عناصر الخطبة
1/ الإيجابية من مناهج الإسلام 2/ علاقة الفرد بالجماعة 3/ حال المسلم وقت الأزمات 4/ أنواع الإيجابية 5/ أمثلة للإيجابيين 6/ الآثار المترتبة على الإيجابيةاهداف الخطبة
اقتباس
إن تأثير المسلم وتغيره لا بد أن يكون مضبوطًا بضابط التقوى، ولا بد أن يكون مضبوطًا بضابط الإسلام؛ فالمؤمن يعيش للإسلام وبالإسلام، هذه هي منهجية المسلم في حياته أن يكون إيجابيًّا، وأن يكون نافعًا، وأن يكون مغيرًا، وأن يكون عامرًا للحياة، وأن يكون ..
الخطبة الأولى:
أما بعد: فإن المسلم يعيش في هذه الحياة تربطه تقوى الله -سبحانه وتعالى-؛ فهي منهجه وفي حياته، في يقظته وفي منامه، في بيته وفي عمله وفي شارعه وفي كل مكان، وإن الإيجابية في حياة المؤمن سمة وعلامة من علامات حياته؛ فالمسلم دائمًا شخص إيجابيّ، وهذا منهج حياة أمر به الإسلام، فلا مكان للمتثاقل، ولا مكان للخامل الذي لا يغير وينتظر من حياته أن تتغير.
الإيجابي لا يتأثر بالأمور السلبية، فلا يغير إلى ما هو أسوأ، بل إن تأثيره يكون إيجابيًّا، وإن تغير يكون تغيره إيجابيًّا فـ (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد:11].
إن تأثير المسلم وتغيره لا بد أن يكون مضبوطًا بضابط التقوى، ولا بد أن يكون مضبوطًا بضابط الإسلام؛ فالمؤمن يعيش للإسلام وبالإسلام، هذه هي منهجية المسلم في حياته أن يكون إيجابيًّا، وأن يكون نافعًا، وأن يكون مغيرًا، وأن يكون عامرًا للحياة، وأن يكون قادرًا على مواجهة العقبات والصعاب التي تواجهه في حياته.
إن الإسلام لا يجعل مكانًا لأولئك المتثاقلين، ولا لأولئك الخاملين الذين دائمًا ما يواجهون الصعاب والنكبات، ودائمًا ما يواجهون أحوالهم وأحوال أمتهم بأن يلقون باللائمة على غيرهم، فلا مكان لأولئك، إن اللائمة في هذه القضايا تعود على المسلم؛ لأن الله (لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد:11].
إن الله -تعالى- قد يبتلي المؤمنين: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155-157] ولكن للابتلاء حكمة، فإن المؤمن في الحياة قد تعتريه مثل هذه النكبات وهذه الأحوال والضوائق لكن المسلم لا يقف مكتوف الأيدي.
إن المسلمين قد ضربوا أروع الأمثلة في عمارة هذه الحياة، وفي تغيير هذا الكون، وسطر لهم التاريخ تاريخًا مجيدًا، ولأهمية هذا الأمر كان الله تعالى يدعو المؤمنين إلى تغيير الحياة من حولهم، لا يكتفون بتغيير أحوالهم فقط، ولكنهم يغيرون ما حولهم، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) [الأنفال:38].
إن هذا الضرب في الأرض إنما هو من أجل تغيير حياة الناس إلى الأفضل؛ من أجل إدخال الناس في دين الله، من أجل تغيير معتقداتهم، من أجل تغيير سلوكياتهم إلى ما يرضي الله -عز وجل-، من أجل هذه كله وضع الإسلام منهجًا للمسلم في حياته ألا يكون فرديًّا بل ربطه بالجماعة على سبيل الدوام، وأول ذلك أنه كلفه بالعبادات بالطريقة الجماعية، فأمره بالصلوات الخمس في جماعة؛ من أجل أن ينشط للطاعة، من أجل أن ينظر إلى إخوانه؛ فكم من الناس من إذا نظر إلى أخيه وهو يعرف من حياته من الجد والاجتهاد في الطاعة وفي العبادة في صلاته، وفي صومه، وفي ذكره ما يجعله ينشط لطاعة الله -عز وجل-، فابتدأ الله عز وجل ذلك بالصلوات الخمس، ثم ثنى بعد ذلك بصلاة الجمعة؛ فإن الاجتماع فيها أكثر، ثم ثلّث بعد ذلك بصلاة العيدين؛ فإن الجمع فيها أعظم، ثم ختم ذلك بالحج الأكبر، حيث يجتمع في تلك البقعة المباركة من كل حدب وصوب.
