عناصر الخطبة
1/ مولد أبي حنيفة ونشأته 2/ علمه وعقله وتواضعه 3/ أخلاقه وورعه وعبادته 4/ محنته ووفاتهاهداف الخطبة
اقتباس
والحديث عنه إنما هو من باب المحاولة لإبراز أهم ما في حياة هذا الإمام من محطات وإنجازات؛ ليستفيد منها أبناء الإسلام، ويعرفوا القدوة الصحيحة في زمان انحرف فيها مفهوم القدوة، فصار بعض شبابنا –نسأل الله السلامة والعافية- يقتدون بالغرب وبما عنده من رموز وأسماء وشخصيات -ربما كانت هابطة وفاشلة- من مطربين أو ممثلين أو لاعبي كرة وغيرهم.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [سورة آلعمران:102]
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [سورة النساء:1]
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [سورة الأحزاب:70، 71].
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فمن لا يتقي الله تشابهت عليه السبل، قال تعالى (إن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا) [الأنفال:8-29]، واسألوه العون على الطاعة والاستقامة، والتمسك بالدين؛ فإنه سبحانه هو المعين، من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب.
إخوة الإيمان والإسلام: الحديث عن العظماء من العلماء ليس أمرًا سهلاً، فمهما اجتهدت لتستوعب حياة أحدهم فسيعجز قلمك، ويقصر علمك، ويضيق المقام بذكر مآثره وأفضاله.
لذا حديثنا اليوم -بمشيئة الله تعالى- عن أحد ورثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأحد مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، عن جبل من جبال العلم، وقمة من قمم الإسلام السامقة، وعن إمام ملئ الدنيا علما وفقها وورعا، فأعلى الله ذكره، ونشر علمه بين الناس، فصار علمه وذكره يتناقل عبر الأجيال حتى يومنا الحالي إلى ما شاء الله -عز وجل-، حديثنا عن الإمام المقدم، والعَلَم البارز، والمصباح المنير؛ الإمام أبي حنيفة النعمان.
والحديث عنه إنما هو من باب المحاولة لإبراز أهم ما في حياة هذا الإمام من محطات وإنجازات؛ ليستفيد منها أبناء الإسلام، ويعرفوا القدوة الصحيحة في زمان انحرف فيها مفهوم القدوة، فصار بعض شبابنا –نسأل الله السلامة والعافية- يقتدون بالغرب وبما عنده من رموز وأسماء وشخصيات -ربما كانت هابطة وفاشلة- من مطربين أو ممثلين أو لاعبي كرة وغيرهم.
ونريد من خلال سير هؤلاء العظماء من العلماء والفقهاء الأوائل إبراز القدوة المثلى؛ تحفيزا لأبنائنا للاستفادة منها، وحتى ينأوا بأنفسهم عن الأمور الهزيلة الهابطة التي لا وزن لها في الحياة ولا قيمة لها في التاريخ.
عباد الله: الإمام أبو حنيفة النُّعمان بن ثابت بن الكوفي، لم يكن أصلاً من العرب، بل هو من أبناء الفرس، ولد سنه 80هـ في خلافة عبد الملك بن مروان الأمويّ بالكوفة، في حياة صغار الصحابة، فهو من جملة صغار التابعين، وكونه من أئمة الدين على الرغم من كونه فارسيا ولم يكن عربيا يعتبر دليلا من دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الحديث: "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء" وأشار إلى سلمان الفارسي فأبي حنيفة داخل في هذا الحديث الذي يؤكد على عظمة الإسلام واتساعه لكل القوميات والعرقيات والألسن والألوان.
أما عن علمه وعقله، فقد طلب أبو حنيفة العلم صغيراً، ولازم دروس العلم منذ نعومة أظافره، حتى لقَّبوه بأبي حنيفة؛ لملازمته للمحبرة المسماة: حنيفة بلغة العراق، وجلس لعلماء الزمان وأعلامهم وسمع من كبار التابعين وأئمتهم، ولم يكن يأنف أن يروي أو يطلب العلم من أحد حتى ولو كان أصغر منه، فلقد روى عن شيبان النحوي وهو أصغر منه، وعن مالك بن أنس وهو كذلك أصغر منه، وهكذا شأن كل من طلب المعالي وسلك سبيل الربانيين.
ومن ورعه لم يجلس للدرس والإفتاء إلا وهو في الأربعين من عمره. ففاق أهل زمانه جميعاً، وصار علماً مقدماً في الفقه، وقد أرسى دعائم مدرسة الرأي في الفقه، وصار أستاذ القياس الأول بلا منازع، بلغ القمة السامقة في الفقه، وصار فقهه مضربا للأمثال، وأثنى عليه علماء الإسلام، فقال عنه الشافعي -رحمه الله-: "الناس عيال على فقه أبي حنيفة ". وقال ابن المبارك: "أبو حنيفة أفقه الناس". وقال مالك للشافعي: "رأيت رجلاً -يعني أبا حنيفة- لو كلَّمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته". سئل يزيد بن هارون: "أيُّهما أفقه، الثوريّ أو أبو حنيفة؟ فقال: أبو حنيفة أفقه، وسفيان أحفظ للحديث، وما رأيت أحداً أعلم من أبي حنيفة".
أما عن أخلاقه وورعه وعبادته، كان الإمام أبو حنيفة النعمان من رجالات الكمال في العلم والعمل، موصوفاً بالفضائل، عالماً عاملاً، جمع بين العلم والعبادة، حليماً وقوراً هيوباً، معرضاً عما لا يعنيه، شديد الورع والتحرز عن مواطن الشبهات، مجافياً لأبواب السلاطين، يفر منهم قدر استطاعته، قال عن ورعه ابن المبارك: "قدمتُ الكوفة فسألت عن أورع أهلها؛ فقالوا: أبو حنيفة"، وقال مكيُّ بن إبراهيم: "جالست الكوفيين، فما رأيت أورع من أبي حنيفة، كان يبيع ثياب الخزِّ، فإذا كان بأحدها عيب بيَّنه للمشتري وأظهره، وكان إذا نسي أن يبين تصدَّق بثمن الثوب كله"، ولعلَّ ورعه هذا الذي أورثه محنته الشديدة مع أبي جعفر المنصور وسيأتي ذكرها آنفا.
