عناصر الخطبة
1/ سيرة عطرة ومسيرة طيبة 2/ ابتلاء الإمام أحمد بالسراء والضراء 3/ فضائل الإمام أحمد وتواضعه 4/ فتنة القول بخلق القرآن والثبات العجيب 5/ أهم الدروس المستفادة من محنة الإمام أحمداهداف الخطبة
اقتباس
في زمن مُلِئَ بالفتن, ووقت يعجّ بالتقلبات والتغيرات, مُهم أن يُذَكّر بفتنة الإمام أحمد ومحنته, تلك التي دخل فيها فنجح بامتحان, نُذكِّر بها في وقتٍ قد تُعرض الفتنُ على العالم أو الداعية أو المؤمن أيًّا كان, تُعرض ليُفتن عن دينه, أو ليُزحزح عن تمسكه, أو لتُشترى ذمتُه, وهنا فربما تساقط أقوامٌ, وتغيرت ذمم, وقليل من يوفق للثبات أمام الشدائد.. لقد ابتُلي الإمام بالشدة والرخاء, بالسراء والضراء, بالدين والدنيا ..
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليُظهرَه على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فهدى به من الضلالة، وبصرَّ به من العمى، وأرشد به من الغيّ، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، فبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعَبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه. صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
ما يزال حديثنا -أيها الكرام- عن الإمام أحمدَ بنِ حنبلٍ ومواقفه, وليس بكثير على إمام أهل السنة أن يتحدث عنه في خطبتين وأكثر.
معاشر المسلمين: في زمن مُلِئَ بالفتن, ووقت يعجّ بالتقلبات والتغيرات, مُهم أن يذكّر بفتنة الإمام أحمد ومحنته, تلك التي دخل فيها فنجح بامتحان, نُذكِّر بها في وقتٍ قد تُعرض الفتنُ على العالم أو الداعية أو المؤمن أيًّا كان, تُعرض ليُفتن عن دينه, أو ليُزحزح عن تمسكه, أو لتُشترى ذمتُه, وهنا فربما تساقط أقوامٌ, وتغيرت ذمم, وقليل من يوفق للثبات أمام الشدائد.
لقد ابتلي الإمام بالشدة والرخاء, بالسراء والضراء, بالدين والدنيا.
فأما فتنة الدين فمحنة القول بخلق القرآن, تلك المحنة التي امتُحن على القول بها العلماء, وأُوذي لأجلها الفضلاء, ذلك أن الناس كانوا على منهج السلف من القول بأن القرآن كلام الله, مُنزَّلٌ غير مخلوق, وأن الله يتكلم متى شاء بما شاء, حتى ظهرت المعتزلة القائلين بتأويل الصفات, وترتب على ذلك تأويلهم لصفة الكلام لله, وقولهم أن القرآن لم يتكلم به الله بل خلقه, وكان هذا الاعتقاد مؤداه تعطيل الله عن صفاته.
ولم يكن لهؤلاء المعتزلة كلمة بل كانوا يستترون ببدعتهم زمن هارون الرشيد, الذي أقسم ليقتلن من قال بذلك, حتى جاء الخليفة المأمون فأثّر عليه هؤلاء وخالطوه, وحسنوا له القول بالبدعة وعاضدوه, وحينها تكلموا عن قوة؛ إذ الخليفة بأيديهم, فصار الخليفة يمتحن الناس بهذه المقولة, ويستجوبُ العلماء في الأمصار, فمن أبى جُلد وسُجن, فإن أبي قُتل, فتساقط العلماء متأولين, ولكن بقي من العلماء اثنان الإمام أحمد, ومحمد بن نوح, فقيدا وارتحل بهما إلى الخليفة, فدعا الأمام أحمدُ أن لا يريه الله المأمون فمات المأمون وهم في الطريق.
وحينها أُرجع الإمام لبغداد, وتولى الخلافةَ المعتصم, وصار رئيس القضاة عنده رأس المعتزلة ابن أبي دؤاد, فاشتد الأمر بأهل السنة, وسُجن الإمام أحمد وهو مريضٌ, ثم حُمل إلى الخليفة, فجُمع له رؤوس المبتدعة يناظرونه, فيغلبهم, وحين أصر على موقفه أَمرَ الخليفةُ بجلده فضربوه حتى أغميَ عليه.
فقال له المعتصم بعد أن أفاق: يا أحمد، ويلك تقتل نفسك! ويحك! أجبني حتى أُطلق عنك بيدي، والإمام أحمد لا يجيب، والفقهاء المبتدعة يُحرّضون المعتصم على قتل الإمام أحمد ويقولون: هو شيخ ضال مبتدع! اقتله ودمه في رقابنا, والمعتصم يقول: لئن أجبت لأطلقن قيدك بيدي، ولأركبن إليك بجندي ولأكرمنك, وهو ثابت أمام كل تلك الأحوال, عندها أمر المعتصم جنوده بضربه بالسياط، وهو يقول لكل واحد منهم: أوجع قطع الله يدك, حتى أُغمي على الإمام أحمد، ثم رموه على حصيرٍ، وكبُّوه على وجهه وداسوه.
