عناصر الخطبة
1/تحريم الظلم والتحذير منه 2/عقوبات الظلم في الآخرة 3/التحلل من الظلم في الدنيا 4/خطر الظلم الجماعي وعقوبته

اقتباس

أيها المؤمنون: الظلم ظلمات يوم القيامة، يوم يأتي المؤمنون يوم القيامة يسعَون بأنوارهم فإن الظالم يأتي يوم القيامة متخبطًا في ظلمات ظلمه. والظالم -عباد الله- ولئن كان الذي اقتطعه بظلمه من حقوق الآخرين شيئًا قليلا أو نزرًا يسيرا فإنه يأتي يوم القيامة يحمله على عاتقه ويطوَّق به عنقه خزيًا له يوم القيامة بين العالمين. والظالم يأتي يوم القيامة ولربما أفلس من جميع حسناته؛ لأنه...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أمَّا بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى- وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلمُ أنَّ ربَّه يسمعُه ويراه.

وتقوى الله -جل وعلا-: عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.

 

أيها المؤمنون: يقول الله -تعالى- في الحديث القدسي العظيم: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا"، وذلك من كمال عدله جلَّ في علاه، وهو جلّ وعلا على كل شيءٍ قدير، لكنه جلَّ في علاه حرم على نفسه الظلم فلا يظلم أحدا، ولا يخاف أحدٌ عنه ظلمًا ولا هضما، وجعله بين العباد محرما.

 

والواجب على العباد أن يعرفوا حرمة الظلم وخطورته، وسوء مغبَّته، وعِظم عاقبته، وأنَّ الظلم أمرٌ محرم؛ حرَّمه الله -جل وعلا-، ويعاقب عليه صاحبه العقوبة العظيمة، والعذاب الأليم، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)[إبراهيم: 42]، ويقول جل وعلا: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)[الشعراء: 227]، ويقول الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[الشورى: 42]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

 

أيها المؤمنون: الظلم ظلمات يوم القيامة، يوم يأتي المؤمنون يوم القيامة يسعَون بأنوارهم فإن الظالم يأتي يوم القيامة متخبطًا في ظلمات ظلمه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ".

 

والظالم -عباد الله- ولئن كان الذي اقتطعه بظلمه من حقوق الآخرين شيئًا قليلا أو نزرًا يسيرا فإنه يأتي يوم القيامة يحمله على عاتقه ويطوَّق به عنقه خزيًا له يوم القيامة بين العالمين، روى الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ" أي أنه يأتي بهذه الأراضي التي أخذها ظلما يأتي يحملها على عنقه يوم القيامة إلى سبع أراضين خزيًا له بين العالمين.

 

أيها المؤمنون: والظالم يأتي يوم القيامة ولربما أفلس من جميع حسناته، لأنه في ذلك اليوم العظيم تؤدى الحقوق وتُردُّ المظالم إلى أصحابها ويكون ذلك بالأخذ من حسنات الظالم فإن فنيت حسناته أُخذ من سيئات من ظلمهم فطُرحت عليه، ولهذا يظهر في ذلك اليوم -يوم القيامة- يظهر الإفلاس جليًّا وتظهر حقيقة المفلسين، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاع، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".

 

أيها المؤمنون: يوم القيامة يوم القصاص ويوم رد المظالم، وتأملوا مليًا هذا الحديث العظيم الذي يرويه الصحابي الجليل عبد الله بن أُنيس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حفاة عُرَاةً بُهْمًا" قالوا: وَمَا بُهْمًا يا رسول الله؟ قَالَ : "أي لَيْسَ مَعَهُمْ من الدنيا شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، ثم يقول جل وعلا: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ولأحدٍ من أهل النار عليه مظلمة حتى أقصَّها منه، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ ولأحدٍ من أهل الجنة عليه مظلمة حتى أقصها منه، حَتَّى اللَّطْمَةَ" قالوا: يا رسول الله وكيف ذاك وهم إنما جاؤوا بُهمًا؟ قال: "بالحسنات والسيئاتومعنى قوله: "بالحسنات والسيئات" جاء مفسرًا ومفصلا في حديث أبي هريرة المتقدم ذكره المشهور بحديث المفلس.

