عناصر الخطبة
1/البحث عن النجاة عند الأزمات تقتضيه الضرورة 2/ثمرات الاعتصام بالقرآن عند الأزمات 3/بعض ما يجب علينا تجاه القرآن الكريماقتباس
في القرآن صور لتثبيت الله للمؤمنين وقت الأزمات بشيء من مخلوقاته وجنده؛ ألم يرسل الملائكة أن ثبتوا الذين آمنوا، وأنزل المطر ليُثبت به الأقدام، وأطلق سبب فرَجه للمؤمنين وإن استحكمت عليهم أزمة تسلُّط الكافرين؟ فالقرآن...
الخطبة الأولى:
إن الحمدلله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون: في معاصف الفتن، وأزمنة البلاء، ومع موجات الأزمات المتوالية؛ تعظم الضرورة إلى تبصُّر درب النجاة، والاستمساك بحبلها المنقذ من تلك المهالك؛ إذ من شأن هذه الفتن الاضطراب، وتبدل الحقائق والتباسها، وحيرة العقول، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وزلة الأقدام بعد ثبوتها، وحورها بعد كورها، وقد جلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- درب النجاة، وحبلَها العاصمَ من النكوصِ عن الهداية، والميلِ بعد الاستقامة بالاعتصام بكتاب الله، إذ يقول في خطبة وداعه: "قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتُم به: كتاب الله"(رواه مسلم)، فما سرُّ التثبيت القرآني للمؤمنين وقت الفتن؟ وما السبيل إلى ذلك الاعتصام المنجي -بإذن الله تعالى-؟
أيها المسلمون: إن من حِكم إنزال القرآن ومقاصده الكبرى: تثبيتَ المؤمنين، لا سيما وقت الشدائد والمحن، يقول الله -تعالى-: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل: 102]، تلكم الحقيقة الكبرى قد انطوت عليها نفوس الصحابة الكرام حين جعلوا كتاب الله عدتهم في معالجة الفتن والأزمات، وزادَهم في تخطِّي قِفارها، وقد عبَّر عن ذلك الحال سالم مولى أبي حذيفة -رضي الله عنه- حين أخذ راية المسلمين بعد مقتل زيد بن الخطاب -رضي الله عنه- في معركة اليمامة، فقال المسلمون: يا سالم إنا نخاف أن نؤتى مِن قِبَلك؟ فقال: "بئس حامل القرآن أنا إن أُتيتُم مِن قِبَلي"(رواه الحاكم).
أيها المؤمنون: في الأزمات تضطرب القلوب، ولن تجد رابطًا لسكونها وطمأنينتها سوى القرآن الذي وصَفه منزِّله -جل وعلا- بالقول الثقيل: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)[المزمل: 5]، وهو الذكر الحكيم الذي تطمئن به القلوب: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28]، قال ابن القيم: "وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذا اشتدت عليه الأمور، قرأ آيات السكينة، وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرَت له في مرضه، تعجِز العقولُ عن حملها، من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضَعف القوة، قال: فلما اشتد عليَّ الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرؤا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قلبة، وقد جربت أنا أيضًا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه، فرأيت لها تأثيرًا عظيمًا في سكونه وطمأنينته".
وملاحظة مقصد الامتحان بالفتن قد يعزب استحضاره؛ فلا يَرى العبدُ في بلائه إلا الحزن والرهق والظلمة، وفي القرآن جلاءُ حقيقةِ المحن والابتلاء، وأنها تمحيص للمؤمن لا إهلاكه؛ ليقوى إيمانه، وترفع درجاته، ويزداد قربًا من ربه؛ كما قال تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)[الأحزاب: 22]، واستبصار حال الابتلاء عدةٌ على الصبر عليه، وتخطِّيه بسلام، والقرآن خيرُ رحمةٍ، وبلسمٍ مؤنسٍ لوحشة البلاء؛ إذ هو رباطٌ وثيقٌ ممدودٌ بين العبد وخالقه، ومن كان الله مؤنسه فلا وحشة عليه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء: 82]، كما أن فيه الزاد الإلهي والعون الرباني في تخطِّي عناء رحلة البلاء من حثٍّ على الاستعانة بالصبر والصلاة: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)[البقرة: 45]، خاصة قيام الليل: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)[المزمل: 2-4]، وما حواه من إرشادٍ للدعاء المناسب في الأزمات الخاصة والعامة، مما كان ويكون به الانفراج والظفر: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ)[الأنبياء: 83-84]، (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء: 87-88]، (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّه)[البقرة: 250-251]، (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[آل عمران: 173-174].