عندها ثار الناس واجتمع الألوف بباب الخليفة, فخشي الخليفة من الفتنة, ومِن أن يموت الإمام من التعذيب فأمر بإخراجه من السجن, وإرجاعه لبلده ففرح الناس بالفرج له.
ثم ندم الخليفة المعتصم بعد ذلك على ما فعله بالإمام أحمد, وفتح المجال لأحمد فأفتى وحدث، حتى مات المعتصم، وتولى ابنه الواثق، وعندها عظُم البلاء والكرب، فقد أظهر الواثق هذه المقالة أيضًا، ومال إلى المبتدعة وكان أطوع لهم من سابقه، وضرب عليها وحَبس، وآذى أهل السنة، واشتد الأمر على أهل بغداد، فجاء نفر إلى الإمام أحمد يسألونه الخروج على الخليفة الواثق، فنهاهم عن ذلك.
وطلبه الواثق فاختفى الإمام أحمد في بيوت أصحابه ثم بيته بقية حياة الواثق وولايته لا يخرج إلى الصلاة ولا غيرها حتى مات الخليفة.
ولشدة اتباع الإمام للسنة أنه حين كان مختبئًا في بيت أحد تلاميذه فبقي في بيته ثلاثة أيام, ثم قال: اطلب لي موضعًا، فقال له: لا آمن عليك، والناس يبحثون عنك, فلما صار على بقائه ثلاثة أيام، قال له أحمد: اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام ثم تحول, وليس ينبغي أن تُتّبع سنة رسول الله في الرخاء، وتُترك في الشدة.
وحين أذن الله للمحنة أن تزول جاء الخليفة المتوكل, وعندها بدأ فتنة الدنيا, فألغى الخليفة الحظر عن الإمام أحمد، وأحسن إليه ورفع شعار السنة، ودحر البدعة, وكان الإمام أحمد عنده مقدَّرًا مكرمًا, فصار يتمكن من الخروج للصلاة والتحديث, وما زال الخليفة يرسل له بالعطايا والأموال وهو يرفضها, وإن أخذ فعلى مضض, ويطلب الخليفة قُربه وهو يتباعد, ووقعت بينه وبين ابنه صالح جفوة حين قبل تلك العطايا.
قال ابنه صالح: وكان رسول المتوكل يأتي أبي يبلغه السلام، ويسأله عن حاله فنسر نحن بذلك, وأما أبي فتأخذه قشعريرة حتى ندثره، ثم يقول: والله لو أن نفسي في يدي، لأرسلتها، ويضم أصابعه ويفتحها.
وكان يقول بعد ذلك: هذه الفتنة بالسراء أشد من فتنة الضراء, والله إني لأتمنى الموت صباحًا ومساء.
وأخيرًا حضرت الإمامَ أحمدَ الوفاةُ فمات في ضحى الجمعة, واجتمع لجنازته جموع لم تشهد بغداد مثلها, وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب، ينادون من أراد الوضوء, وحينها تذكر الناس مقولةً كان الإمام أحمد نفسه يرددها ويقول: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز", نعم فالناس في الجنائز لا يأتون إلا لمن يحبون ويعظّمون, ولذا فجنائز الصالحين مشهودة, وجنائز الظالمين مهجورة, فاللهم اغفر للإمام..
وصل اللهم على محمد.
الخطبة الثانية:
عباد الله: تتجلى في تلكم الأحداث عدة دروس: فمنها: أن المؤمن على يقين أن الابتلاء لا يدوم، وأن الشدائد لا بد أن تزول، وأن الليل البهيم لا بد أن يعقبه الصباح, لقد طالَ الإمامَ من الابتلاء ما استمر سنين, ثم رفع الله الشدة بعد ذلك, فأين هذا ممن يتضايق من الابتلاء أو يتبرم من الامتحان أو يتأفف من الضراء, فالفرج يأتي مع الكرب, والصبح يطلع حين تشتد الظلمة.
ومن دروس المحنة أن الابتلاء هو درب الصالحين, فكم أُوذي العلماء وسجنوا, بل وكم قتل منهم وكم ظُلِم, ولا جرم فالله يريد لهم الأجر والتمكين, ولا يمكن المرء حتى يبتلى, وها قد مضى شانئوهم بلا ذكر حسن, وبقي ذكر الإمام على كل لسان.
ومن هذه الدروس أن الناس في الفتن والشدائد يقتدون بالعلماء, وينتظرون منهم الموقف ليعرفوا الحق من غيره, وحين يغيب العالمُ عن أوقات الفتن تضطرب الأمور, ويتصدى لها النكرات, فيَضِلّون ويُضِلّون, وهذا ما وعاه أحمد.