 

أيها المؤمنون: إن العاقل الناصح لنفسه عندما يتأمل في هذه الأدلة ولها نظائر كثيرة في كتاب الله -جل وعلا- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- تحذيرًا من الظلم، وبيانًا لخطورته، وسوء عاقبته على الظالم، سواءً كان ظلمه تعديًا على الأنفس أو تعديًا على الأعراض أو تعديًا على الأموال أيًّا كان نوع ظلمه عليه، عندما يتأمل في هذه الأحاديث أن يتنبَّه وأن يوقظ قلبه من رقدته، وأن يحسب لذلك الموقف حسابًا عظيما، وأن يزن عمله في هذه الحياة قبل أن يوزن يوم يلقى الله -جل وعلا-، وقد جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ".

 

نعم -عباد الله- إنها لفرصةٌ ثمينة لا تعوَّض، والعبد يعيش في هذه الحياة أن يتخلَّص من المظالم في هذه الحياة الدنيا قبل أن يلقى الله يوم القيامة، وهو يحمل مظالمه على عاتقه خزيًا له بين العالمين، ثم يبوء بعاقبة ظلمه ومغبته الأليمة.

 

نعوذ بالله العظيم أن نظلِم أو نُظلَم، ونسأله جل في علاه أن يصلح لنا شأننا كله، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين؛ إنه سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 

 الخطبة الثانية:

 

الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-.

 

أيها المؤمنون: وإذا كان الحديث المتقدم عن الظلم وسوء عاقبته وعظم مغبته حديثًا عن ظلم الأفراد بعضهم لبعض؛ فكيف الشأن -أيها المؤمنون- بمن يقع ظلمه على جماعاتٍ كثيرة وأممٍ عديدة وخلقٍ لا يحصيهم إلا الله؟ وكيف من يكون ظلمه تعديًا على الأعراض، وانتهاكًا للحرمات، وقتلًا للأنفس المعصومة، وإبادةً للأموال المحترمة المحرمة؟!

 

نعم -عباد الله- إن الظلم إذا كان من رجلٍ متسلطٍ باغي، اتخذ سلطته وقوته تدميرًا وإبادةً وإهلاكًا وظلمًا وتعديا، فإن ذلك من أعظم الظلم، وأشده عقوبةً يوم القيامة.

 

وعندما يتأمل المتأمل في واقعنا هذا ما يحصل لإخواننا المسلمين في سوريا يجد أنواع الظلم بكل أشكاله وجميع صوره، وكل ألوانه من السلطة الباغية الغاشمة الظالمة؛ إبادةً وقتلًا وتشريدًا وانتهاكًا للأعراض، وتعديًا على الحرمات في واقعٍ مرير، وحالٍ مؤسفة، بل مبكيةٍ محزنة، ولا يُعدُّون بالعشرات ولا بالمئات بل بالألوف، أعداد كثير من رجال ونساء وصغار وكبار أُهلكوا وقتِّلوا وشرِّدوا ويتِّموا، إلى غير ذلك من أنواع التعدي والظلم، وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ"، ثُمَّ قَرَأَ صلوات الله وسلامه عليه: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود: 102].

 

نسأل الله -جل في علاه- أن يعجِّل بهلاك الطغاة المجرمين البغاة المعتدين، نسأله جل في علاه أن ينصر إخواننا المسلمين المستضعفين، وأن يكون لهم حافظًا ومعينا وناصرًا ومؤيِّدا، وأن يأخذ الظالم جل في علاه ليشفي صدور المؤمنين، ولتقرَّ عيونهم بهلاك الظالمين، نسأله جل في علاه أن يكون لإخواننا المسلمين في سوريا وفي كل مكان حافظًا ومؤيدا وناصرًا ومعينا إنه جل وعلا سميعٌ قريبٌ مجيب.

 

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:٥٦]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد --صلى الله عليه وسلم--.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم.

اللهم من أرادنا أو أراد أمننا وإيماننا بسوءٍ فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى.

 

اللهم إنَّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين.

 

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

 

(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المرفقات
057E8HE4mDvwRUwmv04Ij4HpgbhmRg7xr0SFbnl7.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life