عناصر الخطبة
1/ المقصود بالجفاف العاطفي 2/ إصابة بعض القلوب بالقسوة أو الاختلال العاطفي 3/ فائدة التفاعل الإيجابي بإظهار العواطف 4/ نماذج للإظهار العاطفي في الأسرة والمجتمع 5/ أمر الدين بالتحابب وإظهار التعاطف مع الآخرين 6/ مواقف عاطفية للنبي الكريم في أسرته 7/ العاطفة النبوية مع الصغاراهداف الخطبة
اقتباس
حديثي إليكم عن صحراء كبيرة، تتواجدُ في بيوتِ بعضنا، رمالٌ وعواصفُ جافة، وأتربة من ذرات الحياة، صحراء لا لونَ لها، ولكنها تدمرُ كلَ شيء يقتربُ منها برياحها الجافة. إنه التصحرُ العاطفي، إنه الجفاف العاطفي، إنه الفراغُ العاطفي الذي ملأ بعض بيوتنا، وللأسف!.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي يحبُ الرحمةَ والإحسان، وجعل لأهلها أجملَ ثوابٍ وإحسان، وأصلي وأسلم على من كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً.
اللهم صل وسلم على نبيك محمد الذي كان نهراً من العواطف يتدفق على كلِ من اقترب منه.
أما بعد: فيا أحبتي، حديثي إليكم عن صحراء كبيرة، تتواجدُ في بيوتِ بعضنا، رمالٌ وعواصفُ جافة، وأتربة من ذرات الحياة، صحراء لا لونَ لها، ولكنها تدمرُ كلَ شيء يقتربُ منها برياحها الجافة. إنه التصحرُ العاطفي، إنه الجفاف العاطفي، إنه الفراغُ العاطفي الذي ملأ بعض بيوتنا، وللأسف!.
أحبتي: مقصودي بالجفافِ العاطفي هو البخل بإظهار التعاطف والرحمة والحب للآخرين.
بدايةً، يجب أن تعلم أخي أن الله قد وضع في كلِ واحدٍ منا عاطفةً تجري في روحه ليمكنه أن يتعايش بالمحيطِ من حولِه، فلديك رحمة ومحبة؛ ولكنّ بعضنا قد غلبت قسوتُه رحمتَه، وبعضُنا لا يعرفُ كيف يظهرُ تلك العاطفةَ لمن حوله، وبعضنا يعرف ولكنه يبخل بها.
إن إظهارَ العاطفةَ لمن حولَك والتفاعل الإيجابي يضيفُ لحياتِك وحياةِ من حولك طعماً آخر من الجمال، ويساهمُ في إسعادِ الآخرين.
سأكونُ صريحاً معكم هذا اليوم في تناولِ أطراف هذا الموضوع، سأحدثكم عن قصصٍ رائعة في الإظهار العاطفي، سنتجول في بعضِ القصصِ والنماذج التي تدل على أنك ممن وقع في خلل الجفاف العاطفي. إليكم هذه النماذج الواقعية من حياتنا:
بعض الأزواج يبخل بإظهار الحبِ لزوجته فلا تسمعُ منه زوجتُه عبارات المدح والحب إلا في بدايةِ الزواج، وأما بعد مضي سنوات من الزواج، إذ بالزوج يتوقف عن إظهار عاطفته لزوجته وكأن العلاقة أصبحت جفافا ومللا.
وهناك حرمان عاطفي من ذلك الابن لأبيه، فتجده عاقاً بخيلاً بمشاعره لوالده، ولربما سمعتَ ذلك الأب يشتكي أن ولده لا يكلمه أو لا يمنحه مشاعر الحب، بينما تجد أن القرآن أشار إلى أهمية العاطفة مع الوالدين: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء:24].
