اقتباس
هذا هو جنس التأويل الذي يعذر معه صاحبه، أما التأويلات التي لا يعذر أصحابها مطلقاً، فتأويلات الباطنية والفلاسفة ونحوهم ممن حقيقة أمرهم تكذيب للدين جملةً وتفصيلاً، أو تكذيب لأصل لا يقوم الدين إلا به كإنكار الفلاسفة لحشر الأجساد وقولهم إن الله –سبحانه- لا يعلم الجزئيات. أو تأويل الفرائض والأحكام بما يخرجها عن حقيقتها وظاهرها، أو الاعتقاد بألوهية بعض البشر كتأليه علي أو الحاكم بأمره كما عند النصيرية والدروز، أو القول بتحريف القرآن، أو تأويل جميع الأسماء والصفات أو القول بسقوط التكاليف عن البعض ونحو ذلك من الاعتقادات الغالية التي لا تعتمد على أي مستند نصي أو لغوي ولو من وجه محتمل.
بعد قرون من الصراع بين الحق والباطل، والصراع بين الأمة الإسلامية وأعدائها شرقاً وغرباً، أيقن خصوم الأمة أن ساحات المواجهة المفتوحة والخالية من عوائق المكر والخداع والتآمر، لن تكون إلا في صالح المسلمين، ومن ثم أجمعوا وقرروا أن تدمير الأمة لن يتأتي إلا من داخلها، والشجرة لن يقطع أصلها إلا أحد أغصانها، بقدر حماسة وانتباه المسلمين للعدو الخارجي، بقدر فتورهم وغفلتهم عن الداخلي.
ولقد كان التأويل باب شرّ كبير، ولج منه الذين يردون هدم الإسلام، فما تركوا شيئاً إلا أولوه، ولولا حماية الله ورعايته لهذا الدين لدرست معالمه وضاعت حدوده. فلقد أول الضالون الواجبات فصرفوها عن وجهها، وهونوا على أتباعهم رميها وراء ظهورهم. وأولوا المحرمات تأويلاً جر الذين ضلوا بضلالهم على ارتكابها والولوغ فيها. وأولوا نصوص عذاب القبر ونعيمه، والساعة وأهولها، والمعاد والحشر والميزان والجنة والنار بحيث فقدت النصوص تأثيرها في نفوس العباد. وأولوا نصوص الصفات تأويلاً أضعف صلى العباد بربهم، وأفقد النصوص هيبتها إذ جعلها لعبة في أيدي المؤولين، يجتهدون ليلهم ونهارهم في صرفها عن وجهها بشتى أنواع التأويل.
وقد بين علماء الإسلام خطورة التأويل الفاسد في مصنفاتهم؛ ليحذره المسلمون أشد الحذر، ومن ذلك قول العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- حيث يقول: "فأصل خراب الدين وَالدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده اللَّه ورسوله بكلامه ولا دلَّ عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلَّا بالتأويل؟ وهل وقعت في الْأُمَة فتنة كَبيرة أو صغيرة إلَّا بالتأويل؟ فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل؟ وليس هذا مختصاً بدين الإِسلام فقط، بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلَا رب العباد".
وقال ابن أبي العز في شرحه للطحاوية: "وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية، فهل قتل عثمان -رضي الله عنه- إلا بالتأويل الفاسد! وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفين، ومقتل الحسين -رضي الله عنه-، والحرة؟ وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، إلا بالتأويل الفاسد.
أولاً: تعريف التأويل:
التأويل في اللغة:
مادة (أول) في كل استعمالاتها اللغوية تفيد معنى الرجوع، والعود، جاء في لسان العرب: "الأول: الرجوع: آل الشيء يؤول أولاً ومآلاً: رجع، وأول إليه الشيء: رجعه، وآلت عن الشيء: ارتددت، والإيل والأيل: من الوحش، وقيل هو الوعل، قال الفارسي في مقاييس اللغة: سمي بذلك لمآله إلى الجبل يتحصن فيه، وقال أبو عبيد في قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) [ آل عمران:7] قال: التأويل المرجع والمصير، مأخوذ من آل يؤول إلى كذا أي صار إليه، وأولته: صيرته إليه" . وفي تهذيب اللغة: "وأما التأويل فهو تفعيل من أول يؤول تأويلاً وثلاثيه آل يؤول: أي رجع وعاد". وقال ابن فارس: "أول الحكم إلى أهله: أي أرجعه ورده إليهم، وآل الجسم إذا نحف، أي رجع إلى تلك الحالة، ومن هذا الباب تأويل الكلام وهو عاقبته وما يؤول إليه، وذلك قوله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) [الأعراف:53]، ويقول: ما يؤول إليه في وقت بعثهم ونشورهم ".
