عناصر الخطبة
1/الحكمة من خلق الناس 2/معنى الاستخلاف وحقيقته 3/وظيفة المستخلف في الأرض 4/وجوب شكر النعم 5/الحث على التوبةاقتباس
ها أنتم خلفاءُ في الأرض للماضين, ووُرَّاثٌ للسّابقين, وسُكَّان في بلاد الغابرين، وها هي مساكنُهم عيانٌ للنّاظرين؛ (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)[يونس: 14]، كيف تحكمون؟ وأيَّ شيء تصنعون؟ وما تعمُرون؟...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الغني الحميد, يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, مدبر الكون ذو العرش المجيد, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين, الحجة على الخلائق أجمعين, بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في الله حق جهاده, صلى الله عليه وعلى آله وصحابته, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليما كثيرا, أما بعد:
فيا أيّها المسلمون: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[العنكبوت: 36], (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ)[الشعراء: 184]، خلقكم الله بقدرتِه، وجعلكم خلائفَ في الأرض بحكمتِه، وسخَّر لكم زينتَها برحمتِه، وبوَّأكم في الأرض تتَّخذون من سهولِها قصورًا، واستعمَركم فيها دُهورًا، بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا.
بيدِه ملكُ الدّنيا والآخرة وسلطانُهما، نافذٌ أمره وقضاؤه فيهما، لا يمنعه مانِع، ولا يحول بينه وبين ما يريد قاطِع، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران: 26].
استخلفكم في هذه الأرض لإقامة أحكامِه، وتنفيذ أوامرِه، وتحكيم شريعتِه، وتوحيده وطاعتِه، (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ)[الحج: 41], هذا هو العهدُ والميثاق، من وفَّى به حصَّل سعادةَ الدنيا وطيبها، وأمِن شقاءها وخوفَها، ومن نقضَه لقي عاقبةَ غوايته وشقاءَ جهالته.
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الملك: 2], ليبلوكم أيّكم له أطوَع، وإلى مرضاته أسرَع، وعن محارمِه أورع؛ (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[محمد: 38]، (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)[الأنعام: 133], تلك حقيقةٌ يبدئ فيها القرآنُ ويُعيد، ويكرِّرها كثيرًا ويَزيد، فما أغفَلَنا عنها، وما أحوجَنا إليها!.
أيّها المسلمون: إنَّ نعمةَ الاستخلاف في الأرضِ, والعيش في أرجائها, والمشيِ في مناكبها, فتنةٌ وابتلاء، يقول رسول الهدى: "إنّ الدنيا حلوةٌ خضِرة، وإنّ الله مستخلفُكم فيها؛ فينظرَ كيف تعملون؟، فاتّقوا الدنيا، واتّقوا النساء؛ فإنَّ أوَّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"(أخرجه مسلم)، يقول الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: "معنى: "مستخلفكم فيها" أي: جاعلُكم خلفاءَ من القرون الذين من قبلكم؛ فينظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيتِه وشهواتِكم؟".
أيّها المسلمون: ها أنتم خلفاءُ في الأرض للماضين, ووُرَّاثٌ للسّابقين, وسُكَّان في بلاد الغابرين، وها هي مساكنُهم عيانٌ للنّاظرين؛ (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)[يونس: 14]، كيف تحكمون؟ وأيَّ شيء تصنعون؟ وما تعمُرون؟ تطيعون أم تعصون؟ تتّقون وتشكرون أم تجحَدون وتكفُرون؟, قرأ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هذه الآية: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)[يونس: 14]، فقال -رضي الله عنه-: "صدَق ربّنا، ما جعَلَنا خلفاءَ إلا لينظرَ كيف أعمالُنا؟؛ فأَرُوا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار, سرًّا وعلانية", ويقول -جلّ في علاه-: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)[الأعراف: 129]، ينظرُ كيف يعمَل الغني في غناه، وذو الجاه فيما أعطاه، وذو الصّحّة فيما آتاه، أطاعَه أم عصاه؟.
