
أيها الإخوة: إن في هذه القصة عبرًا ودروسًا كبيرة كثيرة؛ منها:
أولاً: فضل معرفة الإنسان بربه، وبما يقرب إليه ويوصل إلى فضله وإحسانه، وأن تلك المعرفة تُورِث الأمل والاستبشار، وتزيل اليأس والقنوط، الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الغار؛ (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا) [التوبة: 40]، أيوب -عليه السلام-؛ (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبياء: 83]، يونس-عليه السلام-؛ (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء: 87]، هاجر: "آلله أمرك بهذا؟ إذًا لا يُضيِّعنا"، فأين الأمة؟ وأين هؤلاء الذين نسمع أنهم ينتحرون من ضيق المعاش؟!.
ثانياً: يذكِّرنا هذا الحديث بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعرَّف إلى الله في الرخاء؛ يعرفك في الشدة"(رواه أحمد).
ثالثاً: الدرس العملي التطبيقي في بر الوالدين.
رابعاً: إن المؤمن قد يغفُلُ وقد يغلبه الهوى والشهوة، فيجهد ليبلغها ناسيًا نهيَ الله ووعيده، غافلًا عن عواقب ما هو فيه، ولكن مَن كان مِنَ المتقين الذين سبقت لهم العناية، فإنهم يستيقظون ويبصرون، فيرتدعون عما هم فيه؛ (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ)[الأعراف: 202]، ربط ذلك بواقع كثير من شبابنا وشاباتنا.
خامساً: حفظ الحدود والحقوق.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وصلاة وسلاما على عبده الذي أصطفى، وعلى آله وأصحابه ومن اجتبى، أما بعد:
عباد الله: في الحديث بيان منهج المؤمنين الموحدين حينما تنزل بهم الكربات، وتحل بهم النكبات، وأنهم في ذلك يرجعون إلى ربهم، ويخلصون له الدعاء، ولا يشركون به أحدًا سواه، ولا يتوسلون إليه إلا بما شرع لهم التوسل به، ولم يثبت عن أحد من الأنبياء ولا من الصحابة أنه توسَّل إلى الله بعمل غيره أو بجاه غيره، مهما كان، وإنما يتوسلون بأعمالهم الصالحة وبأسماء الله وصفاته وبضعفهم وافتقارهم إليه وبدعاء الأحياء الصالحين القادرين على الدعاء.
التعليقات