وفي القرآن صور لتثبيت الله للمؤمنين وقت الأزمات بشيء من مخلوقاته وجنده: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)[المدثر: 31]، ألم يرسل الملائكة أن ثبتوا الذين آمنوا، وأنزل المطر ليُثبت به الأقدام، وأطلق سبب فرَجه للمؤمنين وإن استحكمت عليهم أزمة تسلُّط الكافرين، فقال: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)[المائدة: 52].
عباد الله: والقرآن أُنسٌ للمستوحش من غربة الابتلاء بربطه بسلفه السابقين من الأنبياء، والائتساء بهؤلاء العظماء من أبلغ أسباب العزاء والثبات: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هود: 120].
كما أن القرآن رباط وثيق للعبد بفلك العبودية العظيم الذي لم يشذ منه إلا الأشقياء الضعفاء: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)[الحج: 18]، فهل يشعر المؤمن بالوحشة والاضطراب وكتاب الله مؤنسه، والأنبياء أسوته، وهذا الخلق العظيم مسبَّح لله معه؟
ومن إيناس القرآن العظيم للمؤمن حالَ بلائه: أن ينقله من الرؤية الضيقة للواقع المحزن المحسوس إلى رحابة الظن الحسن بربه، إيمانًا بنفوذ المشيئة الإلهية، والرحمة الربانية الواسعة التي لا يصمد أمامهما شيء وإن عظم، والقرآن سلوة رحبة، توسِّع على المؤمن ضيق حال الدنيا برحابة ذكرى الآخرة، حين يذكر المؤمن وهو في غمرة بلائه أن غمسة واحدة في الجنة تنسيه كل شقاء ذاقه في الدنيا، وأن غمسة في نار جهنم تنسي الفاجر كلَّ نعيم الدنيا وملاذَّها، وذلك لعمر الله من أعظم ما يسكب الثبات في قلب المؤمن زمن البلاء خاصة إن تيقَّن أن القرآن عزاءٌ لكل فائت من الدنيا؛ مال أو صحة، أو زوج أو ولد، أو منصب، قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)[الحجر: 87]، هكذا غدا القرآن زادًا للمؤمنين في بلائهم وشدتهم، ويا بؤس من فقَد هذا الزاد.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله...
أما بعد: فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
أيها المؤمنون: بركة القرآن لا حد لها، لا سيما في وقت الشدة والمحن، فرُبَّ آيةٍ كانت بلسمًا لجراح وآلامٍ لا يداويها إلا القرآن، وهل كان ألمٌ في التاريخ أعظم من مصاب المسلمين بموت النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!
لما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج أبو بكر -رضي الله عنه- وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يكلِّم الناس، فقال: اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر: "أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدًا، فإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[آل عمران: 144]، فنشج الناس يبكون، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها"(رواه البخاري).
أيها المسلمون: حتى يكون القرآن لنا عدة في البلاء والأزمات، فلا بد لنا من تعاهده بجعل وردٍ يومي منه وإن قلَّ، نتلوه، ونتفهم آياته، ونعمل بأوامره، وننتهي عن زواجره، وندعو بأدعيته، ونحرك به القلوب عند تلاوته واستماعه، ونستشفي به من الأمراض الحسية والمعنوية، ونتبصر مآلاته في الحوادث، وخير سُبل تعلُّم القرآن تقسيمه على آيات قليلة، فهي أدعى للثبات والتثبيت، كما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)[الفرقان: 32]، وأن تكون دراسته بفَهم السلف الصالح من خلال مصنفاتهم السابقة والحديثة.
التعليقات