عناصر الخطبة
1/ النكاح ميثاق غليظ 2/أهمية المعاشرة بالمعروف بين الزوجين 3/ التصدي للنَزْوة العاطفية العابرة 4/الهجر وضوابطه 5/ كيف يؤدب الزوج زوجته؟ 6/ الحل عند فشل محاولات الإصلاح بين الزوجين7/ دور الحكمين في محاولة الإصلاح 8/ أعظم إصلاح ذات البيناهداف الخطبة
اقتباس
قد يجد الزوج من زوجته بوادرَ نشوز وإعراض، أو نفورٍ وإهمالِ لحقوقه، فتأتيه الوصيةُ الشرعية بأن يأخذَ معها بأول خطوةٍ من خُطوات الإصلاح، وهي الوعظُ والنصح والتخويفُ بالله، فإن لم يُجْدِ ذلك أخذ معها بأسلوب آخرَ لطيفٍ لا يكون إلا بين الزوجين، وهو الهجر في المضجع... وهو تدرج في التأديب والاستصلاح، يَصْمُدُ إلى التأديب النفسي قبل الجسدي ..
أما بعد: فقد وصف الله عقد النكاح بالميثاق الغليظ (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) ومقتضى كل ميثاق التزامُ الاستدامةِ والنصحِ والوفاء، وتركُ الكذبِ والظلم والخديعة، ولذا فالأصلُ في النكاح الاستدامةُ والسكن والاستقرار، يقاوم فيه الزوجان كلَّ ما يتهدد ذلك.
ورغّب الشرع في الإبقاء على عُقدة النكاح، وأمر الزوجَ بالمعاشرة بالمعروف ولو مع كراهته لزوجه، (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).
وجاء الترغيب في إمساك الزوجة بالمعروف حتى مع كراهتها في ألطف أسلوب وأحسنِه... فهو يرغِّب في الإبقاء على هذه العقدة ولا يفرضها فرضاً، (فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).
إن الله يقول مذكراً بأمر قد يخفى في نزوة الغضب وجموح العاطفة: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) والآيةُ تأخذ الأبصارَ إلى النظر في المآلات... إلى الخير الكثير الذي ينضوي تحت العيبِ الحاضرِ المشاهَد، وتأخذ بالبصائرِ إلى استذكار الحسناتِ حين تقع العينُ على السيئات والعيوب؛ حتى يكونَ النظرُ بإنصاف واتزان وموازنةٍ بين حسنات الزوجة وسيئاتها.
إن النَزْوة العاطفيةَ العابرة تجمح أحياناً فتملي على صاحبها قرارَ الطلاق؛ فتأتي هذه الآية لتذكِّرَ الزوجَ بالعشرة السابقة التي بينه وبين زوجه، ولتطالبَه بحق زوجته عليه من العشرة بالمعروف والقيامِ بحقوقها قبل كل شيء، ثم إن رأى منها تقصيراً ووجد في قلبه كرهًا لها بعد المعروف والإحسان، فعليه ألا ييأس من أن يأتيَ الخيرُ من قِبَلِها وهو لها كاره مبغض، فقد تلد له أنجبَ ولدٍ وأبرّه، وقد يرى من حُسن خُلقها وتدبيرِها وتذمُّمِها ما يَرْجَحُ بكفة عيوبها ونقائصها.
إن الآية تدعو الزوج أن يستأنيَ بعقدة النكاح فلا تُفصم لأول خاطر، وأن يستمسك بعقدة النكاح فلا تنفك لأول نزوة؛ كي يحفظَ للأسرة قرارَها، فلا يجعلها عرضةً لنزوة العاطفة المتقلبة والحماقةِ الطائشة.
وما أعظم قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل أراد أن يطلق زوجه "لأنه لا يحبها" .. "ويحك! وهل كل البيوت بُنِيَتْ على الحب؟ فأين الرعايةُ وأين التذمم؟"
أيها الأحبة: قد يجد الزوج من زوجته بوادرَ نشوز وإعراض، أو نفورٍ وإهمالِ لحقوقه، فتأتيه الوصيةُ الشرعية بأن يأخذَ معها بأول خطوةٍ من خُطوات الإصلاح، وهي الوعظُ والنصح والتخويفُ بالله، فإن لم يُجْدِ ذلك أخذ معها بأسلوب آخرَ لطيفٍ لا يكون إلا بين الزوجين، وهو الهجر في المضجع... وهو تدرج في التأديب والاستصلاح، يَصْمُدُ إلى التأديب النفسي قبل الجسدي، ونلحظ فيه مراعاةً لكرامة الإنسان، الذي لا يصلح له ما يصلح للحيوان من التأديب والترويض، فالوعظ يخاطب النفسَ والعقل، والهجرُ في المضجع مقصود فيه الحرمانُ النفسي والعاطفي وكسرُ أنفةِ المرأة وكبريائها، بأن يَبُتَّ بينهما أخصَّ العلاقةِ الزوجية التي لا تكون لغيرهما، فيُوَلِّيها ظهرَه في المضجع ولا يكلمُها.
