عناصر الخطبة
1/ الاختلاف سنة كونية 2/ أمر الإسلام بالوِحدة والاعتصام 3/ التفرق في ثوابت الديانة من صفات المشركين 4/ تعزيز النبي في أصحابه روح التآخي والتآلف والإيثار 5/ مفاسد وقوع الخلاف بين الدعاة 6/ وجوب تعلم أدب الخلاف 7/ متى يكون خلاف الأمة رحمة؟ 8/ آداب الصحبة والتماس الأعذار للمخالفين عند السلف 9/ الآداب المطلوبة عند الخلاف 10/ وجوب إحياء روح التسامح في الأمةاهداف الخطبة
اقتباس
إن الناظر في واقع أمتنا اليوم يرى واقعًا مؤلمًا يندى له الجبين، تفرُّق وتحزُّب، تتبُّع للهفوات والعثرات، اختلاف في الحكام، والعلماء، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)، والاختلاف وإن كان سُنة كونية، إلا أننا مأمورون شرعًا بالوِحدة والاعتصام، ونُهينا عن الاختلاف والتفرق..
الخطبة الأولى:
أما بعد فيا أيها الناس: لقد خلق الله الخلق، وباين بينهم في عقولهم، وتفكيرهم، وميولهم، بل حتى في طبائعهم، ولهذا فالاختلاف سُنة كونية، قال سبحانه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود: 118- 119] .
قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: "يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته، أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق، فيما قاله، والضلال في قول غيره، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي".ا.هـ.
معاشر المؤمنين: إن الناظر في واقع أمتنا اليوم يرى واقعًا مؤلمًا يندى له الجبين، تفرُّق وتحزُّب، تتبُّع للهفوات والعثرات، اختلاف في الحكام، والعلماء، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)، والاختلاف وإن كان سُنة كونية، إلا أننا مأمورون شرعًا بالوِحدة والاعتصام، ونُهينا عن الاختلاف والتفرق، قال جلا علا: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، وقال سبحانه: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 31- 32].
فالتفرق في ثوابت الديانة من صفات المشركين، كما أنه من أقوى عوامل الهزائم والفشل،كما قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
ولهذا ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على مدى ثلاث عشرة سنة على المعتقد السليم وعوامل الصبر، وعندما هاجر إلى المدينة، وأراد بناء الدولة الإسلامية، عزّز في أصحابه روح التآخي والتآلف والإيثار، ونبذ الخلاف، فمكَّن الله لهم في الأرض، وأوفى لهم بوعده، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
إخوة الإيمان: وإن كان الاختلاف على ولاة أمور المسلمين حكامًا وعلماء، شرًّا مستطيرًا، وخللاً في المنهج. والتقاطعُ والتدابر الحاصل بين المسلمين في كل قُطر يجرح القلب, إلا أن مما يزيد القلب جرحًا أن يكون ذلك في صفوف الذين يعدهم الناس دعاة إلى الله ومصلحين!
ولقد بلغ الخلاف ببعض الدعاة أن سُلطوا على بعضهم فانتقد بعضهم بعضًا حتى جرحه في عقيدته، وجرّؤوا السفهاء عليهم، وأغروا بهم أعداء الإسلام.. وفتنوا الناس، فانقسموا إلى مؤيد لهذا ومعارض لذاك، ثم بعد ذلك حدِّث ولا حرج عن التبديع والتفسيق بل والتكفير، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
أيها المسلمون: إذا عرف المسلم أن الاختلاف سُنة كونية، وأنه ينبغي أن يجاهد المرء نفسه في نبذ الخلاف، كان لزامًا على كل من أراد النجاة لنفسه، أن يتعلم أدب الخلاف..
قال يونس الصدفي: "ما رأيت أعقل من الشافعي! ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟!".
هكذا ينبغي أن يكون المسلمون فيما بينهم، وأن لا نتبع القاعدة الشيطانية: إن لم تكن معي فأنت ضدي.