قال المروذيّ للإمام أحمد وهو يقدم للجلد والعذاب: "يا أبا عبدالله، قال الله جل وعلا: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29]، فقال الإمام أحمد: "يا مروذي! اخرج فانظر أي شيء ترى"؟ قال: فخرجت إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقًا من الناس لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، والصحف في أيديهم، والأقلام والمحابر في أدرعتهم.. فقال لهم المروذي: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أبو عبدالله فنكتبه، فدخل إلى الإمام أحمد فقال: لقد رأيت قومًا بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه، فقال الإمام أحمد: يا مروذي، أُضِلُ هؤلاء كلهم؟ أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء.
وقال إسحاق بن حنبل -عم الإمام أحمد-: "دخلت على أبي عبدالله وهو في السجن، فقلت: يا أبا عبدالله قد أجاب أصحابك، وقد أعذرت فيما بينك وبين الله عز وجل، وقد أجاب القوم، وبقيت أنت في الحبس والضيق"، فقال الإمام أحمد: "يا عم، إذا أجاب العالم تقيّة، والجاهل يجهل، فمتى يتبين الحق"؟!
ولئن كان هذا ثبات الإمام فإن شرارة الفتنة بدأت حين تنازل بعض العلماء واستجابوا للخليفة, وهم محدثو بغداد السبعة حين استجوبوا فأجابوا تقية, فكان الإمام أحمد يقول بعد ذلك: هم أول من ثلموا هذه الثلمة.
فهل يعي طالب العلم هذا الكلام, ويستشعر أن أهل الشر قد يفرحون منه بأدنى تنازل في المواقف, فما أعظم التبعة!!
ومن الدروس أيضًا أيها الكرام: أن العلماء يحتاجون إلى من يشد من عزمهم وقت الفتن, فالعالم بشر, وربما يتأثر بتخاذل الناس, وهنا فالكلمة الصادقة من التثبيت لها شأن في ثبات المؤمن على الحق, قال الإمام أحمد بن حنبل: "ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحَبة قوم"، قال: "يا أحمد، إن يقتلك الحق مت شهيدًا، وإن عشت: عشت حميدًا، فقوَّى قلبي".
ما أحوجنا ونحن في زمن فتن, ووقتٍ قد ترى أهل الشر يوجهون سهامهم لداعية أو لعالمٍ أن نشد من عزم العالم والداعية الذي يقف في وجه المفسدين, ويثبت أمام فتن الدين, ليقوى قلبه, وينشط من العلماء غيرُه.
عباد الله: ومن روائع مواقف الإمام في المحنة العفو عن من آذاه, فلقد تولى كبر أذاه أحمد بن أبي داود, ومرت الأيام وتدور الأمور بالرجلين فيصير أحمد بن حنبل مكرمًا عند الخليفة, وابن أبي دؤاد منبوذًا منه, ويتهيأ لابن حنبل الانتقام من خصومه, فيطلب منه وزير الخليفة أن يطلب من المتوكل ما يريد في شأن ابن أبي دؤاد, وهنا تتبين معادن الأخلاق, فلقد عفا عنه وعن كل من ظلمه, وقال: معاذ الله أن أنتقم منه!!
عباد الله: والحرص على دفع الضرر عن المسلمين، ولو أدّى ذلك إلى الإمساك عن بعض طرق الخير، يقول حنبل: "لما مات المعتصم وولي ابنه الواثق، أكثر الناس من الأخذ عن الإمام أحمد، فشق ذلك على أهل البدع، فكتب قاضي بغداد إلى ابن أبي دؤاد: أن أحمد قد انبسط في الحديث، فلما بلغ أبا عبدالله أمسك عن التحديث من نفسه من غير أن يمنع"، وهذا من فقه وحكمته، خوفًا من حصول فتنة تسلط أهل الأهواء ثانية.
أيها المسلمون: وتحري العالم السنة والحرص على حقن الدماء حتى وهو مظلوم ومؤذى درس من دروس المحنة, لقد جاءت الجموع إلى أحمد يطلبون منه أن ينزع يد الطاعة من الخليفة، وذكروا ظلمه وبدعته، فقال: عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بَرّ أو يُستَراح من فاجر, هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر. [ كتاب السُّنة للخلال].
إنه موقف من عالمٍ يبين قدر العلماء في زمن الفتن, وأنهم بعد توفيق الله صمام الأمان للمجتمع المسلم.
وبعدُ، فتلك إشارات ولمحات, لبعض ما وقع في حياة إمام أهل السنة, والدروس التي ينبغي أن يعيها الناس في وقت الفتنة والمحنة, سيرة حَرِيَّة بالعناية, ومواقف جديرة أن تُذكر, وما تركت أكثر مما ذكرت, فليتنا نعود لسير أولئك الأعلام حقًّا, وليت سير هؤلاء تدرس في مناهجنا, فهؤلاء هم النجوم حقًّا في زمنٍ غارت فيه النجوم.
غفر الله للإمام, وصلى الله وسلم على محمد وصحبه الكرام..
التعليقات