عناصر الخطبة
1/الحلم والأناة من الخصال التي يحبها الله 2/النهي عن نشر الكلام بين الناس بدون تثبت 3/من أسباب انتشار الإشاعات في عصرنا 4/التحذير من الخوض في الأعراض 5/عقوبة الكذب ونشره دون تثبتاقتباس
كثر في هذه الأوقات تناقل الإشاعات، وأصبحت الكذبة يكذبها الرجل فتبلغ الأفاق كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وساعد على انتشار ذلك وسائل الاتصالات كالجوال، وكذلك وسائل الإعلام كمواقع الانترنت، وكذلك القنوات والصحف...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
عبادَ الله: إن من الصفات الطيبة التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها، وهي محبوبة عند الله -سبحانه وتعالى- وعند رسوله -عليه الصلاة والسلام-؛ صفةَ الحِلْمِ وصفةَ الأنَاة، والحِلْم: هو العقل والأناة، أي: التثبت في الأمور وترك العجلة، جاء في صحيح مسلم: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْأَشَجِّ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ"، وسبب ذلك أن وفد عبد القيس لما قدموا إلى المدينة وجاؤوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- نزلوا عن رواحلهم، وبادروا إلى تقبيل يد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما الأشج بن عبد القيس فعقل رواحلهم، ثم لبس أحسن ثيابه، ثم أتى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فالعاقل هو الذي يتثبت في أموره وفيما ينقله للناس، وأما نقل الحديث للناس وإشاعته بينهم بدون تثبت، فهو يدل على سفه في العقل وضعفٍ في الدين، جاء في سنن أبي داود من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- والحديث صحيح، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا"؛ "بِئْسَ" كلمةٌ يراد بها الذم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يذم الذي يأتي بالكلام بدون تثبت فيه من أجل التوصل إلى مقاصده، فيجعل هذا الكلام مطية إلى الوصول إلى ما يريد، فهو إذا أراد أن يتكلم ليس عنده تثبت فيما يقول؛ ولذلك يقول: "زَعَمُوا"؛ أي: الناس، ومثل هذا بعض الناس يأتيك بالكلام ويقول: "الناس يقولون"، وإذا تتبعت الكلام وجدت أنه ليس صحيحاً بل هو من الكذب!.
والذي ينقل الكلام وينشره بين الناس بدون تثبت في صحته هو أحد الكذابين، قال -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء كذباً أن يحدثُ بكل ما سمع"؛ لأنه جزماً سينقل أخباراً كاذبة فيكونُ واقعاً في الكذب.
عباد الله: لقد أمرنا الله -سبحانه وتعالى- في كتابه في التثبت من الأخبار التي تأتينا، ومعنى التثبت أي: التأكد من صحتها، خاصة إذا أتى هذا الخبر من إنسان عرف بعدم التثبت أو الكذب في حديثه، قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)[الحجرات: 6]؛ أي: تثبتوا في خبره، ثم ذكر الله -سبحانه وتعالى- بعض المفاسد التي تترتب على قبول خبر الفاسق بدون تثبت؛ (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6].
عباد الله: لقد كثر في هذه الأوقات تناقل الإشاعات، وأصبحت الكذبة يكذبها الرجل فتبلغ الأفاق كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وساعد على انتشار ذلك وسائل الاتصالات كالجوال، وكذلك وسائل الإعلام كمواقع الانترنت، وكذلك القنوات والصحف، وقد يكون ما يشاع طعناً في ولاة الأمر، وقد يكون في العلماء، وقد يكون متعلقاً بالأموال أو بأعراض المسلمين؛ فيترتب على إشاعته فسادٌ عظيم.
عبادَ الله: لقد آذت الإشاعة أشرفَ عرضٍ، إنه عرضُ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة في قصة حادثة الإفك، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج في بعض غزواته ومعه عائشة -رضي الله عنها-، وكان إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه، أي: عمل لهن قرعة، فضاع عِقْدُ عائشة -رضي الله عنها- فتأخرت تبحث عنه، فرحل الجيش وكانوا يظنونها في هودجها فلم يفقدوها، وجاءت مكانهم فجلست فيه؛ لأنهم إذا فقدوها سيرجعون إلى مكانهم الذي وقفوا فيه.
وكان صفوان بن مُعطِل السُلمي وهو من أفاضلِ الصحابة -رضي الله عنهم- قد نام في آخر الجيش، فلما قام من نومه أراد أن يلحق الجيش فرأى عائشة -رضي الله عنها-، وكان يراها قبل نزول الحجاب فعرفها، فاسترجع يعني قال: "إنّا لله وإنا إليه راجعون"، فخمرت وجهها أي: غطته، تقول: "والله ما كلمني كلمة غيرها"، فأناخ الجمل فركبت عائشة -رضي الله عنها-، عليه فلما أدركوا الجيش ورأى ذلك بعض المنافقين أشاع الإفك، يعني الكذب واتهمت في عرضها، واتهم هذا الصحابي، واغتر بذلك بعض المؤمنين، وأصبحوا يتناقلونه بألسنتهم بدون تثبت؛ ولذلك يقول الله -تعالى-: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[النور: 15]، ثم أدبهم الله فقال: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)[النور: 16].
ثم أنزل الله -سبحانه وتعالى- براءة عائشة -رضي الله عنها- مما اتهمت فيه كما في سورة النور، فمن رماها بالزنا -والعياذ بالله- كما يقوله بعض الطوائف الضالة فهو كافر بالله -سبحانه وتعالى- كفراً مخرجاً من الملة، كما يقول علماء أهل السنة؛ لأنه تكذيبٌ للقرآن، وقدحٌ في النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، أما بعد:
عباد الله: إن مما أريد التنبيه عليه أن إشاعة الأخبار -ولو كانت صحيحة- إذا كان أصاحبها يكرهون ذلك أن هذا من الغيبة؛ لأن بعض الناس يتكلمون في أعراض الناس في المجالس، ويقولون: نحن متأكدون من هذا الخبر، ولا شك أن هذا من الغيبة، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون ما الغيبة؟"، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره"، قيل: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته".
وإنَّ مما سبب نشرَ أحاديثَ كثيرة بين الناس -وهي ضعيفة وأكثرها موضوع، وربما بعضهم تعبد لله بها- هو عدمُ التثبت، فبعض الناس تأتيه رسالة في جواله مثلاً: "هذا دعاء عظيم من قال كذا؛ فله كذا وكذا من الأجر"، فتجد أنه يقوم بنشره بين الناس بدون تثبت في الحديث، وهذا يخشى عليه أن يدخل في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
فالواجب علينا -عبادَ الله- التثبت فيما ننشره، خاصة أن الخبر مع وجود وسائل التواصل ينتشر بسرعة كبيرة، وكما سبق أن من ينشر الأخبار التي تأتيه بدون تثبت فهو أحد الكذابين، وهو داخل في الوعيد الشديد الذي أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد جاء في صحيح البخاري أنه -عليه الصلاة والسلام- رأى رؤيا -ورؤيا الأنبياء حق- وجاء فيها قَالَ: "فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ، فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ"، قَالَ: "ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الجَانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأُولَى"، قَالَ: " قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ؟!"، قَالَ: "قَالاَ لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ"، قوله الملكان اللذان مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجاء في آخر الحديث: "وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ؛ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ".
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا ممن يتثبتون في الأخبار، وأن يحفظنا بحفظه، فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين.
التعليقات