التحذير من الشائعات

حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ

2024-09-21 - 1446/03/18
التصنيفات الفرعية: قضايا اجتماعية
عناصر الخطبة
1/حاجة المسلم إلى المرتكزات العقائدية والسلوكية 2/وجوب التثبت من حقيقة الشائعات والأراجيف 3/التحذير من مروجي الشائعات والشبهات 4/خطورة الفتوى بدون التمكن من أدواتها

اقتباس

لا يجوز لطالب عِلْم أن يقتحم بالجواب عن كل ما يُطرَح عليه، ولو بلغ في العلم ما بلغ، إلا إذا كان عنده علم محيط بالمسألة المطروحة، من كل جوانبها، تأصيلًا، ودليلًا، ومعارضةً، ومآلًا...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله المتصف بالجلال والكمال، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الواحد الكبير المتعال، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوث بخصال الجَمال، اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم المآل.

 

أمَّا بعدُ، فيا أيها الناسُ: اتقوا الله -جل وعلا-، فمَنِ اتقاهُ وقاهُ السيئاتِ، ومنَّ عليه بالمسرَّات والخيرات؛ (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الْبَقَرَةِ: 189].

 

في عالَم اليومِ وقد تلاطمت من كل جانب الأخبار والمعلومات إلى أسماع الناس وأبصارهم وقلوبهم، وتدفَّقَت عليهم سيولٌ من الأطروحات في شتَّى المجالات، فإن المسلم في أشد الضرورة إلى المرتَكَزات التي يضبط بها جوارحه ويجنبها أسباب الانحرافات والزلل، وذلك من منطلق قطعيات الشريعة ومقاصد وأصول الدين، يقول الله -جل وعلا-: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الْإِسْرَاءِ: 36]، هذه الآية الكريمة وما ماثلها من الآيات والنصوص، تقرر أصلًا قطعيًّا، يضمن السلامة للمجتمع ويحقق أسباب النجاة، وسبل السعادة بكل معانيها، إنه أصل منهج المسؤوليَّة الكاملة على كل مسلم، عمَّا استعمل فيه سمعه وبصره وفؤاده، من خير أو شر؛ (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18]، وقال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ"(رواه مسلم).

 

قال ابن عطية -رحمه الله- عند تفسير هذه الآية: "وهذا أدبٌ خُلُقيٌّ عظيمٌ، وهو أيضًا إصلاحٌ عقليٌّ جليلٌ، يُعلِّمُ الأمةَ التفرقةَ بين مراتب الخواطر العقليَّة، بحيث لا يختلط عندها المعلومُ والمظنونُ والموهومُ، ثم هو أيضًا إصلاحٌ اجتماعيٌّ جليلٌ، يُجنِّبُ الأمةَ الوقوعَ والإيقاعَ في الأضرار والمهالِكِ، من جرَّاء الاستناد إلى أدلة موهومة" انتهى كلامه -رحمه الله-.

 

عبادَ اللهِ: إن هذا الأصل يفيض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل، في شؤونه كلها وتصرفاته جميعها؛ ليكون قائلًا بالحق فاعِلًا له، مجانبا كل باطل وزور وكذب وافتراء، هذا الأصل يربي المسلم على قاعدة في الحياة؛ وهي: الالتزام بالتحري والتثبُّت، والاحتياط والتروي، والتدبُّر والتأني والتبيُّن، فلا يقبل حينئذ كل خبر بمجرد سماعه، ولا يكون متبِعًا كل متحدث وقائل، بلا دليل على صحته، ولا برهان على صدقه، كما هو ويا للأسف واقع في عالم التواصُل عند كثير من العالم اليوم، بل الإسلام يربي أتباعه على مرتكَزات شرعية وأصول دينيَّة، تجعله ذا ميزان دقيق يتحرى عن كل معلومة تصل إليه، وتطرح تحت مسامعه.