أيّها المسلمون: لقد استخلفَ الله أُممًا في الأرض سنينَ عددًا، ولبِثوا على هذه البسيطة أمَدًا، فلم يراعوا له عهدًا، وقد أراد بهم ربُّهم رشدًا, قال الله عنهم: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)[الأعراف: 102]، لم يكونوا أوفياء، لم يكونوا أُمناءَ؛ بل كانوا مَرَقة فَسَقة، خارجين عن الطّاعة والامتثال إلى المعصيةِ والضّلال، أممٌ سادتْ ثمّ بادت، قادت ثم فادَت؛ (مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)[الشعراء: 207], فحذار حذار أن يكونَ لنا من حالِهم نصيب، حذارِ حذار أن تعصُوا الله في بلادِه أو تضادُّوه في مرادِه؛ فإنَّ الأرضَ لله يورثها من يشاء من عبادِه.
أيّها المسلمون: دارُكم هذه دارُ ممرّ, وليست بدار مقرّ، فما متاعُ الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُؤتَى بأنعَم أهلِ الدّنيا من أهل النّار يوم القيامة، فيصبَغ في النّار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيرًا قطّ؟ هل مرَّ بك نعيم قطّ؟ فيقول: لا والله يا ربّ!, ويؤتَى بأشدِّ النّاس بؤسًا في الدّنيا من أهل الجنّة، فيصبَغ صبغة في الجنّة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤسًا قطّ؟ هل مرِّ بك شدّةٌ قطّ؟ فيقول: لا والله يا ربّ! ما مرَّ بيَ بؤس قطّ، ولا رأيتُ شدّةً قطّ"(أخرجه مسلم).
فخلِّص نفسَك -يا عبد الله-، خلِّص نفسَك من جحيم الذّنوب والأوزار, ودروبِ العَار والشّنار، واستدرِك ما دُمتَ في زمن الإنظار، قبل أن لا تقال العِثار، فما هي إلا جنّة أو نار؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التحريم: 8].
أقول ما تسمعون، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا يحفظ النعمَ من الزوال، ويحرسها من التغيّر والانتقال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صدع بالرسالة، وأوضح في الدلالة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا, أمّا بعد:
فيا أيّها المسلمون: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيّها المسلمون: إنّكم ترفلون في نِعم وافرةٍ, وخيرات زاخِرة, وحياة فاخِرة، مُعجزٌ شكرُها وحصرُها، أرزاقٌ دارّة، ومعايش قارّة؛ تألّقٌ في المطعومات، وتفنُّن في الملبوسات، وتنوّعٌ في الملذّات، فهل قمتُم بشكر من أنعَم بها واستخلفكم فيها؟، أم عصيتموه في أرضه وتحت سمائه؛ وأنتم تنعمون من رزقه وتستمتِعون بنعمه؟!.
غرَّنا بالله الغرور، برجاء رحمتِه عن خوف نقمتِه، وبرجاء عفوه عن رهبةِ سطوته, ها هي البيوتُ قد مُلئت بالمنكرات فما دفعناها!، ها هي المعاصي كثُرت في المجتمعات فما منعناها!، ترخُّصٌ وتساهلٌ واستهتار ومجاهرة بالليل والنهار، فأينَ تعظيمُ شعائر الله يا من تعصون؟! أين الوقوفُ عند حدود الله يا من تعتَدون؟! أين الذين هم لربِّهم يَرهبون؟! أين الذين هم من خشيةِ ربِّهم مشفِقون؟! أين الخوفُ والوجل؟! أين الخشيةُ من سوءِ العمَل؟!.
فيا أيّها المسلمون: هذا بابُ التّوبة مفتوح، وهذا زمنُ التّصحيح ممنوح، ما لم تغرغِر الرّوح, وإنَّ ثمرةَ الاستماع الاتّباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنَه.
وصلّوا وسلِّموا على خير الورى؛ امتثالاً لأمرِ المولى -جلّ وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56], اللهمَّ صلِّ وسلِّم على النبيّ المصطفى المختار، اللهمّ صلِّ عليه وعلى الآل والصّحب الأخيار.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُوْمًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُوْمًا، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْمًا, اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى, اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ المؤمنين, اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا, وَأَعِزَّ ولاتنا وَأَيِّدْهُم بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِم الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ, اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ, رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ, رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ, اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90], فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
التعليقات