عناصر الخطبة
1/ ذمّ العجلة 2/ بواعث التعجّل 3/ صفات العجِلين 4/ آثار العجلة 5/ مداواتها 6/ العجلة المحمودة 7/ من صور العجلة المذمومة 8/ مخاطر التعجل في مجال الدعوة 9/ وقفات مع الأحداث الدامية التي حدثت مؤخرااهداف الخطبة
اقتباس
العجلة في غير موضعها تدل على خفة العقل، وقلة رزانته، وغلبة الشهوة عليه؛ ولهذا قال ابن القيم: "لا حكمة لجاهل، ولا طائش، ولا عجول"، وجاء في الحديث: "التأني من الله، والعجلة من الشيطان".
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحكيم العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه هو البر الرحيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد: صفة جبل الإنسان عليها، وحذر منها، صفة دافعها نفسي أو حماس وانفعال، أو يدفع إليها واقع الأعداء والجهل بأساليبهم، وربما دفع إليها شيوع المنكرات مع الجهل بأسلوب تغييرها، وصحبة أربابها دافع إليها.
صفة مذمومة في أصلها، الطلاق من ثمارها، وقتل الأبرياء من آثارها، واليأس من أضرارها، وترك الدعاء من مظاهرها، والتعالم من نتائجها؛ إنها العجلة، والتي تعني إرادة تغيير الواقع في لمحة أو في أقل من طرفة عين، دون النظر في العواقب، ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع، ودون إعداد جيد للمقدمات والأساليب.
إنها العجلة، جبل الإنسان عليها: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) [الأنبياء:37]، فالعجلة في طبعه وتكوينه، وهو يمد ببصره دائماً إلى ما وراء اللحظة الحاضرة ليتناوله بيده، ويريد ليحقق كل ما يخطر له بمجرد أن يخطر بباله، ويريد أن يستحضر كل ما يوعد به ولو كان في ذلك ضرره وإيذاؤه، ذلك إلا أن يتصل بالله فيثبت ويطمئن ويكل الأمر لله فلا يتعجل قضاءه، فالإيمان ثقة وصبر واطمئنان.
الإنسان مطبوع على العجلة، ومن عجلته أن يسأل الشر كما يسأل الخير، ولو استجاب له ربه لهلك بدعائه: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [يونس:11].
العجلة صفة تؤدي دائماً في ذاتها وآثارها إلى قلق الإنسان وانزعاجه، وتورث الأسى والأسف في مشاعره وأحاسيسه، والندامة من أعراضها، وقد قال أبو حاتم: "العجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعدما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم".
والعجل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تكني العجلة: أم الندامات، وإن الزلل مع العجل، والإقدام على العجل بعد التأني فيه أحزم من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه، ولا يكون العجول محموداً أبداً.
العجلة تورث أمراضاً وآثاراً نفسية، منها القلق الذي ينتاب الإنسان في عجلته وسرعته، والارتباك، والنسيان، والخوف من المجهول المترتب بسبب عدم وضوح الرؤية.
إن المتطبع بالعجلة والسرعة في سلوكه الاجتماعي يكون حاداً متعصباً متكلفاً للأمور، بخلاف الحكيم المتأني فإنه يكون ساكناً متئداً، وسهلاً ليناً، يضع الأمور في مواضعها، ويتلمس من الطرق أيسرها.
العجلة من الحدة، وصاحب العجلة إن أصاب فرصة لم يكن محموداً، وإن أخطأها كان مذموماً، والعجل لا يسير إلا مناكباً للقصد، منحرفاً عن الجادة، يتلمس ما هو أنكى وأوعر وأخطر مساراً.
العجلة طريق للفوضوية؛ لأن النتائج لم تقم على تأصيل أصيل ولا على دراسة متأنية، ومن ارتجى رفع الفوضوية عن نفسه فإنه مطالب أولاً بالتأني والنظر والتفكر في عواقب الخطوات القادمة قبل أن يخطوها، "والتأني يعني عدم ارتجال القرارات والتصرفات، ويعني التريث لإمعان النظر في الآثار والعواقب الناجمة عن فعل الفعل، أو قول القول، أو تركهما؛ ويعني وضع الشيء في موضعه الصحيح".
إن على أرباب الاستعجال أن يعلموا أن لله في خلقه سنناً لا تتبدل، وأن لكل شيء أجلاً مسمى، وأن الله لا يعجل بعجلة أحد من الناس، وأن لكل ثمرة أواناً تنضج فيه، فيحسن عندئذ قطافها، والاستعجال لا ينضجها قبل وقتها، فهو لا يملك ذلك، وهي لا تملكه... إنها خاضعة للقوانين الكونية التي تحكمها وتجري عليها بحساب ومقدار.
