عناصر الخطبة
1/مظاهر قدرة الله في فصل الشتاء 2/التحذير من برد الشتاء وخطورته 3/على المسلمين أن يتفقدوا حاجة إخوانهم في الشتاء 4/التحذير من نار الدنيااقتباس
فمن أضرَى نارَه وأوقَدَها وطبَخ بها وخبَز واصطلى، واشتَوَى واستأنَس بها وانتفع فلا يترك في الموقد أو المشعلة أو المجمَر جمرةً ولا نارًا، إلا أخمَدَها وأطفأها، في ليلة كان أو في نهار، خشيةَ الاحتراق أو الاختناق، فالنار عدو غير مزموم بزمام...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أسبَغ علينا نعمَه وأفاضَ، وأبدَع الكونَ سماءً وأرضًا وفصولًا وبروجًا ونجومًا وأطوادًا وأعراضًا، وجبالًا وبحارًا وأنواضًا وأفياضًا وحياضًا، ونباتًا وعضادًا ورياضًا وغياضًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا نبغي عنها حِوَلًا ولا بدلًا ولا أعواضًا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، مَنْ خالَف هديَه نال هونًا وخزيًا وانحطاطًا وانخفاضًا، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين خضعوا للشرع، ما بدلوا وما حرفوا، وما نكثوا وما أظهروا اعتراضا.
أما بعدُ: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله؛ فبالتقوى تحصل البركة، وتندفع الهلكة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
أيها المسلمون: نزَل بكم الشتاءُ الْمُحِمّ، بعد الصيف الْمُصِمّ، وجاءكم لفح الزمهرير، بعد لفح الهجير، وحلَّت بكم شدة الصِرِّ والقُرِّ بعد وقدة الحَرِّ، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النُّورِ: 44]، فتأملوا بعين البصيرة في عظمة الله وقدرته وخلقه، وتفكروا في الشتاء والسحاب والمطر، وتأملوا في الطل والندى، وانظروا كيف تهبط حبَّات الغمام من الْمُزْن العِظَام، وانظروا إلى الجبال المبرودة، والبلدان المفلوجة، والمدن المصقوعة التي كساها البَرَدُ والبياضُ، وسَبِّحوا الخلاقَ العليمَ، سبِّحُوا اللهَ الخلاقَ العليمَ العظيمَ مُبدِعَ الكون ومُنْشِئَهُ، وما أنتم إلا شعبة يسيرة من خلقه العجب المهيب، فعظِّموا اللهَ حقَّ عظمته، وخافوا من بأسه ونقمته، وكُفُّوا عن معصيته، والاستهانة بحقه.
أيها المسلمون: لقد نزَل الشتاءُ بحِدَّته وشدته وقسوته، فاحتَرِزوا من البرد؛ فإنه يُفلج الحيطانَ، ويهدم الأبدانَ، ويُهرم الشيخانَ، قال الربيع بن ضبيع:
إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَأَدْفِئُونِي *** فَإِنَّ الشَّيْخَ يَهْدِمُهُ الشِّتَاءُ
وقال آخَرُ:
جَاءَ الشِّتَاءُ وَلَيْسَ عِنْدِيَ فَرْوَةٌ *** وَالْقُرُّ خَصْمٌ لَا يُرَدُّ وَيُدْفَعُ
ورُوِيَ أن عمر -رضي الله عنه- قال: "إن الشتاء قد حضَر وهو عدوٌّ، فتأهبوا له أهبتَه، من الصوف والخِفَاف والجوارب، واتَّخِذوا الصوفَ شعارًا ودثارًا، فإن البَرْدَ عدوٌّ سريعٌ دخولُه، بعيدٌ خروجُه".
أيها الآباءُ والأولياءُ: احْنُوا على صغاركم وأطفالكم، واكسوهم وارحموهم، فالرحمة لا تُنزَع إلا من قلبِ شقيٍّ، وكم من أب هجَر أولادَه، وأمسَكَ عنهم النفقةَ بسبب اختلافه مع زوجته أو مطلَّقته، لا يكسوهم في صيف ولا شتاء ولا أعياد، ولا يَصِلُهم بنفقة، ولا يعرفهم بإحسان حتى تصدَّق عليهم الغرباءُ والأقرباءُ؛ أيُّ قسوةٍ، وأيُّ غلظةٍ، وأيُّ عقلٍ، وأيُّ فِكْرٍ يحمله ذلك الأبُ الظالمُ الجاهلُ الذي أهمَل أولادَه وقلاهم، ورماهم وأشقاهم.