 

المسلم من شأنه ألا تخدعه الشائعات، ولا تستخفه الأراجيف، وتتابُع المعلومات، ولو كَثُرَ ناقلوها، وعَظُمَ مُشِيعُوهَا؛ لأن الميزان الأدق عند المسلم المعرفة الكاملة عن صدق الأخبار وصحتها، ومدى تحقُّق المصلحة الخاصَّة والعامَّة، مِنْ تناقُلِها، ونشرِها وتداوُلِها، مع وجوب مراعاة عدم وجود المفسدة مِنْ نشرِها وإذاعتِها في المجتمع؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119]، (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)[النِّسَاءِ: 83].

 

ألَا فاتقوا الله -أيها المسلمون-، والتزِموا بهذه التوجيهات، لاسيما والأعداء يشنون الحملات المغرضة والأكاذيب المتنوِّعة على دين الإسلام، وولاة أمورهم، وعلى مجتمعاتهم وعلمائهم.

 

مَعاشِرَ المؤمنينَ: مما يدخل تحت هذا الأصل ما يقع من كثير؛ بأن يُنصِّبُوا أنفسَهم فيما لا مجالَ لهم فيه من حيث التخصُّص، فيُقحِمُوا أنفسَهم فيما لا يعلمون، ولا بحقيقته الحِسِّيَّة والشرعيَّة يحيطون، كما في وسائل التواصُل، فيخدعون الأغرار فيما مجال سياسي أو طبي أو اجتماعي أو تعبير للرؤى ونحو ذلك من المجالات، مما قصد كثير منهم أكل أموال الناس بالباطل، مما ينالهم جرَّاء المُتابِعين؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)[النِّسَاءِ: 29]، فالواجب على المسلمين مقاطعة مثل أولئك، وعدم الاجترار إليهم؛ فمثل هذه المواقع قد جرت شرًّا كبيرًا، وضررا عظيمًا على دين الناس ودنياهم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ)[النِّسَاءِ: 71].

 

عبادَ اللهِ: وممَّا ابتلي به عالم اليوم عبر وسائل التواصُل تجنيد جنود مجنَّدة لاتباع خطوات الشيطان، تدعمهم منظَّمات، وتحتويهم مؤسَّسات، ينشرون الإلحاد بين المسلمين، ويبثون الشُّبُهات، يشككون المسلمين في ثوابت دينهم، ومحكمات شرعهم، ومسلمات مصادرهم، والمرتَكَزات التي تبنى عليها أحكام دينهم، فإياك أيها المسلم أن تكثر سوادهم، أو أن تستمع إليهم، أو أن تكون سببًا من حيث لا تشعر في نشر سمومهم، وبث خطرهم، وكن أيها المسلم على حذر من مناقشتهم ومجادلتهم؛ لأنهم مكابرون، وللحق معاندون، وللباطل مريدون، فمثل أولئك لا تجوز مناظرتهم، كما بينه أهل العلم في أحكام المناظَرة والجدل، قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر من التنقل".

 

ومن الأُسُس التي نُقلت عن سلف هذه الأمة الأصل الأصيل ترك الخصومة والجدال، هو طريقُ مَنْ مضى، ولم يكونوا أصحابَ خصومةٍ ولا جدالٍ، ولكنهم كانوا أصحاب تسليم وعمل، وصحَّ عن ابن عباس: "لا تُجادِلُوا أهلَ الأهواء؛ فإن مجالستَهم مُمرِضَةٌ للقلوبِ"، بل كن -أيها المسلم- على ثبات من دينك، ويقين في شريعة خالقك، ودع عنك أهل الباطل والحيرة والشك، تمسك بعلوم الوحيين، تزود بكل عمل صالح مبرور، ودع أهل الباطل والإلحاد والتشكيك، ونشر الشُّبُهات للعلماء المحققين، الذين هم -بإذن الله- يقدرون على كسر باطلهم، ودحر شبهاتهم، وتهشيم مقاصدهم وأهدافهم، وفق علم رصين، ومنهج قويم، يعرفه العلماء الربانيون.