قابلتُ أحد الأبناء وقلت له: إن والدك يشتكي منك أنك لا تتواصل معه ولا تكلمه. فكان جواب الابن: ليس عندي رصيد في جوالي. فابتسمتُ وقلتُ له: والله لو كان عندك رصيدٌ عاطفي لأوجدتَ رصيداً لمكالمة والدك.
نموذج ثالث: تلك الزوجة تتعامل مع زوجها بكل قسوة وإهمال لحقوقه، فلا يكادُ الرجل يسمع منها كلمة طيبة، ولا ثناء على ما يبذله لأجل بيته. يقول صاحبي: مشكلةُ زوجتي أنها باردة المشاعر، ولا أذكر أنها قالت لي يوماً من الأيام: شكراً، أو نحو هذه الكلمة من العبارات العاطفية. عجيبة تلك المرأة!.
نموذج رابع: هناك في مجتمعنا جنسياتٌ أخرى من بلاد شتى، ربما كان لدى بعضهم تلك الظروف الصعبة مالياً ونفسياً وغير ذلك، وتجدُ بعضنا يتعاملُ معهم بالقسوة والجفاف.
مهلاً يا هذا! لماذا لا تبتسم لذلك العامل؟ لماذا تتحدث معه بلسانِ الكبرِ والخيلاء؟ لماذا لا تبادره بالاحترام وكأنه أخوك؟ بل هو أخوك! (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10].
نموذج خامس: في علاقتك بإخوتك وأخواتك، يا ترى، لماذا هذا الجفاء؟ لماذا لا تتواصل معهم إلا في المناسبات؟ يا ترى؛ هل فكرت بأن تسافر لأجل زيارتهم فقط لا لغرض آخر؟ يا ترى؛ هل تفقدتَ شيئا من أحوالهم المالية أو الأسرية؟.
إننا نعيش في جفافٍ عاطفي في مجتمع الأسرة الواحدة -وللأسف!-، اقتصرنا على مراسلات بالواتس، أو مكالمة في كل شهر.
أيها الكرام، في ديننا عشرات الأحاديث التي تدل بمجموعها على أهمية التعاطف مع الآخرين وإظهارِ الحبِ لهم والتودد، ولكم أن تتأملوا معي هذه الأحاديث:
أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بيد معاذ وقال: "والله إني لأحبك!". فانظر هنا كيف كانت عاطفة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ أولاً: أخذ بيده، وهذا اللمس له إشاراتٌ عاطفية. ثانياً: أنه حلف وأقسم، مع أنه ليس هناك ضرورةٌ للقسم. ثالثاً: أنه صرح بالحب لمعاذ، "إني لأحبك"، وقد تجد من الصعوبة عليك أن تقول لابنك "أحبك"، أو لأخيك، أو لصديقك!.
خذ هذا الحديث الثاني: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".
فانظر هنا كيف جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- من أدلة الإيمان وجود الحب، وهذا شيءٌ غريب نوعاً ما. إذ كيف يربط الإيمان بالحب؟.
عباد الله: لننتقل الآن للعاطفة في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، لنقف على جملةٍ من الأحاديث والمواقف العاطفية الرائعة من نبينا -صلى الله عليه وسلم- مع زوجته عائشة.
وقبل أن أذكرها لكم، لا بد أن تعلموا أن هذه العاطفة خرجت من نبينا -صلى الله عليه وسلم- وعمرهُ فوق ثلاث وخمسين سنة.
من الأحاديث الجميلة في بيت النبوة ما رواه البخاري عن عائشة قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتكئ في حجري وأنا حائض، ويقرأ القرآن".
أيها الإخوة، في الحقيقة إنني توقفتُ متأملاً هذا الحديث طويلاً، فهنا تجد القرب الجسدي العاطفي بين النبي وبين زوجته، وهذا القرب يضعُ رسالةً عاطفيةً كبيرة لي ولك بأن نقترب من زوجاتنا ونحذر من البعد الذي تعودنا عليه برهةً من الزمن.
