أسامة الهتيمي
إن الاستهزاء والسخريَّة من المؤمنين هو أحد أهم أشكال الابتلاءات التي ابتُلِي بها المؤمنون؛ ذلك أن الإيمان بالله - عز وجل - والتسليم له يعني القفز فوق ما يَستهوي الناس من الشهواتِ والإغراءات، وبدونه يصنع كل امرئ ما يشاء بلا حساب أو رقيب، ومن ثَمَّ، فإن الإيمان يُمثِّل لدى الكثيرين قيدًا على القلوب والنفوس والأمزجة يوجِّهها إلى حيث يرضى الله - عز وجل - وليس إلى حيث ترضى النفوس، وهو ما يدفع غير المؤمنين إلى صدِّ الإيمان ومواجهته بشتى الطرق والأسلحة انطلاقًا من دافِعَين:
الأول: الكره الشديد لهذا الإيمان الذي يضبِط الحياة ويُذكِّرهم بأن هناك آخرة، وهناك حساب يتْبعه الثواب أو العقاب، فهذا مما تَستبعِده عقولهم، وتَرفض الإيمان به قلوبهم؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 49 - 52].
وهذا الكره للإيمان ليس مقصورًا على من أعلنوا الكفرَ فحسب، بل إنه يشمَل أيضًا البعض ممن يدَّعون الإيمان؛ فهم على نفس الشاكِلة من الرفض القلبي والعقلي لاستحقاقات الإيمان؛ يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 41].
الثاني: رغبةُ الكفار في أن يَكفُر المؤمنون، ويكونوا على ما هم عليه من الفِسْق والإجرام، فلا يكون لهم مَيزة عليهم مِصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [النساء: 89].
خطر الاستهزاء:
والمتأمِّل في فِعل الاستهزاء من الإيمان والمؤمنين يجده أشدَّ وطأة من المسالِك الأخرى للمُعادِين للإيمان والمؤمنين؛ ذلك لأسباب منها:
1- أن الاستهزاء ابتلاء دائم يتعرَّض له المؤمنون في كل وقت وحين، بل يمكن أن يقع في كل مكان يوجد به المؤمنون أو لا يوجدون فيه، ومن ثَمَّ فهو حرب نفسيَّة مستمرة ضد المؤمنين تَستلزِم مجاهدة ومصابرة وتجديدًا للنية.
2- أنه يَصدُر أحيانًا ممن يأمنُ المؤمنون جانبهم ممن اعتقدوا إيمانَهم، فيعيشون بينهم وينطِقون بلسانهم، ويدَّعون افتراء وتدليسًا أنهم بأقوالهم وأفعالهم يعبِّرون عن اجتهادات لا تخرج عن حدود الإيمان.
3- أنه ابتلاء يتعرَّض له المؤمنون جميعًا ممن كان إيمانهم قويًّا أو ضعيفًا، وهو ما يوسِّع من دائرة المفتونين جراء هذا الابتلاء.
4- أن من بين أشكال الاستهزاء والسخرية محاولاتِ التشكيك في الدين وقواعده وتوجيهاتِه، فلا يتردَّد المستهزئون من السخرية من الحجاب مرة، ومن الصلاة مرة، ومن اللحية مرة، ومن الأحكام الشرعية أو من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مرة، أو من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم – مرة، أو من تقصير الثياب مرة، أو من بعض المفاهيم العقديَّة مرة، وغير ذلك.
5- أن استهزاء المجرمين من المؤمنين يَهدف إلى إصابة المؤمنين بالإحباط مستغلِّين في ذلك فقر الفقراء منهم، أو قلة حيلتهم، أو تراجُع مكانتهم الاجتماعية، أو غير ذلك مما يُحاول المجرمون أن يجعلوا منه أداة للإحباط، وهو ما تَجسَّد مثلاً في قصة سيدنا نوح - عليه السلام - عندما أمره الله بصنع الفلك في الصحراء، وكان ذلك - بالطبع - مسارَ سخرية الكافرين؛ يقول تعالى: ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾ [هود: 38]، فقد كان الهدف هو إصابة نوح - عليه السلام - بالإحباط؛ ذلك أن ما أُمِر به لم يكن بالنسبة لهم أمرًا معقولاً.
اشتداد الأزمة:
يُعَد فِعْل الاستهزاء والسخرية من المؤمنين فعلاً قديمًا يعود إلى زمن خَلْق الله تعالى لسيدنا آدم - عليه السلام - حينما سخِر إبليس من آدم باعتباره مخلوقًا من طين؛ يقول تعالى: ﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12]، كما أن جميع الأنبياء والرسل - بلا استثناء تقريبًا - تعرَّضوا لهذه السخرية حتى كانت السخرية أحد محدِّدات قدرة النبي على المواجهة والصمود في وجه الكفر والكفار.
وبقي هذا الفعل ليومنا هذا ليكون - وكما أشرنا سالفًا - أحد أهم الابتلاءات التي ابتُلي بها المؤمنون بعد أن اشتدت ضراوته وعلتْ سطوتُه واتَّسعتْ ساحته، وتعدَّدت جهاته، ما زاد من خطره وآثاره، فلم يترك المستهزئون شاردةً ولا واردةً إلا وجعلوا منها مادة للسخرية وللاستهزاء، ولم يغضُّوا الطرف عن زَلّات بعض المؤمنين إلا وضخَّموا منها لتكبُر في عيون الآخرين، ولم يَتوانوا عن استغلال جهْل الجاهلين إلا وأشاعوا بينهم ما ليس من الدين والإيمان، ولا من فِعْل المؤمنين.
طريقة المواجهة:
لقد كانت فداحة خطرِ الاستهزاء كبيرة بما يَستلزِم البحث عن طريقة لمواجهته، والتسلح بسلاح يَصده ويوقِف من استفحاله، وهو ما وضع له القرآن الكريم عددًا من طُرُق التعامل معه وَفْق اختلاف حالته وطبيعة الظروف، فكان من هذه الطرق:
1- عدم الجلوس مع الذين يستهزئون بآيات الله؛ مِصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 140]؛ وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68]، وقال الله تعالى في وصف عباد الرحمن: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 72].
2- الردُّ على ما يُثار من الشبهات ومناظرة الآخرين فيما يدَّعون ويقولون، ودعوتهم للحق بالحكمة والموعظة مِصداقًا لقوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125]، وقوله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 78 - 83]، وقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61].
3- الصبر على المستهزئين؛ ففي ذلك أحيانًا رد بليغ مفحِم لهم؛ يقول تعالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].
4- الاستعلاء الإيماني الذي يجب أن يتحلَّى به المؤمنون، وهو استعلاء على غنى الأغنياء من المجرمين، واستعلاء على رِفْعة أوضاعهم الاجتماعية التي يتفاخَرون ويَتباهون بها، واستعلاء على استمتاعِهم المؤقَّت بمُتَع الحياة الدنيا، واستعلاء على انسياقهم وراء تحقيق شهواتِهم ورغباتهم.
إن المؤمن يجب أن يُداخِله الشعور بعزة نفسه وأنه أفضل بإيمانه، وأن الدنيا كلها فانيةٌ وزائلة مهما طال الزمن، وأن معاناته - إن كانت - ليس إلا رخصة المرور للآخرة، بل إن هذه المعاناة ربما تكون أحد أسباب النصر؛ يقول تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]، فالعلو حتمًا للمؤمنين إن صدَق إيمانهم، ومن ثَمَّ فإن مشاعر الدونيَّة والإحباط والهزيمة والاستسلام هي مما يتعارَض مع عزة الإيمان ورفعة المؤمنين.
التعليقات