 

إخوةَ الإسلامِ: هذا الأصل أيضًا يُقرِّر الخطأَ العظيمَ لمن يحكم على المخالِف له في رأي في مجال الشريعة استنادًا إلى اجتهاد ظنه هذا المخالف الحق غاية وسعه، فحينئذ من يحكم على هذا المخالف بدون إحاطة راسخة بالقواعد العِلميَّة، والضوابط المنهجيَّة في هذا المجال سيقع ولا شكَّ في طوامَّ من الأحكام على الغير، وجور وظُلم لا يرضاه ربُّ العالمينَ، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وإني أُقرِّرُ أن الله قد غفَر لهذه الأمة خطأها، وذلك يَعُمُّ الخطأَ في المسائل الخبريَّة القوليَّة، والمسائل العَمليَّة"، وقال الذهبي -رحمه الله-: "ثم إن الكبير من أئمة العلم، إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحق، واتّسع عِلْمُه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتّباعه، ويُغفَر له زلَلُه، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه؛ -أي: لا ننسى محاسنه- نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك" انتهى، قال الله -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10].

 

اللهُمَّ اجعلنا مفاتيح للخيرات، مغاليق للشرور والآثام، يا ذا الجلال والإكرام، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائل المسلمين من كل ذنب، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

 

أمَّا بعدُ، فيا أيها المسلمون: من أعظم التوجيهات التي يقررها كتاب الله وسُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- منبثقةً من هذا الأصل، الحذر من القول في شرع الله بفتوى أو حكم إلا باجتهاد تتوفر فيه الأصول العامَّة والخاصَّة المقرَّرة عند العلماء، وإلا فلا يجوز لطالب عِلْم أن يقتحم بالجواب عن كل ما يُطرَح عليه، ولو بلغ في العلم ما بلغ، إلا إذا كان عنده علم محيط بالمسألة المطروحة، من كل جوانبها، تأصيلًا، ودليلًا، ومعارضةً، ومآلًا، بل الواجب سلوك منهج العلماء الربانيين، كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم".

 

فيا مَنْ تصدَّر للناس في الإعلام ونحوه: متى كنتَ غيرَ جازم بالجواب، أو لم يسبق لِمَا يُطرَح مجالٌ للبحث المحيط بالمسألة الموصِل للجوابِ الصوابِ، فكن حينئذ للامتناع عن الجواب مُبادِرًا، ولسلف الأمة متبِعًا ومقتديا، ولاسيما فيما يعظم خطره، ويعظم ضرره، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

 

أيها المسلمون: من أفضل القربات الإكثار من الصلاة والتسليم على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

اللهمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، اللهمَّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهمَّ اغفر لموتى المسلمين، الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة.

 

اللهُمَّ فرج هم كل مسلم ومسلمة، ويسر لهم أمورهم، ونفس كرباتهم، اللهُمَّ كن لهم عونًا ومُعينًا، وناصرًا يا ذا الجلال والإكرام، اللهُمَّ ارفع عن المسلمين في فلسطين مصابهم، اللهُمَّ ادحر أعداءهم واخذلهم يا قوي يا متين، اللهُمَّ ارفع عن المسلمين الذل والهوان، وانصرهم على أعدائهم، وقو شوكتهم، اللهُمَّ اشف مرضاهم، وسد حاجاتهم، واجمع كلمتهم، ووحد صفهم، اللهُمَّ إنَّا نعوذ بك من الغلاء والوباء، ومن الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهُمَّ احفظ خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده، ووفقهما لكل خير، اللهُمَّ وفق جميع ولاة أمور المسلمين.

 

اللهُمَّ الطف بالمسلمين الذين تفرقوا عن ديارهم، وتغربوا عن أوطانهم، اللهُمَّ ارفع ما وقع في ديارهم من المحن والفتن، يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهُمَّ أغثنا، اللهُمَّ اسقنا، اللهُمَّ اسق ديارنا وديار المسلمين، يا غني يا حميد.

 

عبادَ اللهِ: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الْأَحْزَابِ: 41-42]. وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life