أيها الإخوة المؤمنون: إن مواجهة المسلم للخطوب والمتاعب لا بد أن تكون بطريقة إيجابية، لا ينتظر المسلم غيره أن يأتي ليغير من حياته، يل يسعى هو نفسه من أجل التغيير، إن الله تعالى قادر على أن يجعل حياة عباده المؤمنين حياة هادئة هنيئة مستقرة، ولكن الله تعالى جعل لكل شيء سببًا، وربط في الحياة بين كل المخلوقات والكائنات، فالمسلم هو الذي يبني هذه الحياة وهو الذي يعمرها إن شاء جعلها خيامًا وأكواخًا، وإن شاء جعلها ناطحات للسحاب، هو الذي يسخر هذا الكون من أجل أن يشكّل، ومن أجل أن يطوّعه لهذا الحياة.
الإنسان قادر على أن يجعل شارعه مكانًا للأوبئة ومكانًا للقمامة، ومكانًا للأقذار والأوساخ، وإن شاء جعل شارعه كالمرآة يلمع من النظافة، إن شاء شكل مزرعته وشكل حديقته من بيته بالطريقة التي تليق به، وإن شاء جعل حياته وبيئته من حوله قفرًا، إن شاء طوّر الحياة من حوله وإن شاء تركها هكذا.
المسلم -وإن نابته الخطوب- لا بد أن يكون إيجابيًّا في حياته.
وانظروا -أيها الإخوة- إلى أن الله -عز وجل- كيف خاطب مريم في موضعين: في موضع كانت فيه متخلية للعبادة، أنزل الله -تعالى- الطعام (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران: 37].
وفي حال آخر بعد وضعها لولدها عيسى -عليه السلام- من هذا الحال وهي مجهدة، وهي متعبة، وهي جائعة تحتاج إلى من يطعمها.. ربنا -تعالى- قادر على أن ينزل عليها الرزق، كما نزل عليها الرزق هو في حال العبادة، ولكنه منهج للحياة لمواجهة الصعاب، في هذا الحال بعد وضعها لولدها، أمرها بالحركة لتكون إيجابية، وليكون هذا منهجًا للإيجابية في حياة المؤمنين، قال لها: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً) [مريم:25-26] ما عسى قوة مريم الخائرة بعد الوضع أن تهز من هذه الشجرة العاتية، هل يستطيع رجل بكامل قوته أن يهز شجرة النخل لتساقط عليه ثمارها بذلك الجذع القوي الراسخ في الأرض، لا يستطيع الرجل القوي فضلاً عن هذه المرأة الخائرة القوى بعد الوضع، لكن هذا هو منهج الله أن نعمل بالأسباب ونأخذ بها، فهذا هو الذي يغيّر من حياة المسلمين.
وليس بعيدًا عنا -أيضًا- حال أم موسى -عليه السلام- حينما بلغها خير فرعون الطاغية العاتي الجبار الذي يريد أن يقتل موسى -عليه السلام-، هذا الجبار المتكبر العاتي لم يؤثر على أم موسى ولم تقف أمامه خائرة ولم تقف مكتوفة الأيدي، تنظر متى يأتي ليأخذوا ولدها وليذبحه، ولكن الله -تعالى- أوحى لها أن تعمل بالأسباب من أجل إنقاذ ولدها، وربك -سبحانه- قادر على أن يقذف في قلب فرعون الطاغية العاتي محبة موسى -عليه السلام- من أول وهلة فاتخذه ولدًا، عندما قالت امرأته له: (وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [القصص :9]، فالله تعالى كان قادرًا على أن يقذف محبة موسى في قلب فرعون دون أبناء بني إسرائيل، لكنه -سبحانه- أراد أن يعلمنا أن المؤمن لكي يحيا بعزة وكرامة عليه أن يكون إيجابيًّا، أن يكون قادرًا على عمل الأسباب التي تخرجه من المواقف المحرجة، (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:7]، فانظر ماذا صنعت أم موسى، إنها ذهبت لتشتري صندوقًا تضع فيه فلذة كبدها، ثم ترميه في اليم مرة ثانية، ترسله بأمر الله -عز وجل- لا تدري إلى أين يذهب ولدها. وفعلاً رده الله -تعالى- إليها سالمًا وجعله يعيش في قصر فرعون معززًا مكرمًا.
