عناصر الخطبة
1/ القناعة المحمودة والمذمومة 2/ إفساد الحرص على المال والشرف للدين 3/ المقياس الرباني للمفاضلة بين الناس 4/ القوة والأمانة علامتا الأفضلية في المستأجَر والمسؤول 5/ الإحساس بالمسؤولية مدعاةٌ للتواضُعاهداف الخطبة
اقتباس
إن البحث عن الأفضل فطرة في الإنسان السوي، وإن القناعة التي هي الاكتفاء والرضا بالقِسَم والتي قد تبدو تعارض هذه الفطرة إنما تحمد هذه القناعة إذا كان البحث عن الأفضل يؤدي في حقيقة الأمر إلى الأسوأ، هنا يقف الإنسان عن طلب المزيد، وتكون القناعة محمودة، ولذا فلا قناعة في طلب الآخرة، ولا في اكتساب علم نافع، أو صفة فاضلة، أو ما شابه هذه المزايا؛ بل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن البحث عن الأفضل فطرة في الإنسان السوي، وإن القناعة التي هي الاكتفاء والرضا بالقِسَم والتي قد تبدو تعارض هذه الفطرة إنما تحمد هذه القناعة إذا كان البحث عن الأفضل يؤدي في حقيقة الأمر إلى الأسوأ، هنا يقف الإنسان عن طلب المزيد، وتكون القناعة محمودة، ولذا فلا قناعة في طلب الآخرة، ولا في اكتساب علم نافع، أو صفة فاضلة، أو ما شابه هذه المزايا؛ بل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون.
أما طلب الدنيا كالبحث عن منصب عالٍ، أو جاهٍ، أو ثراء واسع، أو شهرة، أو غيرها من الأغراض، فليس بالضرورة أنه بحث عن الأصل، لا سيما إذا كان الدافع الحقيقي وراء ذلك هو الشهوة والهوى، ولذا صح عند أحمد والترمذي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف، لدينه"، فالمال ذئب، والشرف ذئب، أي: إن حرص الإنسان على المال والشرف والجاه أفسَدُ لدينه من إفساد ذئبين جائعين أطلقا يفعلان ما يشاءا في غنم ضعيفة، فكيف سيفتكان بها؟.
فالحرص على المال والشرف أشد إفساداً للدين، ولذا فليس كل وجيه محظوظ، ولا كل ثري سعيد، ولا كل صاحب منصب رفيع موعود بالثبات على دينه وأمانته، نسأل الله الثبات على الحق.
وتهنئة الناس بعضهم بعض على مال عريض، أو منصب كبير، أو صفقة هائلة، لا يغير من هذا الواقع شيئاً؛ ولقد نزل القرآن بما يخالف ما درج عليه الناس من تفخيم الربح الدنيوي أياً كان مادياً أو معنوياً، حيث قال تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه:131]، منهم من مددنا له من المال ومنهم من ملَّكناه ومنهم من قدرنا له نسباً وشرفاً، كله من زهرة الحياة الدنيا التي لا تؤخر عند الله ولا تقدم في الفضل ولا حتى قيد شعرة، وإنما هي ابتلاء محض: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ).
فلا تمــُدَّنَّ إلى ما هم فيه بصرك، ولا تلتفت إليهم، نجد الآية هنا تخاطب المؤمن من خلال مخاطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يمتاز عن غيره من الناس بشخصية ربانية لها شأنها الراقي، وميزانها الإيماني، وتطلعها السامي الذي لا ينخدع بتهافت الناس على الدنيا، وجعلهم إياها مقياساً للفضل، وسبباً لرفع الإنسان أو خفضه.
في صحيح البخاري في حديث سهل: "مر رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أي رجل من المؤلفة قلوبهم من أشراف الناس وكبرائهم وساداتهم) فقال -صلى الله عليه وسلم-: ما: "تقولون في هذا"؟ قالوا: هذا قالوا حَرِيٌّ إن خطب أن يُنكَح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع له. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: "ما تقولون في هذا؟"، قالوا: حري إن خطب أن لا يُنكَح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يُستمَع، نعم، أجابوا وفق ما تعارف عليه الناس، وجعلوه أصلا للتفاضل. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا -أي الفقير- خيرٌ مِن مِلء الأرض من مثل هذا".