إذاً التأويل هو ما أول إليه أو يؤول إليه، أو تأول إليه، والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويؤول إلى حقيقته التي هي عين المقصود به، وهذا هو المعنى الوارد في الكتاب والسنة.
التأويل في الاصطلاح:
معنى التأويل في اصطلاح العلماء، له ثلاثة معان:
الأول: "أن يراد بالتأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلام، وإن وافق ظاهره، وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) [الأعراف:53]، ومنه قول عائشة -رضي الله عنها-:"كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا ولك الحمد: اللهم اغفر لي، يتأول القرآن".
الثاني: يراد بلفظ التأويل: التفسير وهو اصطلاح كثير من المفسرين، ولهذا قال مجاهد إمام أهل التفسير: " إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، فإنه أراد بذلك تفسيره وبيان معانيه، وهذا مما يعلمه الراسخون ".
الثالث: أن يراد بلفظ التأويل: صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه ظاهره إلى ما يخالف ذلك، لدليل منفصل يوجب ذلك، وهذا التأويل لا يكون إلا مخالفاً لما يدل عليه اللفظ ويبينه، وتسمية هذا تأويلاً لم يكن في عرف السلف، وإنما سمي هذا وحده تأويلاً طائفة من المتأخرين المشتغلين في الفقه وأصوله والكلام، وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه، وهذا التأويل الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في مسألة الصفات والقدر ونحوها.
وهو من نقصده من كونه – أي التأويل - أعظم أصول الضلال والانحراف حيث صار ذريعة لغلاة الجهمية والباطنية والمتصوفة في تأويل التكاليف الشرعية على غير مقصودها أو إسقاطها أو تأويل جميع الأسماء والصفات. وصار ذريعة للمنحلين والماجنين والمفسدين من أجل التحلل من الأوامر والنواهي الشرعية من أجل التمتع بشهوات الدنيا وملذاتها، فالتأويل الفاسد طريق للإلحاد في دين الله تعالى، وتعد لحدوده، وسلوك طريق المغضوب عليهم من اليهود والنصارى، وقد قال شيخ الاسلام ابن تيمية في ذلك: "وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام ".
ثانياً: شروط التأويل الصحيح:
والتأويل الفاسد إما أن يقصد به أصحابه إبطال المعنى الشرعي الصحيح، وإما أن يريدوا إبطال اللفظ الشرعي، والأول هو أكثر ما يتطرق له المبطلون، ولذلك وضع العلماء شروطاً للتأويل الصحيح، ومما ذكروه في ذلك:
1-أن يكون المُؤَوِل من العلماء الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، الذين يدركون المعاني الشرعية، والمتضلعين في لغة العرب التي نزل بها القرآن وجاءت بها السنة.
2-أن يكون اللفظ مما يقبل التأويل أصلاً فلا يكون نصاً.
3-أن يكون اللفظ محتملاً للمعنى الذي يؤول إليه، وأن يكون احتمال اللفظ له على أساس من وضع اللغة، أو عرف الاستعمال، أو مما عرف من استعمال القواعد الشرعية كنحو تخصيص عام أو تقييد مطلق.
4-أن يقوم التأويل على دليل صحيح قوي يؤيده من الكتاب أو السنة.
5-ألا يعارض التأويل نصوصاً صريحة قطعية الدلالة في التشريع.
ولذلك بين العلماء ما لا يجوز التأويل فيه، ومن أمثلته:
1-ألا يكون التأويل فيما هو نص في مراد المتكلم، وهو المسمى بواضح الدلالة، كنصوص الصفات، والتوحيد، والمعاد؛ لأنّ التأويل في هذه الحالة يعد افتراءً على صاحب الشرع، وتزويراً لمقصد كلامه.