إنها -أيها الإخوة- الإيجابية في حياة المؤمنين، لا مكان في حياة المؤمن للتثاقل، ولا للتخاذل، ولا برميه التبعات على الغير، ولا أن ينتظر غيره من أجل أن يغيّر من حياته.
انظر كيف ذكر الله -تعالى- أولئك الذين لا يستطيعون ضربًا في الأرض من فقراء المسلمين فقال: (لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة :273] مع فقره وحاجته يحسبه الجاهل غنيًّا لِمَ؟ من التعفف لا يسألون الناس إلحافًا، لا يمد يده لا إلى قريب ولا إلى بعيد، ولا إلى صديق ولا إلى عدو، بل أن يعمل ما بوسعه ليغيّر حياته؛ فالجاهل يحسبه غنيًّا؛ لأنه متعفف مع هذا قال: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ) يظهر عليهم الفقر والفاقة والحاجة، لكنهم يسعون مع فقرهم ومع ضعفهم للضرب في الأرض يسعون من أجل أن يغيروا حياتهم.
فإذا كان هذا في حال الفقير المستضعف؛ فكيف بحال القوي، إنه عيب على المؤمن أن يبقى متثاقلاً، لا يغيّر حياته أن يبقى يتكلم، ويلقي بالتبعات على غيره، لا، إن حياة المؤمن يجب أن تكون مليئة بالجد والاجتهاد من أجل تغيير حاله وتغيير أسرته، وتغيير بلده وتغيير مجتمعه لا أن ننتظر إلى أولئك الجبناء الخانعين الذين قد رضوا بالذل والمهانة.
وإن الإيجابية لا تكمن بالعمل فحسب، بل حتى في القول، فلقد جعل الإسلام للكلمة الطيبة مكانة قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) [إبراهيم:24]، ضرب الله تعالى هذا المثل بالكلمة الطيبة التي تؤتي أُكلها وثمارها في كل حين، فالكلمة الطيبة من الإيجابية، لكنها الكلمة التي تتبع بالعمل، كذلك الرأي والمشورة لم يحرم الله -عز وجل- صاحب الرأي من الأجر؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا".
إن الله -تعالى- على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- حذّر من التثاقل وحذر من التخاذل، وحذر من الفردية والانعزالية عن المجتمع، يقول -صلى الله عليه وسلم- : "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".
ويقول أيضًا: "من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتُتن، وما ازداد عبد من السلطان قربًا إلا ازداد من الله بعدًا"؛ لأن حياة العايش في البادية بعيدًا منعزلاً ليس فيها إيجابية، ليس فيها حركة، ليس فيها نظر للآخرين، ليس فيها نظر إلى حياة أولئك الذين يعرفون في حياتهم يومًا يعد يوم، فإن الإنسان يجب أن يكون مثل غيره لكنه بالعمل لا بالتمني، فحياة الاجتماع يرى فيها الإنسان المتقدمين في حياتهم المغيرين الذين لهم لمسات في هذه الحياة، فيتمنى أن يكون مثلهم، فيسلك طريقهم ودربهم؛ ليصل إلى ما وصلوا إليه. بخلاف ذلك المنعزل فإنه يعيش لذاته، ويعيش لنفسه، ويوشك أن تصيبه الغفلة، ولذلك قال -صلى عليه وسلم-: "من ترك ثلاث جمعات من غير عذر كتب من المنافقين" لماذا؟ لأنه ابتعد عن مجالس الناس، ابتعد عن محيط التأثير، والإيجابية في حياة المسلمين.