العجلة في غير موضعها تدل على خفة العقل، وقلة رزانته، وغلبة الشهوة عليه؛ ولهذا قال ابن القيم: "لا حكمة لجاهل، ولا طائش، ولا عجول"، وجاء في الحديث: "التأني من الله، والعجلة من الشيطان".
وإذا كانت العجلة في أصلها مذمومة ومنقصة، فنقيضها، وهو التواني والكسل والتردد والتخاذل، كلها رذائل لا تليق بحكيم، والإسلام يدعو إلى المبادرة والمسابقة والمسارعة في أعمال الآخرة: (سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:20]، (وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133].
وفي الحديث: "بادروا بالأعمال سبعاً"، وفي الحديث الآخر: "التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة"، ومن قبل قال موسى: (قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه:84].
أما العجلة المذمومة فصورها شتى، فمنها: العجلة في تصديق الأخبار قبل التثبت من صحتها، والعجلة في إصدار الأحكام مدحاً أو ذماً دون دراية وتريث وتبين، والعجلة في الإفتاء أو رد الفتوى قبل معرفة الدليل، والعجلة في الوصول إلى الثمرة وإدراك الغاية، و"من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه"، والعجلة في إصلاح الناس وتغيير واقعهم، والعجلة في الدخول في مجابهات قبل أوانها.
روى البخاري وغيره عن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد ببردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله! ليُتِمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون!".
إن من واجب الدعاة أن يمضوا ولا يتطلعوا إلى شيء إلا رضا الله ورحمته، هذا هو الهدف الحقيقي، وهذه هي الغاية، وأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو دعوة الله التي يحملونها.
إن كثيراً من الشباب المتحمس يبدأ مجال الدعوة باندفاع، ويسرّ لما يحققه من نجاح نسبي في أول مشواره، مع قلة ما يواجه المبتدئ غالباً من عقبات، فيترسخ في ذهنه أن هذه الطريق كلها بهذه السهولة قريبة النتائج، فإذا ما توغل وحصل له أي نوع من أنواع الابتلاء من عدم استجابة الناس على عجل أو عدم استجابتهم البتة، أو عدم ثباتهم على الاستقامة، أو عدم زوال المنكرات، فإذا ما رأى ذلك بدأ يتململ ويتذمر، وينفذ صبره، ويتوقف عن مواصلة الطريق؛ بل قد يعتقد أن هذه هي النتيجة الأخيرة، وأنه والدعاة معه قد خسروا، فيتصرف تصرفات رعناء متسرعة من واقع الضغط النفسي الذي يضايقه، ظاناً أنه بذلك يحقق نصراً للدعوة لم يستطع تحقيقه بأسلوب الرفق والتودد.
إن الداعي ليس مطالباً بتحقيق نصر الإسلام، فهذا أمره لله، متى شاء أن يحدث حدث، لكنه مطالب ببذل الجهد في هذا السبيل فحسب، (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إذا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ) [الشورى:48].
الاستعجال مذموم عند الدعاء، ففي الحديث: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي". فكن على حذر أن تقول: دعوت ودعوت فلم يستجب لي؛ فتمل الدعاء وتركن إلى اليأس والقنوط! واعلم أن كل داعٍ يستجاب له ما دام طيب المطعم والملبس، وليعلم العبد أن في تدبير الله له كل صلاح، وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وما ثقل الدعاء على قومٍ إلا حينما استبطؤوا الإجابة، وغفلوا عن الحكمة الربانية، والإرادة الإلهية.
والاستعجال مذموم في طلب العلم، حينما ترى طلاب العلم قد أصيبوا بداء العجلة، وسقوط الهمم، ونفاذ الصبر، فأصبحت صدروهم ضيقة، وهممهم ساقطة وهزيلة، لم يعد هناك صبر ومصابرة، ولا جد في طلب العلم والجلوس عند ركب العلماء وملازمتهم لأخذ العلم والعمل عنهم، أصبح طلاب العلم اليوم لا يقدون على إكمال متن في أي علم من العلوم.
الناس جميعاً في عجلة من أمرهم، ولذلك لجؤوا إلى الاختصار، اختصار كل شيء، العلم اليوم مختصر، والدين مختصر، والعلماء مختصرون، وما لا يمكن اختصاره يلغى.
ونتج عن داء العجلة داء أمر وأنكى، إنه طلب الإمامة والتصدر للفتوى والترجيح والاجتهاد، فشرعوا يناقشون الآراء والمذاهب، ودخلوا في علم الخلاف بلا علم.
إن العجلة في العلم، مع سقوط الهمم، وقلة الجلد، وعدم الصبر على التلقي، مع تحكم شهوة طلب الإمامة وحب الرئاسة، كل ذلك أدى إلى هذه الفوضى العلمية، وهذا الهزال العلمي الذي عمت به البلوى اليوم.