بل لتكن قاعدتنا، رأيي صواب قابل للخطأ، ورأي صاحبي خطأ قابل للصواب. وبالطبع هذا إذا لم يكن الاختلاف في أصول الشريعة التي تقضي بالمفارقة والهجران، ولا يسع الناس العذر فيه، وليس عن هذا حديثنا، وإنما نتحدث عن الاختلاف في المسائل التي يسعنا فيها الخلاف.
أيها المؤمنون: إن من علامات الساعة وقوع الاختلاف بين الناس، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وهذا ما نعيشه الآن، وهو ما يزيد الأمة تمزقًا وفُرقة، لهذا كله وجب على المسلمين جميعا أن يتأدبوا بآداب عامة ينبغي للمختلفين أن يراعوها ليعذر بعضهم بعضاً، فإن الاختلاف إذا وُجد مع آدابه صار رحمة للأمة، كما فُسر الحديث "اختلاف أمتي رحمة"، بأنه رحمة لكون الاختلاف صار سببًا للبحث وفشو العلم، مع أن حديث "اختلاف أمتي رحمة" حديث باطل لا يصح سندًا، لكن هذا معناه إن صح.
فإن كان الخلاف محلاً للشحناء والقطيعة والتحزب صار الخلاف شرًّا محضًا، ولهذا لما أتم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الصلاة في الحج، أنكر ذلك ابن مسعود مبينًا أن السُّنة القصر، ثم لما حضرت الصلاة صلى معه أربعًا، فلما كُلِّم في ذلك، قال: "الخلاف شر".
وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى-: "المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب الزلات".
وأورد أبو عبد الرحمن السلمي -رحمه الله تعالى- في آداب الصحبة عن حمدون القصار يقول: "إذا زل أخ من إخوانكم فاطلبوا له سبعين عذرًا، فإن لم تقبله قلوبكم فاعلموا أن المعيب أنفسكم؛ حيث ظهر لمسلم سبعون عذرًا فلم تقبله".
فبمثل هذه المفاهيم يزول شر الخلاف، وهذا ما نفقده اليوم للأسف. اللهم أرنا الحق حقًّا....
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس: إذا كان الخلاف سنة كونية، فلا بد من التأدب بآداب الخلاف ليذهب شر الخلاف ويبقى خيره، فمن الآداب المطلوبة عند الخلاف:
أولاً: الرجوع إلى الكتاب والسنة، قال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) [الشورى: 10].
الأدب الثاني: العذر بالجهل، فالعذر بالجهل من الشرع المطهر الذي تكاثرت فيه النصوص، بل قامت عليه الشريعة، فمن وقع في الخطأ جهلاً منه عُذر بجهله. يقول ابن تيمية: "وكثير من المؤمنين قد يجهل هذا فلا يكون كافرًا". اهـ.
فإذا كان المسلم يُعذر بالجهل في مسائل الكفر، فما دونها من باب أولى.
الأدب الثالث: العذر بالاجتهاد: يقول ابن تيمية: "فمن أعذار الأئمة: الاجتهاد، فليس أحد منهم يخالف حديثاً صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عمدًا، فلا بد له من عذر في تركه". اهـ.
وعذر المقلد من نوع عذر الجاهل يقول ابن عبد البر: "ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها" (جامع بيان العلم وفضله).
ويقول ابن القيم: "فالعامي لا مذهب له؛ لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال". ومن هذا المنطلق فلا إنكار في مسائل الخلاف التي خلافها له حظ من النظر، يقول ابن القيم: "إذا لم يكن في المسألة سُنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تُنكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلداً". (إعلام الموقعين 3/ 365).