أيها المسلمون: وعلى الرَّغم من انشغال أبي حنيفة في العلم ودروسه، إلا أنَّه كان من أعبد النَّاس في زمانه، يُطيل صلاته جداً مع الخشوع والسكينة حتى لُقِّب بالوتد؛ لطول صلاته، وكان مِمَّن قرأ القرآن كله في ركعة واحدة، وكان يُحيى الليل كلَّه تضرُّعاً وصلاة ودعاء، وقد تواتر هذا الأمرُ عند أهل زمانه:
عن بشر بن الوليد، عن القاضي أبي يوسف، قال: "بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة، إذ سمعت رجلاً يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة: والله لا يتحدث عني بما لم أفعل، فكان بعدها يحيى الليل كله صلاة وتضرعاً ودعاء"، ومسألة صلاته الصبح بوضوء العشاء تواترت عنه عند أهل زمانه.
كما كان أبو حنيفة مشهوراً بالعفو عمن ظلمه والصفح عمن أساء إليه، وتعرض لكثير من الانتقادات؛ بسبب توسُّعه في العمل بالقياس والرأي، وافترى عليه الحساد والحاقدون واتهموه بكثير من الاتهامات والافتراءات في دينه وعقيدته وهو منها براء، سعوا فيه عند السلطان وهو صابر محتسب لا يتزحزح عن مبدأه في رفض المناصب، أوذي في الله فصبر، ضُيِّق عليه في رزقه فشكر، ومع ذلك كان كافاً لسانه عن النيل من معارضيه، معرضاً عن زلات الآخرين، لا يجاري أحداً فيما لا ينفع ولا يغني، وقد جعل على نفسه إن حلف بالله صادقاً أن يتصدق بدينار. حتى قال ابن المبارك: "ما رأيت أبا حنيفة ذكر عدوا له بسوء قط".
فما أحوج الأمة في هذه الأيام لمثل هذا الإمام الكبير والعالم الرباني حتى يكون مثل منارة السبيل في وقت كثرت فيه الملمات والخطوب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، وصلاة وسلاما على من لا مبعوث بعده، محمد بن عبد الله، صلاة وسلاما دائمين بدوام الليل والنهار، إلى أن يرث الله الأرض من عليها.
أما بعد: فإن ضياع الدنيا بضياع حكامها، وضياع الحكام بضياع العلماء، فعندما غاب العلماء الربانيون عن ساحة الأحداث، وتصدر طلاب الدنيا والباحثون عن زينتها، عندها ضاعت الدنيا والدين. والرسول -صلى الله عليه وسلم- حذرنا من ذلك فقال: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وقال: "مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ يُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَهُوَ فِي النَّارِ" فهذا تحذير نبوي شديد من الاسترزاق بالعلم وجعله وسيلة للوصول إلى المناصب والدرجات في الدنيا.
العجيب في سيرة هذا الإمام العظيم أن محنته وسبب وفاته هو عزوفه عن المناصب، وهربه من زخارف الدنيا، تأبى عليه نفسه أن يكون مطيَّةً للسلاطين والحكام، عازفاً عن الاشتراك في أمور قد تضعُه في مواطن الفتن والشبهات، وتلك الخصال الرائعة كانت من أهم أسباب محنته التي نزلت به.. فقد طلبه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لمنصب القضاء وألح عليه، فرفض الإمام بشدة، وعندها خيره بين منصة القضاء، أو غياهب السجون، فاختار أبو حنيفة السجن، متمثلا بقول عبد الله ورسوله يوسف -عليه السلام-: (رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه).
وفي السجن المشدَّد عانى أبو حنيفة من التضييق والتهديد بالقتل يوماً بعد يوم، وكان أبو حنيفة وقتها على مشارف السَّبعين، قد وهن جسده وحطمته دروس العلم، وسؤالات الطلبة، ومع ذلك لم يتراجع أبو حنيفة عن قراره، ولم ينلْ من عزيمته شيءٌ، ولكن وإن صمد قلبه وثبتت نفسه وروحه وعزيمته فإنَّ جسده الواهن لم يصمد كثيراً، فتوفِّي الإمام أبو حنيفة في سجنه في رجب سنة 150هـ، وصعدت روحه إلى بارئها وهي في قيود من ظلموه؛ ليختصم كلَّ من اشترك في دمه أمام المحكمة الإلهية.
هذه كانت سيرة الإمام العظيم والعالم الرباني الذي أسس أول مدرسة فقهية وعلمية في الإسلام فبارك الله في علمه، ورفع ذكره، وطيّب خبره.
فواجب على كل مسلم أن يقتدي بهذا الإمام، وأن يستفيد من سيرته العطرة، ويقتبس من علمه وأخلاقه وورعه وعبادته، فهؤلاء هم القدوات الحقيقية، والرموز التي يجب أن نحتفي بها ونقدرها، ونعلم أبناءنا سيرتهم وحياتهم، فهؤلاء هم آباؤنا ومصدر فخرنا.
أسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرد الأمة إلى النبعين الصافيين الكريمين القرآن والسنة الصحيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم رد الأمة رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم جمع شملنا، اللهم وحد صفنا، اللهم ألف بين قلوبنا. وأقم الصلاة.
التعليقات
زائر
01-10-2021احسنتم