إن لنا في القرآن عبرة في مواجهة المحن، وفي مواجهة الخطوب؛ فهذا يعقوب -عليه السلام- يأتيه نبأ فقدان ابنيه؛ فكيف واجه هذه القضية؟ هل واجهها بضعف وذل وخور لم يسعَ ولم يكن إيجابيًّا في التعامل مع هذه القضية؟ أبدًا بل إنه قال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف:18]، واجهها بالصبر؛ بل إنه واجهها بعمل إيجابي بتوصية أبنائه بالعمل الجاد للبحث عن إخوانهم: (يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) [يوسف:87].
نحن الآباء تصيبنا النوائب وتنزل بنا الأضرار، فننتظر من يأتي ليخلصنا، من يأتي لحل مشاكلنا، إن مشاكل الأفراد والأسر والشعوب والبلدان لا تحل بعصا سحرية، بل هذه المشاكل تحل بالأعمال، تحل بأن يكون المسلم إيجابيًّا في حياته يسعى للتغيير ويسعى للحد من هذه المشاكل وهذه المعاناة التي يعانيها الإنسان.
وانظروا إلى يوسف -عليه السلام- حينما رأى وتوقع من رؤيا الملك حينما رأى تلك الرؤيا أن مصر قادمة على سنين جدب وقحط ومجاعة لم يواجه ذلك بالكلام الذي يباع بأبخس الأثمان، ولا يثمر، ولكنه واجه ذلك بالعمل، وليس كما نحن اليوم نرمي بالتبعات على أعدائنا على الغرب على الغلاء العالمي على، على، على ….كل هذا لا يثمر.
وسيبقى الأمر يتصاعد في حياة المسلمين، إن هؤلاء لا يريدون لنا عزة ولا مكانة إن لم نسعَ بأنفسنا لإيجاد الحلول، وبإمكاننا أن نوجد حلولاً وهي موجودة في بلاد المسلمين، لكن ارتضينا بالدون وارتضينا بالكلام وارتضينا برمي التبعات على غيرنا، يقول يوسف -عليه السلام-: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) [يوسف:47-49].
واجه هذه المشكلة بعمل وبإيجابية، فأمرهم بالزراعة، وأمرهم أن يبقوا الثمر في سنبله، وفي هذا آية من آيات الله، اكتشف العلماء أن بقاء الحب في سنبله دون أن يخرج منه من أجل أن يخزن كما هو الحال اليوم أن يطيل في حياة الحبوب، فالحب الذي يأتي من الخارج خارجًا عن سنبله يفقد فوائده بعد أول ستة أشهر تقريبًا ثم تتناقص الفائدة، وتتناقص حتى يصير هذا الحب إذا مضى عليه ثلاث سنوات فأكثر يبقى هذا لا ينفع أكرمكم الله حتى للحيوان، ونحن اليوم نطعم طعامًا حتى لا يصلح للحيوان.
أما يوسف فقال: ذروه في سنبله، واحفظوه، ولا تخرجوه من سنبله إلا بقدر الحاجة، ومن هذا إعجاز قرآني يسبق فيه العلم فيوسف -عليه السلام- واجه هذه المحنة بالعمل كان إيجابيًّا وأمر قومه وشعبه بأن يكونوا إيجابيين يعالجون هذه القضايا بحلول عملية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن الإيجابية في حياة المؤمنين سمة وعلامة بارزة وواضحة، ولقد استطاع نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يغيّر من وجه الأرض خلال ثلاثة وعشرين عامًا، وتمكن -صلى الله عليه وسلم- من إقامة دولة الإسلام بهذه المدة الوجيزة، هذه الغاية التي حقّقها -صلى الله عليه وسلم- ولم تحقق لأحد من إخوانه الأنبياء من قبله.