الأدب الرابع: الرفق في التعامل: والرفق أصل من أصول الدعوة، ومبدأ من مبادئ الشريعة، فإذا اعتقدت أن صاحبك مخطئ فلتعامله برفق ليقبل منك الصواب، فقد قال الله لموسى -عليه السلام- لما أمره أن يذهب لدعوة فرعون (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 44]، وفي حديث الرجل الذي بال في المسجد وزجره أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فنهاهم -عليه الصلاة والسلام- قائلاً: "لا تزرموه – أي لا تقطعوا بوله– وأتبعوه ذنوبًا من ماء". وقال للرجل: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذه القاذورات". وهو مخرّج في الصحيحين.
وحديث خوات بن جبير -رضي الله عنه- حين رآه مع نسوة، فقال: ماذا تبغي هاهنا؟ قال: ألتمس بعيراً لي شاردًا. ثم حسن إسلامه وخلصت توبته، فمازحه -عليه الصلاة والسلام- قائلاً: "ماذا فعل بعيرك الشارد"؟! قال: قيَّده الإسلام يا رسول الله.
الأدب الخامس: أن لا يتكلم المرء بغير علم، قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36]، فلا بد من الإحاطة بالمسألة قبل أن تخالف، فمن تكلم في مسألة يجهلها، فالغالب أنه يخالف الصواب، ولو سكت الجاهل لقل الخلاف.
قل للذي يدعي علمًا ومعرفة *** علمت شيئا وغابت عنك أشياء
وقال الآخر:
فالعلم ذو كثرة في الصحف منتشر *** وأنت يا خل لم تستكمل الصحفا
الأدب السادس: التبصر بمكائد أعداء الأمة ومرادهم من نشر الخلاف، وإذكاء نار الفتنة بين الدعاة، والصدور من رأي أهل العلم الراسخين.
الأدب السابع: أن نحسن الظن في المخالف، وأنه ما أراد إلا إصابة الحق، ولكنه أخطأه عن حسن قصد، وأن له أجر الاجتهاد، فلا تحمل عليه في قلبك غلاً ولا ضغينة.
روى أحمد في (فضائل الصحابة 2 / 747 برقم: 1298) قال: حدثنا أبو معاوية حدثنا أبو مالك الأشجعي عن أبي حبيبة مولى طلحة قال: دخل عمران بن طلحة على عليّ بعد ما فرغ من أصحاب الجمل، قال: فرحَّب به، وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله عز وجل (إخوانًا على سُرُر متقابلين) قال: ورجلان جالسان على ناحية البساط، فقالا الله -عز وجل- أعدل من ذلك، تقتلهم بالأمس، وتكونون إخوانًا في الجنة؟ قال علي: قُومَا أبعد أرض وأسحقها، فمن هو إذًا لم أكن أنا وطلحة؟!.
هذه جملة من الآداب التي لو طبقناها، لقل الخلاف بيننا، ولتعايش الناس متحابين ولو لم يتفقوا في كثير من المسائل.. ولو طهرت وتلقت آيات ربها وتوجيهات نبيها بشفافية ونقاء لانتهت عما هي عليه.
وإن الناظر فيمن حوله من الدول، ليجد الاختلاف قد احتدم، وأُبيحت دماء معصومة في مسائل يسعهم فيه الخلاف، والاختلاف ميدان فسيح يصول فيه الشيطان ويجول، فلنكن على حذر .
وفي الختام فإنه لا بد من إحياء روح التسامح في الأمة لتتجنب التباغض وتسود روح الأخوة والمودة بين المسلمين في أنحاء العالم، ولا بد من تأكيد أدب الاختلاف وتجنب سلبيات الخلاف.
ولا بد من التأكيد على أن للاختلاف أسباباً موضوعية مشروعة ووجيهة يجب إبرازها واستثمارها لرأب الصدع وإصلاح ذات البين.
اللهم ألف بين قلوب المسلمين وجنبهم الشقاق والاختلاف، اللهم اجمع كلمتهم على الحق والتوحيد يا رب العالمين.
التعليقات
زائر
07-01-2021جزاكم الله خيرا ❤️