وقد قيل: العلم ثلاثة أشبار، من دخل الشبر الأول تكبر، ومن دخل الشبر الثاني تواضع، ومن دخل إلى الشبر الثالث علم أنه لم يعلم.
الاستعجال المذموم هو الاستعجال في قطف الثمار وتحصيل النتائج، وهذا واضح لدى الشباب الذين يغلي في دمائهم حب هذا الدين والغيرة على هذه الأمة؛ وسبب الاستعجال عند الشباب يعود في أكثر الأمر إلى أن كثيراً من قادة الدعوات يوهمون الشباب بأن التمكين في الأرض وبسط سلطان الدين هو قاب قوسين أو أدنى، وذلك رغبة في كسبهم وإغرائهم بالعمل الدعوي، حتى إذا مرت السنون تلو السنين أدرك أولئك الشباب أن الطريق أطول بكثير مما قيل لهم، فيؤدي ذلك عند أية هزة إلى الإحباط والانزواء والسلبية، أو إلى تسفيه القيادات واتهامها بالقصور وتجاوز المرحلة لها، ثم الاندفاع خلف قيادات شابة تفتقر في أكثر الأوقات إلى الحكمة والخبرة والعلم، والنتيجة معروفة.
وسبب ذلك أن الشيوخ لم يبصروا الشباب بطبيعة طريق الدعوة وتكاليفه ومشاقه، وإن الحل الوحيد لحالات الاستعجال على قطف الثمار قبل نضجها هو الإحاطة المبصرة بكل جوانب التغيير المنشود وآلياته، وإلا؛ فإن كثيراً من الجهود ستكون جهاداً في غير عدو، بل ستكون أخطر على الدعوة من أعدائها.
إنه لا ينبغي للعبد أن يتعجل الأمور أو يحلل المواقف والأحداث قبل دراستها والبحث في جوانبها؛ متجرداً في ذلك لله -عز وجل-، مهتدياً بالموازين والسنن الثابتة التي ذكرها الله في كتابه وعلى لسان رسوله، وإذا وفق العبد إلى هذا الفضل فإنه -في الغالب- يصدر عن الحق، وينطق بالحق، وتنشأ عنده صفتا الحلم والأناة اللتان يحبهما الله ورسوله.
وكم رأينا من أناس تعجلوا أمورهم قبل أوانها فكانت نتيجتها وبالاً وشراً! وكم سئم أناس من نعمة أنعم الله بها عليهم فملوها وأرادوا غيرها، فلما جاءهم ما أرادوا وتعجلوا أصابهم منه ضرر ونكد وندم!.
لما تولى عمر بن عبد العزيز خلا به ابنه عبد الملك وقال له: ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمنعها، أو سنة فلم تحيها؟ فقال له: يا بني، أشيء حكمته الرعية لي أم رأي رأيته؟ فقال: لا والله! بل رأي رأيته، وعرفت أنك مسؤول، فما أنت قائل؟ فقال عمر: رحمك الله! وجزاك من ولد خيراً! فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير.
يا بني: إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقاً تكثر فيه الدماء، والله! لزوال الدنيا أهون علي من أن يهراق بسببي... دم، أوما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة؟ حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق، وهو خير الحاكمين.
أقول هذا القول...
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن أمر صور الاستعجال وأنكاها هي تلك التي تدفع إلى الحماسة المتهورة والعواطف غير المنضبطة والتي بموجبها تسفك الدماء، ويقتل أناس أبرياء، ويزعزع الأمن، وتشغل الأمة عن واجباتها.
وإن ما تشهده البلاد هذه الأيام من أحداث مؤسفة ومواجهات أليمة هو صورة من ذلك الاستعجال المذموم لفئة من شباب المسلمين، والتي ينظرون إليها على أنها قمة الشجاعة والصبر والتحمل، ولكنها -والله أعلم- قد تكون في أغلبها إنما نشأت من عدم الصبر على طول الطريق واستكمال جوانب الإعداد، وزاد في إذكائها ما تشهده بلاد المسلمين من أذى الأعداء، وما يلقاه المسلمون من سجن وتعذيب وتقتيل.
وأمام هذه الصورة من الاستعجال المذموم، وأمام ما نشهده من أعمال دامية منكرة، فإننا نقف وقفات:
أولاها: إن أشد الناس حماسة واندفاعاً وتهوراً قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة عندما يجد الجدّ وتقع الواقعة، ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالباً ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل، دون تقدير للتكاليف والعواقب، حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا ومما تصوروا.
على حين يثبت أولئك الصابرون المتحملون للضيق والأذى بعض الوقت، ويعدون للأمر عدته فيصبرون ويتمهلون، والمتهورون المندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافاً أو متخاذلين، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور، وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالاً وأبعد نظراً، فكم من أناس استعجلوا البلاء قبل أوانه فلما أصبحوا تحت وطأته ضعفوا وانتكسوا!.