قال مولًى لعبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: "إني أريد أن أُقيم هذا الشهرَ ها هنا ببيت المقدس"، فقال له: "تركتَ لأهلِكَ ما يَقُوتُهم هذا الشهر؟ قال: لا، قال: فارجع إلى أهلك، فاترك لهم ما يقوتهم؛ فإني سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع مَنْ يَقُوتُ"(رواه أحمد وأبو داود)، وعند مسلم: "كفى بالمرء إثمًا أن يَحبس عمَّن يملك قوتَه".
أيها المسلمون: وما أشدَّ أن تعوزك مؤنةُ الشتاء، وتعسُر عليك كسوتُه، وأنتَ إليها مضطر ومحتاج، وكم أعوز الفقيرُ وأعجزه عباءٌ أو كساءٌ أو رداءٌ أو لحافٌ أو غطاءٌ أو غذاءٌ أو دواءٌ له أو لأولاده لم يقدر على ثمنه، قيل لبعضهم: "ما أعددتَ للبرد؟ قال: طول الرعدة والرعشة والرجفة".
فإذا ادفيتُم واستدفيتُم فتذكَّروا الضعفاءَ والفقراءَ والمساكينَ، والأراملَ والأيتامَ والمحتاجينَ، وتذكروا اللاجئينَ والنازحينَ والمشردينَ، الذين ضربَهم الصقيعُ وحاصرتهم الثلوجُ، وقتلتهم العواصفُ، الفقير يئن، والضعيف يستنجد، والمضطر يستصرخ، ضاقت يداه، وعَظُمَتْ شكواه، واحتلَّ برق الشتاء منزلَه، وبات شيخ العيال يصطلب، والمؤمنون أقربُ الناسِ رحمةً وشفقةً وإحسانًا، وأحناهم على فقير ويتيم ومسكين، وأحدبهم على أرملة ومطلَّقة وضعيف، وأعطفهم على ملهوف، وأنفعهم لمكروب ومضطر، لا كافي يكفيه، ولا مُئوِيَ يؤويه، فتعاهدوهم، وتفقدوهم، ودثِّروهم بالأكسية والأردية والأغطية، وزمِّلوهم باللُّحُف والأصواف، وأمِدُّوهم بوسائل التدفئة.
والحُنُوُّ والشفقةُ والإحسانُ من المسلم على أخيه المسلم أعظمُ دفءٍ لمن لا دفءَ له، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "بينما نحن في سفَر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه رجلٌ على راحلة له، فجَعَل يصرف بصرَه يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ كان معه فضلُ ظهرٍ فَلْيَعُدْ به على مَنْ لا ظهرَ له، ومن كان له فضلٌ مِنْ زادٍ فَلْيَعُدْ به على مَنْ لا زادَ له، فذَكَر من أصناف المال ما ذكَر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل"(أخرجه مسلم).
أيها المسلمون: والكرم في كَلَبِ الشتاءِ وقسوته، والإطعام والإحسان إذا شحَّ الزادُ وقلَّ القِرَى، وكَثُر الجدبُ، مأثرةٌ ومكرمةٌ لا يتَّصِفُ بها إلا الأجوادُ الرحماءُ، قال جل وعز: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)[الْبَلَدِ: 14-16]، قال إبراهيم النخعي: "في يومٍ الطعامُ فيه عزيزٌ".
وتصدَّق محمد بن عبدوس المالكي، في ليلة شاتية بقيمةِ غلةِ بستانِه كلِّها، وكانت مائة دينار ذهبي، وقال: "ما نمتُ الليلةَ غمًّا لفقراء أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-".