ولهذا لما سأله أحد الصحابة : يارسول الله ففلان هكذا وتصنع به ما تصنع - أي تبجله وتعطيه المال - قال : إنه رأس قومه فأتعلق به.
فالأموالُ والبنونَ والمـــُلكُ والجاهُ والنَّسَبُ والحَسَبُ صِفْرٌ، لا تعدل عند الله شيئاً أبداً، وهي بذاتها لا تقدم الإنسان إلى الجنة، ولا تؤخره عن النار، وإنما هي من فِتن الدنيا وأغراضها الفانية؛ وفي مسلم والسنن عن جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتي منطقة العالية (بالمدينة)، فمَرَّ بِجَدْيٍ أسَكَّ، صغيرِ الأُذُنَيْن، ميِّت، جيفة، فتناوله فأخذ بأُذُنه، ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟"، فقالوا: لا نحب أن يكون لنا بشيء، ماذا نصنع به؟ ثم قال: "أتحبون أنه لكم؟"، قالوا: واللهِ، لو كان حياً كان عيباً، إنه أسك، فكيف وهو ميت؟! فقال: "فوالله! لَلدنيا أهونُ على الله من هذا عليكم".
هذه هي قيمة الدنيا عند الله بأغراضها ومناصبها وما فيها، إذن فالسعي وراء الأفضل في مفهوم المؤمن له قواعده ومعايير الأفضل والأسوأ عند المؤمن لا تربطها الأهواء ولا العادات وإنما يضبطها الدين القويم والعقل الرشيد، ومن ثم فإن مرجع فكرة البحث عن الأفضل على أي حال يعود إلى معتقدات الإنسان وكيانه.
أيها الأخوة: إن من البحث عن الأفضل، البحث عن الصديق الأفضل، وعن الأجير الأفضل، وعن المسؤول الأفضل أياً كان؛ والقرآن لم يهمل هذه القضية الحساسة في حياة البشر، فعلى سبيل المثال وضع لاختيار الأجير والمسؤول، وهو موضوعنا اليوم، وضع القرآن مرتكزين أساسيين واضحين يضمنان الأفضلية، هذان المرتكزان هما: الأمانة والقوة.
فلما حكي لنا القرآن قصة نبي الله موسى -عليه السلام- عندما رأت إحدى ابنتي شعيب علامات الأفضلية في المستأجر: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص:26]، علامتا الخيرية موجودتان في موسى: الأمانة والقوة.
وقد ذكر ابن كثير عن ابن عباس أن الأب قال لابنته : ما يدريكِ ما قوته وما أمانته؟ قالت: أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما الأمانة فإنه نظر إليَّ حين أقبلت إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب رأسه – أي إلى الأرض- فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك، ثم قال لي :امشي خلفي وانعتي لي الطريق، فلم يفعل هذا إلا وهو أمين، لا يريد أن ينظر إليها -امرأة-، فسري عن أبيها وصدقها وظن به ما قالت.
وهكذا كان مفهوم الأفضلية عند جلوس نبي الله سليمان -عليه السلام-، عندما طلب منهم إحضار عرش ملك سبأ: (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) [النمل:39].
مفهوم الأمانة واسع يشمل الصدق، ويشمل حفظ العهد، وأول عهد وأهم عهد وأعظم عهد يحفظه المسلم الأمين هو عهد الله، وحفظ دينه وحفظ حدوده وشريعته، ولذلك لعن الله ناقض عهده في قوله: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد:125].
ولقد كان تفريط اليهود يفي حفظ عهد الله سبب في لعنهم (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) [المائدة:13]، فاليهود لا عهد لهم، ولا أمانة لهم، بل هم أكبر الخونة على مدى التاريخ، لأنهم خانوا الأمانة العظمى وهي عهد الله، خانوا دينه.