2-يمتنع تأويل ما هو ظاهر في مراد المتكلم، وقد احتفت به قرائن تقوّيه، إلا بما يوافق عرف المتكلم وعادته المطَّردة؛ من قبيل اطّراد استعمال اللفظ الواحد على وجه واحد، فهذا مما يستحيل تأويله على خلاف ظاهره؛ كصفة الاستواء في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]، حيث اطّرد في جميع موارده في القرآن على هذا اللفظ، فتأويله بالاستيلاء باطل.
3-لا يجوز تأويل المجمل من النصوص بخلاف بيان الشرع لها، والبيان للمجمل إما أن يكون متصلاً بالنص، كقوله (وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً)[النساء : 164]، فتأكيد الفعل بالمصدر "تكليماً" يمنع من تأويل هذه الصفة لله –تعالى- إلى أي معنىً آخر، بل يجب أن تحمل على حقيقة الكلام المعروف لغةً وشرعاً.وإما أن يكون البيان في نص آخر غير متصل بالنص المجمل، ومن أمثلته قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ)[الدخان: 3] هو مجمل في ماهية الليلة، وبركتها، وقد بُيّنَ ذلك الإجمال في قوله: (إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:1-3].
فالحاصل أن التأويل الفاسد خطره عظيم، وهو من الأبواب التي دخل فيه المفسدون لضرب الإسلام والمسلمين، وبسببه استحل كثير من جهلة المسلمين دماء بعضهم بعضاً، وأعراض بعضهم وأموالهم بغير وجه حق.
والتأويل الصحيح لا بد له أن يوافق نصوص الكتاب والسنة المحكمة، وأي تأويل خالف النصوص الشرعية المحكمة فهو من التأويل الباطل الفاسد الذي يجب الحذر منه ومن أهله.
وقد بين هذا الضابط ابن القيم -رحمه الله- حيث قال: "وبالجملة فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الفاسد ولا فرق بين باب الخبر والأمر في ذلك وكل تأويل وافق ما جاء به الرسول فهو المقبول وما خالفه فهو المردود ".
ثالثاً: أثر التأويل في ظهور الفرق والطوائف:
لقد كان التأويل الفاسد، عاملاً أساسياً في افتراق الأمة إلى فرق كثيرة ومتعددة، لأنه نابع من الهوى والتعصب للرأي، أو بمكر ماكر للإسلام وأهله، مما أنتج قديماً العديد من الفرق التي حاولت أن تظهر عن طريق تأويل النصوص حسب الهوى ليوافق أفكارها، ومبادئها المخالفة للحق. ومن أبرز الفرق التي ساهم التأويل الفاسد في ظهورها وانتشارها: الشيعة الاثنا عشرية الرافضة.
الاثنا عشرية أهم وأكبر فرق الشيعة التي أخذت أفكارها ومعتقداتها من الفكر الفارسي واليهودي، حيث كان لعبد الله بن سبأ اليهودي الأثر الواضح في فكر الشيعة، وسميت بهذا الاسم لكونها تؤمن بأن الإمامة محصورة في اثني عشر إماماً أولهم على بن أبي طالب، وآخرهم محمد بن الحسن العسكري الذي يعتقدون أنه اختبأ في السرداب وينتظرون عودته، وقد أطلق عليهم عدة ألقاب ومنها الإمامية لإيمانهم بأن الإمامة ركن من أركان الإيمان، والرافضة لأنهم رفضوا إمامة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- إلى جانب سبهما.
اعتمد الشيعة التأويل طريقاً لتحقيق أهدافهم ونشر عقائدهم الضالة ومن الأمثلة على ذلك: تأويلهم النصوص لإثبات خلافة على -رضي الله عنه- بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنكار خلافة أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- بقوله تعالى: ( إِنمَّا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ( [المائدة55]، ويطلق الاثنا عشرية على هذه الآية اسم آية الولاية، ويعتمدون عليها في إثبات أن علياً هو وصي الرسول -عليه الصلاة والسلام- وخليفته من بعده، ولذلك زعموا أنها نزلت في علي وفي إثبات إمامته على وجه الخصوص بل قالوا: إنه ثبت من خلال سبب النزول أن المراد بالذين آمنوا "علي" فالنص إذا ً أثبت إمامة "علي" ، وقوله "الذين آمنوا" يوجب أن الذي خوطب بالآية هو الذي جُعلت له الولاية ".