فهذا الزوج يدخل البيت ثم يتجه لزوايةٍ في تلك الغرفة ليبدأ في المراسلات بينه وبين أصدقائه، أو ليتابع تلك القنوات.
يا ترى؛ لماذا لا يقترب هذا من زوجته كما سمعنا من فعله -صلى الله عليه وسلم- في قربه الشديد من زوجته؟ وهنا موقف نبوي آخر يحملُ دلالةَ عاطفةٍ عجيبة وحبٍ كبير يبعثه لزوجته عائشة -رضي الله تعالى عنها-، تقول، فيما رواه البخاري: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأرجله وأنا حائض"، أيُّ جلالٍ وجمال يخرج لنا هنا!.
إن الاعتكاف خلوة بالله واعتزالٌ للخلق، لتحقيقِ الأنسِ مع الله والتلذذ بمناجاته، ولكنّ رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وهو في خلوته بربه لم ينس أن يمنح زوجته بعضَ العاطفة، وإذ به يخرج رأسه لزوجته لكي تمشطه.
إنها لحظاتٌ عاطفية رائعة أن تجد امرأةً تمشط شعر زوجها المعتكف، واسبح بخيالك في تلك الدقائق وكيف كانت بين رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وبين زوجته وحبيبته عائشة.
ومن هنا نخاطبك أيها الزوج، يا ترى؛ متى تستيقظ عاطفتك تجاه زوجتك وتبادلها مثل هاتيك المشاعر؟ متى يا ترى تخرج من صحرائك وجفافك العاطفي لتجعل نهر العواطف يتدفق على أهل بيتك؟.
إننا هنا نتحدث عن سيد المرسلين، الذي امتلأت حياته بالجد والعمل والجهاد والكفاح، ومع ذلك وجد في قلبه مساحة لتبادل الحب والرحمة بينه وبين زوجته.
أيها الزوج القاسي، متى يلين قلبك وترحم زوجتك من كلماتك القاسية وألفاظك الجارحة؟ إنها شريكتك في نجاحك، وصانعة طعامك وشرابك، إنها ظلك الذي تستظل به حينما تصيبكَ حرارة الحياة بهمومها وآلامها.
معاشر الكرام: ألا تتعجبون معي من ذلك الرجل الذي صرفَ عاطفتهُ في معاكسة الفتيات، يخاطبهن، يراسلهن، يخرج معهن، بينما زوجته في البيت تعاني من ذلك الحرمان العاطفي!.
زوج يبادل فتيات المعاكسات الهدايا وزوجته لم تر شيئاً منذ سنوات! اتصلت بي إحدى الأخوات وقالت: يا شيخ، ماذا أفعل بزوجي وقد اكتشفتُ أنه يتحدث مع الفتيات ووجدتُ في جواله عشرات المراسلات العاطفية التي لم يُخرج منها حرفا واحدا معي؟ يا شيخ، وجدتُ في جواله صوراً له مع الفتيات، ثم توقفتْ عن حديثها لتكملَ دموعها ذلك الحديث!.
يا أيها الرجل، اتق الله، واترك تلك المعاكسات، وتب إلى ربك عز وجل، واحذر عقوبة الله أن تنزلَ بك، واحذر من دعوةٍ قد تخرج من زوجتك فيصيبك الله بعذابٍ من عنده.
معاشر المسلمين: ولا زلنا في مدرسة العاطفة النبوية. في تلك الغزوة يخرج الرسول بزوجتهِ عائشةَ معه، ويجدُ فسحة في الوقت فيقول لأصحابه: "تقدموا"، فيتقدمون، فيلتفت بنفسيتهِ المرحة وروحه الطاهرة ويقول لها: "تسابقيني؟"، لاحظ هنا، هو الذي بادر. وإني أتساءل: لماذا قال لزوجته: تسابقيني؟ هل هو قضاءُ للوقت؟ أم رغبة في التسلية؟ أم إرادة لإدخال السرور على زوجته؟ إنها معركة وفي تفاصيلها هموم ومسؤوليات كبيرة، ولكن مع ذلك هناك في قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- مساحة من الحب لزوجته ليمرح معها، مع أنه قد تجاوز الخمسين سنة حينها.