الحاصل أن الأمانة في الأجير أو في المسؤول هي في المقام الأول، أمانة دينية، ولابد أن تكون كذلك في المجتمع المسلم الذي يقدس كلام الله ويتلقى منه عقيدته ومنهجه في الحياة، وما أوسع وأوقع وأعمق وأصدق مفهوم الأمانة هذا! يعني حين تكون الأمانة شعور ذاتي مرتبط بالخوف من الله، مرتبط بمراقبته -سبحانه وتعالى-.
ما أوسع وأعمق مفهوم الأمانة هذا حين ننزله على قضيانا اليومية! حين ننزله على أخلاقنا وسلوكنا ومعاملاتنا! فنصبح أمناء في كل ذلك، حينها فقط يشعر المسؤول -مهما عظم مكانه وارتقى سلطانه- أن ما آتاه الله تعالى من منصب أو وزارة أو أية ولاية إنما هو مقام محاسبة وتكليف، لا مقام تسخير وتشريف، وأن نطاق مساءلته يوم القيامة أصبح واسعاً جداً، وأن الحذر من إضاعة الأمانة يتأكد في ذهن المسؤول المؤمن أكثر من غيره من الناس، وأن التهاني والتبريكات التي يتلقاها مَن كُلِّف وحاذ على منصب رفيع ليست منهجاً يعينه على الوعي بمسؤوليته، ولا الشعور بخطورة موقعه، ولا استشعاره لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
ولذلك نرى من وُفِّق لهذه الرؤيا من أصحاب الرتب والمقامات العالية يكسر ما اعتاد عليه الناس مِن قَبله من استقبال المهنئين والمداحين، فقد حكى ابن كثير عن عوانة بن الحكم قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- وفد إليه الشعراء، طبعاً معروف لماذا يفد الشعراء، وكم حبروا من قصائد التبريك والمدح! يقول: فمكثوا ببابه -أي بباب عمر بن عبد العزيز- أياماً وأياماً فلم يأذن لهم، ولم يلتفت إليهم، فساءهم ذلك وهموا بالرجوع إلى بلادهم.
فمر رجاء بن حيوة، وزيرُ الخليفة وأقرب مستشاريه، فقال له الشاعر جرير:
يَا أَيُّها الرجلُ المــُرخِي عِمامَتَهُ *** هذَا زَمانُكَ فاسْتأذِنْ لنا عُمَرَا
هذا وقتك، فدخل ولم يذكر لعمر من أمرهم شيئاً، حتى أخبره بأمرهم عدي بن أرطأة قائلا له: يا أمير المؤمنين، الشعراء وسهامهم مسمومة، وأقوالهم نافذة. فرد عليه: ويحك ياعدي! مالي وللشعراء!.
ولذلك لمــَّا تمكن أحد الشعراء من الدخول عليه وهو جرير، ثم مَن عنده على الشعراء الذين كانوا ينتظرون قالوا: ما وراءك ياجرير؟ قال: ورائي ما يسوؤكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وإني عنه لراضٍ. ثم أنشد يقول:
رأيتُ رُقَى الشَّيْطانِ لَا تَسْتَفِزُّهُ *** وقَدْ كانَ شَيْطَاني مِنَ الجِنِّ راقِيا
أيها الأخوة: إن الدين إذا تمكن من قلب المؤمن شع نوره في كيانه، وأصبح لا يستهدي إلا بدينه دون غيره. أسأل الله أن ينور قلوبنا بالإيمان ويرزقنا طاعته والله المستعان.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً كثيراً، والصلاة والسلام على رسولنا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد قدم أن البحث عن الأفضل إذا أردنا أن نختار عاملاً أو موظفاً أو مسؤولاً يستلزم مراعاة مرتكزي الأفضلية وهما "القوة والأمانة"، القوة في العلم والحزم والقدرة، والأمانة في حفظ الدين، وما يقتضيه من حفظ الحقوق، وبدر النصح على ضوء الشريعة، وتوقير حدود الله، والإحساس بحجم المسؤولية أمام العليم القدير.
اللهم أصلح حالنا وحال أمتنا...
التعليقات