ومن أمثلة التأويل الفاسد أيضاً تأويلهم لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67]. تسمي الشيعة هذه بآية غدير خم؛ لنزولها عند غدير خم كما يزعمون، ومعنى الآية عندهم بلغ ما أنزل إليك من ربك في إمامة علي، كما يسمونها آية التبليغ، وزعموا أن رسول الله أطاع أمر ربه –تعالى- فبلغ الناس بعد الانصراف من حجة الوداع وذلك عند غدير خم.
ولم يكتفوا بالتأويل بل حرفوا النصوص وأضافوا إليها حيث ورد في كتابهم المعتمد الكافي للكليني فيما ينسبه إلى جعفر الصادق في سورة الأحزاب الآية(71) (ومن يطع الله ورسوله - في ولاية علي وأبنائه - فقد فاز فوزاً عظيماً) هكذا نزلت، حيث أضافوا للآية ما ليس منها وهذا في أوثق الكتب عندهم.
واتجهوا أيضاً إلى تأويل السنة النبوية فأولو قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" قالوا:" فالحديث يدل على خلافة علي -رضي الله عنه- مع أن هذا القول قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي تطييباً لخاطره وقلبه وترضية لنفسه؛ لأن المنافقين عندما علموا باستخلاف علي -رضي الله عنه- على المدينة في غزوة تبوك أشاعوا بأن الرسول خلفه مع الصبيان والنساء .
كما عمدوا إلى تأويل النصوص للطعن في صحابة رسول الله، ومن أمثلة ذلك منا رواه الكليني عن جعفر الصادق في قول الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) [النساء:137] قال نزلت في فلان وفلان وفلان، آمنوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم -أول الأمر وكفروا حيث عرضت عليهم الولاية حين قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كنت مولاه فعلي مولاه" ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين، ثم كفروا حين مضى رسول الله -صلى اله عليه وعلى آله وصحبه- فلم يقروا بالبيعة ، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم ، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء". ويبين شارح الكافي أن المراد بفلان وفلان وفلان أبو بكر وعمر وعثمان، بل ذكر محمد الباقر المجلسي أحد علماء الشيعة الاثنا عشرية:" أن أبا بكر وعمر هما فرعون وهامان. والأمثلة على ضلالات الشيعة الناتجة من التأويل الفاسد كثيرة جداً.
رابعاً: العذر بالتأويل:
التأويل الفاسد قد يقود صاحبه للوقوع في الكفر أو الكبائر المهلكة، وهنا موضع اختلاف بين أهل العلم: هل يعذر صاحب التأويل الفاسد بتأويله، أم لا يعذر؟
فأهل العلم قد اعتبروا التأويل مانعاً من موانع لحوق الوعيد، مثل الجهل والنسيان، ولكن بشروط، حيث لم يعتبروا كل أنواع التأويل يعذر معها صاحبها، ويمتنع لحوق الوعيد به لوجودها. فالمقصود بالتأويل الذي يعذر به صاحبه ها هنا: التلبس والوقوع في الكفر من غير قصد لذلك، وسببه القصور في فهم الأدلة الشرعية، دون تعمد للمخالفة، بل قد يعتقد أنه على حق. يقول ابن حجر في تعريف للتأويل السائغ: "قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب، وكان له وجه في العلم".
والتأويل السائغ والإعذار به له اعتبار في مسألة التكفير، بل في الوعيد عموماً ولذا يقول ابن تيمية: "إن الأحاديث المتضمنة للوعيد يجب العمل بها في مقتضاها، باعتقاد أن فاعل ذلك الفعل متوعد بذلك الوعيد، لكن لحوق الوعيد له متوقف على شروط، وله موانع".