إن القرآن يأمرنا ويوجهنا إلى هذه الإيجابية في الحياة، وأن المسلم مسئول عن تغيير حياته على مستوى الفرد، قال -تعالى-: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى) [النجم:39-41]، ليس للإنسان إلا ما سعى إذا أراد حياة سعيدة. ما سعى وأما إذا أردت أن تعيش الذل والهوان فابق على ما أنت عليه تتمنى!.
يا أيها المسلمون: دائمًا في بقاع الدنيا كلها يعيشون في ذل وهوان وفقر؟ لأنهم ليسوا بإيجابيين إلا من رحم الله تعالى، الإيجابية مطلوبة في حياة المؤمنين. إذا أرادوا عزة وإذا أرادوا أن يسودوا عليهم بالعزة عليهم بالإيجابية في الحياة، لنا أسوة في أوضاعنا الراهنة التي يعيشها المسلمون من ذل وهوان، واحتلال للأرض، وتهديد للأمن، وتهديد للانقسامات وزرع للقلاقل الداخلية في البلاد، لنا أسوة بما صنعه ذو القرنين تعرفون قصة ذي القرنين حينما ساح في الأرض وصل إلى بين السدين ووجد من دونهما قومًا لا يكادون يفقهون قولاً، ارتضوا بالذل والهوان ثم بالشكاية: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) [الكهف: 94]، ما رأيك نجعل لك خرجًا نجعل لك مالاً خراجًا، هذه الأموال نستعين بها وهي لك لكن اجعل بيننا وبينهم حدًّا وسدًّا، ما كانوا يعلمون من هو ذو القرنين، وأنه لا يبتغي مالاً، إنما يريد أن يغيّر من حياة الناس إلى الأفضل.
حياة الناس اليوم -أيها المسلمون- تشبه حياة هؤلاء الناس في ذل في مهانة، وإذا جاءتنا مشكلة نستنجد بالآخرين الذين لا يريدون لنا حياة طيبة إطلاقًا، بل كما قال الله تعالى: (قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران: 118]، فنحن نستنجد بهم. لا نعمل ولا نتحرك مع أن مفاتيح الأمور بأيدينا لو أردنا خيرًا، ولو أردنا عزًّا، ولو أردنا تمكينًا فالمفاتيح بأيدينا والمبادرة بأيدينا، لكننا ليس بأيدينا حيلة ولا حول ولا قوة بالله العلي العظيم، ارتضينا بهذا الذل وبهذا الهوان! بلادنا تُحتل وأمننا يزعزع، والأحزاب في داخل كل بلد مسلم تريد الانقسام وتريد التشطير، وتريد التجزئة، ليس لها همّ إلا المصالح لنفسها.
فماذا صنع ذو القرنين؟ قال: (قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف:95-96]، فأمرهم بأن يكونوا إيجابيين (مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)، فالمسلم يجب أن يقول كذا ما أعطاني الله خير، عندنا من الخير وعندنا من مكامن ومجامع القوة الشيء الكثير من أساس ذلك، وفي رأسه وقمته الإيمان بالله -عز وجل-، ولكننا ارتضينا الدون وارتضينا بالذل وارتضينا بالهوان.
فإذا أراد المسلم عز الله فعليه أن يتحرك وعليه أن يكون عزيزًا، حتى يكون مؤثرًا لا متأثرًا، وليكون له -أيضًا- لمسات في سبيل حياته، مواقفه على مستوى الرجل، وعلى مستوى المرأة.. أن يحسن التدبير؛ فِإن الحياة في حال الشدة ليس كالحياة في حال الرخاء، وإن الإنفاق في حال الشدة ليس كالإنفاق في الرخاء، وإن الله -تعالى- جعل للتدبير والمدبرين أجورًا عظيمة، فذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- المرأة التي تنفق من مال زوجها من غير إسراف ولا تبذير أن لها أجرًا فيما أنفقت، وأن للزوج أجرًا فيما كسب، وأن للخازن أجرًا فيما ادخر لا ينقص من أجور أولئك شيء، لكن هذا كله لا يأتي إلا بالتدبير، وإن التدبير كان موجودًا في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان موجودًا في حياة الصحابة -رضي الله عنهم-.
التعليقات