ثانياً: إن الحديث عن هذه الأحداث المؤلمة، لا عن رفضها واستهجانها واستنكارها، فذلك مما لا يختلف عليه اثنان، ومما اجتمع العقلاء والعلماء عليه، وأي مسلم عاقل يرتضي أن تسفك الدماء؟ أن تهدد الجهود والطاقات؟ أن تفتح ثغرات للمنافقين...؟ وأي مسلم يرتضي تلك المواجهات الخاسرة التي لا يستفيد منها سوى العدو المشترك؟ وأي مسلم يرتضي أن تقدم أرواح مسلمة في سبيل نتائج هزيلة؟ إنما الحديث الذي يجب أن يطرح: ماذا عملنا لمواجهة هذه الفتنة؟.
لا بد أن نسلّم بأن فئة ممن تقوم بهذه الأعمال ينطلقون من منطلقات شرعية وغير دونية والتبس عليهم الحق بالباطل، فماذا قدمت الأمة لتصحيح هذه المفاهيم وبيان الحق وإزالة الإشكالات بأسلوب حواري متجرد يقوم على الدليل، ويستند إلى الواقع؟.
ولا بد أن نسلم بأن كيد الأعداء وطغيان الكفر وإذلال الغرب للمسلمين تلك أمور تدفع فئة من الشباب للانتقام من الكافرين؛ استناداً لأدنى شبهة، ودون مراعاة للمصالح والمفاسد. فماذا عملنا لامتصاص حماسهم، وتقييد عواطفهم بقيد الشريعة؟ ماذا عملنا أمام صور القهر والإذلال التي تمارسها أمريكا في سجون العراق، وما تفعله لأسرانا في كوبا، وما يفعله اليهود في فلسطين؟ حتى القنوت وبيانات الاستنكار بخلنا بها.
ولا بد أن نسلم بأن الصراع والمواجهة ليس مع فئة محددة، أو مجموعة معينة، أو تنظيم قائم؛ وإنما هو صراع مع أفكار ومفاهيم وشبهات رسخت في أذهان بعض الشباب، والصراع على الفكر لا يواجه إلا بالحكمة والهدوء، والعنف لا يزيد الفكر إلا انتشاراً، ولا يكسبه إلا تعاطفاً، والطرح المتشنج لا يزيد النار إلا اشتعالاً، ولا يزيد الخصم إلا عناداً أو استمراراً.
إن وصف هذه الفئة بالكفر، والخروج، والتهجم عليهم، والسخرية من منطلقاتهم، يجعلهم أكثر إصراراً على أفكارهم، وما أجمل العدل في الأحكام حتى مع الخصوم! وما أجمل موقف الإمام علي -رضي الله عنه- وقد سئل عن الخوارج الذين قاتلوه وقتلوا مجموعة من الصحابة الكرام، فلما سئل: أكفار هم؟ قال: "معاذ الله! من الكفر فروا، إنما إخواننا بغوا علينا"، فما أجمل هذا المنطق الهادئ! مع منطق الحوار الذي تمثله ابن عباس، والذي أنتج تراجع الكثير من أصحاب الفكر المنحرف.
ثالثاً: لا بد أن نسلم بأن الطرف العلماني والشهواني والرافضي والبدعي هو الدافع والمحرك لما يسمى بالتطرف الديني. كيف نحارب العنف والتطرف وفي مجتمعنا من يغذيه بأسلوب استفزازي بأطروحاته السامجة ومقالاته السافلة؟ كيف نحارب العنف وفينا من يتفاخر بالكفريات في وسائل الإعلام وينافح عن كلماته القذرة في الذات الإلهية؟ وكيف نحارب العنف وفي صحافتنا مقالات تسخر بالجهاد والمجاهدين، وتلمز المتدينين، وتهاجم السلف الصالح وتستهزئ بإرثهم؟ كيف نحارب العنف من مجتمعنا وفينا من يزرع بذوره بالأقلام الساقطة، والقنوات الهابطة؟ وكيف وكيف وكيف...؟ إننا يوم أن ندع أهل الفسوق والعصيان يستعلنون بفسقهم ويفتخرون بمكاسبهم فإننا نفتح ثغرات ينفذ أهل العنف من خلالها ليبرروا عنفهم ويؤصلوا أفكارهم.
رابعاً: حاشا أن نكون بذلك مبررين لهذه الأعمال المنكرة أو متعاطفين معها، لكننا ندرك أن العدل في الأحكام، والتوسط في الطرح، والتوازن في النظرة، هو الواجب على المسلم الناصح، والصالحون نَصَحَة، والمنافقون غَشَشَة، وإن الله لا يهدي كيد الخائنين.
التعليقات