أقوال أهل العلم في العذر بالتأويل:
1-قال قوام السنة إسماعيل الأصفهاني في سفره الحافل "الحجة في بيان المحجة ": "المتأول إذا أخطأ وكان من أهل عقد الإيمان، نظر في تأويله، فإن كان قد تعلق بأمر يفضي به إلى خلاف بعض كتاب الله أو سنة يقطع بها العذر، أو إجماع فإنه يكفر ولا يعذر؛ لأن الشبهة التي يتعلق بها من هذا ضعيفة لا يقوى قوة يعذر بها؛ لأن ما شهد له أصل من هذه الأصول، فإنه في غاية الوضوح والبيان، فلما كان صاحب هذه المقالة لا يصعب عليه درك الحق، ولا يغمض عنده بعض موضع الحجة لم يعذر في الذهاب عن الحق، بل عمل خلافه في ذلك على أنه عناد وإصرار، ومن تعمد خلاف أصل من هذه الأصول، وكان جاهلاً لم يقصد إليه من طريق العناد فإنه لا يكفر؛ لأنه لم يقصد اختيار الكفر، ولا رضي به، وقد بلغ جهده، فلم يقع له غيره ذلك، وقد أعلم الله –سبحانه- أنه لا يؤاخذ إلا بعد البيان، ولا يعاقب إلا بعد الإنذار فقال تعالى: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم ما يَتَّقُونَ)[التوبة: 115]. فكل من هداه الله -عز وجل-، ودخل في عقد الإسلام، فإنه لا يخرج إلى الكفر إلا بعد البيان".
2-قال ابن حزم: "وأما من كان من غير أهل الإسلام من نصراني أو يهودي أو مجوسي، أو سائر الملل، أو الباطنية القائلين بإلهية إنسان من الناس، أو بنوة أحد من الناس، بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا يعذرون بتأويل أصلاً، بل هم كفار مشركون على كل حال"، وقال في موضع آخر: "ومن بلغه الأمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من طريق ثابتة، وهو مسلم، فتأول في خلافه إياه، أو ردّ ما بلغه بنص آخر، فما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ، فهو مأجور معذور؛ لقصده إلى الحق، وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك، فعاند، فلا تأويل بعد قيام الحجة".
3-قال أبو حامد الغزالي: "ولابد من التنبيه على قاعدة وهو أن المخالف قد يخالف نصاً متواتراً، ويزعم أنه مؤول، مثاله: ما في كلام بعض الباطنية أن الله –تعالى- واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها، وعالم بمعنى أنه يعطي العلم لغيره ويخلقه، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره، وأما أن يكون واحداً في نفسه، وموجوداً، وعالماً على معنى اتصافه فلا، وهذا كفر صراح؛ لأن حمل الوحدة على اتحاد الوحدة ليس من التأويل في شيء، ولا تحتمله لغة العرب أصلاً... فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عبر عنها بالتأويلات".
4-قال ابن تيمية: "وعمل السلف وجمهور الفقهاء بأن ما استباحه أهل البغي من دماء أهل العدل بتأويل سائغ لم يضمن بقود، ولا دية، ولا كفارة، وإن كان قتلهم وقتلهم محرماً"، وقال في موضع آخر: "والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً".
هذا هو جنس التأويل الذي يعذر معه صاحبه، أما التأويلات التي لا يعذر أصحابها مطلقاً، فتأويلات الباطنية والفلاسفة ونحوهم ممن حقيقة أمرهم تكذيب للدين جملةً وتفصيلاً، أو تكذيب لأصل لا يقوم الدين إلا به كإنكار الفلاسفة لحشر الأجساد وقولهم إن الله –سبحانه- لا يعلم الجزئيات. أو تأويل الفرائض والأحكام بما يخرجها عن حقيقتها وظاهرها، أو الاعتقاد بألوهية بعض البشر كتأليه علي أو الحاكم بأمره كما عند النصيرية والدروز، أو القول بتحريف القرآن، أو تأويل جميع الأسماء والصفات أو القول بسقوط التكاليف عن البعض ونحو ذلك من الاعتقادات الغالية التي لا تعتمد على أي مستند نصي أو لغوي ولو من وجه محتمل.
التعليقات