اللهم اشرح صدورنا، وزك نفوسنا لما تحب وترضى.
الخطبة الثانية:
الحمد لله.
معاشر المسلمين: تعالوا معي إلى العاطفة النبوية مع الصغار، لنقف على شيء من الرحمة التي نالت أولئك الصغار.
كان -صلى الله عليه وسلم- يسلم على الصغار، وكان يصلي وهو حاملٌ بنتَ بنتِه في الصلاة ليثبتَ للعالَم الرحمة بالبنات، وكان يريد أن يطيل الصلاة فيسمع بكاء الصبي فيخفف الصلاة شفقة على أمه، وكان يصلي ويسجد ويأتي ذلك الطفل على ظهره وهو ساجد فيطيل في سجوده حتى يسمح له أن يلعب عليه.
فيا كرام، أسمعتم بعاطفةٍ مثل هذه؟ أسمعتم برحمةٍ بالصغار مثل هذه؟ ومع ذلك فإننا نسمع في مجتمعنا من يقسو على الصغار قسوةً لا يصدقها عقل! هناك من يضرب الصغار ضرباً شديداً، هناك من يحرم الصغار الاستمتاع بطفولتهم بحججٍ واهية، هناك من يريد تربية صغاره تربيةً حازمة فيغلو فيها ويخالف التوازن التربوي.
عباد الله: تعالوا إلى قصة ذلك الجذع الذي كان يخطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو متكئ عليه لخطبة الجمعة، فلما صنعوا المنبر له، ترك الجذع، يقول الراوي: "فصاح الجذع كما يصيح الطفل، فترك النبي الخطبة وضم الجذع له حتى هدأ".
يا الله! جذعٌ جماد يحن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبعضنا لم يحركه الشوق يوماً لرسول الله؟.
ختاماً أيها الفضلاء: كل واحدٌ منكم قادرٌ على أن يظهرَ عاطفته ورحمته للآخرين، إياك أن تقول: لم أتعود. ولا تقل: هذا صعب. كل ذلك ممكن.
تأكد -أيها الأخ الكريم- أن الحب حينما نظهره للآخرين فإننا نسعدهم ونكشفُ عنهم هموم الحياة.
العاطفةُ لها إشراقةٌ في نفوس الباذلين والمتلقين لها، ابدأ بوالديك وتحدث معهما بكل حب ورحمة وانظر لهما بكل حنان وإحسان.
ابدأ مع زوجتك من الآن بإضافة الجديد من عالم الحب والمودة والرحمة.
مع أولادك وبناتك، اجعل عواطفك تتدفق عليهم، عانقهم، قبلهم، امدحهم، العب معهم، أشعرهم بأنهم سرُ سعادتك.
مع زملائك، كن صادقاً في مشاعرك، تعاطف مع المحتاج منهم، تغافل عن الخطأ، لا تقابل السيئةَ بالسيئة، أحسِن الظنَ بهم.
مع المجتمع: انشر السلام والابتسامة والرحمة.
إن كلَّ هذا كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله عنه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
وبعد هذه الجولة في نهر العواطف لا يعني هذا أن نهمل العقل والحكمة في التعامل مع مجريات الحياة، لا يعني هذا أن نجعل العاطفة هي التي تتحكم في قراراتنا، وإنما كان القصد من هذه الإشارات هو إيقاظ عاطفتك التي ربما كانت نائمةً منذ زمن طويل.
اللهم وفقنا لهداك والعمل بما يرضيك. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم فرج همومنا، ويسر أمورنا، اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم افتح لهم أبواب التيسير والإعانة من جميع أبوابها.
التعليقات