وقال طرفة بن العبد:
نَحْنُ فِي الْمَشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفْلَى *** لَا تَرَى الآدِبَ فِينَا يَنْتَقِرْ
وقالت الخنساء -رضي الله عنها- في رثاء أخيها صخر:
وَإِنَّ صَخْرًا لَوَالِينَا وَسَيِّدُنَا *** وَإِنَّ صَخْرًا إِذَا نَشْتُو لَنَحَّارُ
وقال أوس بن حجر:
مَطَاعِينُ فِي الْهَيْجَا، مَطَاعِيمُ لِلْقِرَى *** إِذَا اصْفَرَّ آفَاقُ السَّمَاءِ مِنَ الْقَرْسِ
والقَرْسُ: أبردُ الصقيعِ وأكثرُه وأشدُّه، وقال آخرُ:
أَخُو شَتَوَاتٍ يَعْلَمُ الضَّيْفُ أَنَّهُ *** سَيَكْثُرُ مَا فِي قِدْرِهِ وَيَطِيبُ
أَخُو شَتَوَاتٍ لَا تَزَالُ قُدُورُهُ *** يُحَلُّ عَلَى أَرْجَائِهَا ثُمَّ يُرْحَلُ
فجُودُوا وتصدَّقوا، وأطعِموا الجائعَ الطاويَ الطيانَ، واسقوا اللهفان والظمآن، واكسوا من تقعقعت أضراسُه، وارتجفت أوصاله مِنْ لفحِ البردِ وحِدَّتِه، وتفقدوا الجيرانَ والخدمَ والعمالَ، والأقاربَ والفقراءَ والضعفاءَ، والرعاةَ في الصحراء، فليس المؤمنُ الذي يشبع وجارُه جائعٌ، وسُدُّوا جوعةَ المسكين وحاجتَه وفاقتَه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من طيِّب، ولا يقبل اللهُ إلا الطيبَ، إلا أخذَها الرحمنُ بيمينه وإن كانت تمرة، فتربو في كفِّ الرحمنِ حتى تكون أعظمَ من الجبل، كما يُرَبِّي أحدُكم فَلُوَّه أو فصيله"(متفق عليه، واللفظ لمسلم).
أقول ما تسمعون، وأستغفر اللهَ فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي ازَّيَّنت بشكره الأفواهُ، وخضعت لعظمته الجباهُ، أحمده أبلغَ الحمد وأكملَه وأعظمَه وأتمَّه وأشملَه، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، صلاةً دائمةً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقِبوه وأطيعوه ولا تعصوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119].
أيها المسلمون: وفي الشتاء يستدفئ الناسُ من البَرْد بالنار، يستلذونها، ويسمرون حولَها، ويُشعلونها في البيوت والبساتين والخيام، هي في الشتاء فاكهتهم وجامعتهم.
النَّارُ فَاكِهَةُ الشِّتَاءِ فَمَنْ يُرِدْ *** أَكْلَ الْفَوَاكِهِ شَاتِيًا فَلْيَصْطَلِ
قال عز وجل: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ)[الْوَاقِعَةِ: 73]، فمن أضرَى نارَه وأوقَدَها وطبَخ بها وخبَز واصطلى، واشتَوَى واستأنَس بها وانتفع فلا يترك في الموقد أو المشعلة أو المجمَر جمرةً ولا نارًا، إلا أخمَدَها وأطفأها، في ليلة كان أو في نهار، خشيةَ الاحتراق أو الاختناق، فالنار عدو غير مزموم بزمام، يتطاير شررُها، ولا يؤمَن لهبُها، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تتركوا النارَ في بيوتكم حين تنامون"(متفق عليه).
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "احترق بيتٌ بالمدينة على أهله من الليل، فلمَّا حُدِّثَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بشأنهم قال: إنَّ هذه النارَ عدوٌّ لكم، فإذا نمتُم فأطفِئوها"(متفق عليه).
وهكذا الدفايات الكهربائية، إذا خُشِيَ من حرارة شمعتها ضررٌ، شُرِعَ إطفاؤُها عند انقضاء الحاجة منها، وإبعاد أسلاكها وشمعتها عن الفُرُش والثياب والأوراق والأطفال تجنبًا للكوارث والحوادث المفجِعة.
وصلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورى طُرًّا، فمَنْ صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا، اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمد، وارضَ اللهم عن جميع الآل والأصحاب، وعنَّا معهم يا كريمُ يا وهَّابُ، اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وَأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، وَدَمِّرْ أعداءَ الدينِ، واجعل بلاد المسلمين آمنةً مطمئنةً ساكنةً مستقرةً يا رب العالمين، اللهم أَدِمْ على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها وعِزَّها واستقرارها يا رب العالمين، اللهم احفظ حدودنا، وانصر جنودنا، واخز عدونا يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين لِمَا تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وَفِّقْه ووليَّ عهده لِمَا فيه عزُّ الإسلام وصلاح المسلمين يا رب العالمين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، يا أرحم الراحمين.
اللهم اشف مرضانا، وعافِ مبتلانا، ارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا، اللهم وفقنا حتى لا نرد مورد مأثمة، ولا نقف موقف مندمة، ولا نرهق بتبعة ولا معتبة، ولا نلجأ إلى معذرة عن بادرة يا رب العالمين، اللهم اجعل دعاءنا مسموعًا، ونداءَنا مرفوعًا، يا كريمُ يا عظيمُ يا رحيمُ.
التعليقات