والهجر في المضجع حركة استعلاء نفسية من الرجل على كل ما تُدِلُّ به المرأة من اجتذاب، فالمضجع هو الموضعُ الذي تبلغ فيه الزوجة قمةَ سلطانها، فإذا رأت من زوجها هجراً لها في المضجع تيقنت أنه قد أُسقطَ من يدها أمضى أسلحتها التي تعتز بها، وحينئذ تبدأ في التراجع والملاينة، أمام هذه الأنفة من زوجها، وأمامَ قوةِ إرادتِه في أحرجِ مواضعِها!
ونلحظ في هذا الهجر تأديباً راقياً يُحَسُّ فيه صدقُ الرغبة في الإصلاح والتجردُ عن روح الانتقام والتشفي؛ فهو هجرٌ خاصٌ مستترٌ بستر الله، لا يعلم به إلا المؤدِّب والمؤدَّب، فليس هجراً أمام الأطفال، فيورثَ نفوسَهم شراً وفساداً . . ولا هجراً أمام الأقارب والغرباء فيذلَ الزوجة أو يستثيرَ كرامتَها ، فتزدادَ نشوزًا.
فإن لم يُجْدِ هذا التأديبُ، أخذ معها بأغلظَ منه وليس بغليظ، وهو أن يضربها ضرباً غيرَ مبرِّح؛ لأنه ضرب تأديب، وليس بضرب تعزير ولا عقوبة حدٍ، روى عطاء قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرّح؟ قال: السواك ونحوُه.
ويجب أن يفقه كل زوج أن المقصودَ في هذا الضرب هو الإيلامُ النفسي وليس البدني، مقصودٌ به التأديبُ وليس التعذيبَ والانتقامَ والتشفي، ولا الإذلالَ والتحقير.
كما يجب أن يفقه كل زوج أن الشرعَ لا يتشوَّف للضرب وإن أمر به، فالأمر في قوله: (واضربهن) ليس أمرَ إيجاب، وإنما هو إذنٌ ورخصةٌ جاء بصيغة الأمر، فهو كقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) ولم يقل أحدٌ إن الاصطياد بعد حَلِّ الإحرام واجب.
وثمةَ ملحظٌ آخرُ مهم، وهو أن الأمرَ بوعظ الناشر أو من يُخشى نشوزُها هو أمرُ استحباب، في حين أن الأمرَ بالهجر والضرب أمرُ ترخيصٍ وإباحة.
إن من الإساءة للشرع القادحةِ في المروءة أن يتذرعَ أزواجٌ بهذه الآية لإطلاق اليد في ضرب نسائهم ضرباً مبرِّحاً شائناً، فليس هذا من المروءة ولا من الشجاعة والقوة في شيء، وقد عاب الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك وذمّه، فقال: "يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ". متفق عليه.
بل بوّب البخاري في صحيحه باباً سماه بابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ: (وَاضْرِبُوهُنَّ) أَيْ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. وكل رخصة في ضرب النساء جاء مقيداً بأن يكون غيرَ مبرح أي غير شائن، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ".
ولما أمر الله بجلد الزاني والزانية قال: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين).
وإنما كان ذلك كذلك لأنه جلدُ عقوبة وحَد، مقصودٌ فيها الإهانةُ والإيلامُ النفسي والجسدي، ولذا أمر أن يشهدَ جلْدَهما طائفةٌ من المؤمنين، بخلاف ضربِ الزوجات الذي لا ينبغي أن يكون بحضور أحد.
فسبحان الحكيم الخبير، الذي أحسن كل شيء خلقه، وأحكم التدبير والتشريع، وهو أحكم الحاكمين....ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين...
أما بعد: فما تقدم كانت خُطواتٍ في التأديب والإصلاح يحاولها الزوجُ وحدَه من غير تدخُّل أحدٍ أو حضوره، محاولةً في احتواء المشكلة في جو خاصٍ بعيدٍ عن تقاذفِ التُهم، وتصعيدِ المشكلة واستجلابِ مزيدٍ من الخصومة.
وقد يفقد الزوج السيطرة على احتواء المشكلة بعد كل هذه المحاولات المشروعة، أو يفتقدُ الحكمة في الإصلاح والتأديب فتتفاقم المشكلة مع كل محاولة، فلا يجوز أن تُتهمَ شريعةُ الله بأن أساليبها الإصلاحيةَ قاصرةٌ، أو فاشلة لا تناسب ظروف العصر وتغير الزمان.
إن فشل هذه المحاولاتِ الإصلاحية لا يأتي من جهة قصورها واختلالها وعدمِ مناسبتها لكل عصر، ولكنه يأتي من جهتين لا علاقة للشرع بهما، فإما من قصور الزوج في تطبيق هذه المحاولات حين يأخذ بظاهر هذه الأساليبِ الإصلاحية مجردةً عن روحها الذي هو صدق اللهجة وحسن القصدِ في الإصلاح.
إن هذه المحاولات الثلاث لا تجدي جدواها حين يحاولها الزوج بروح الاستعلاء والمراغمة والمغالبة ومحاولةِ إذلال الزوجة وإهانتها بطريقة استفزازية تثير كبرياءها فيتحولان إلى خصمين يتهارشان في حلبة صراع، وما ذاك إلا لأن الأساليبَ قد أخذ بها مجردةً عن روح الإصلاح وصدقِ الرغبة في التأليف.
وقد يأتي الفشل من قِصر نفس الزوج في محاولة الإصلاح ومن قلة صبره واحتماله، فربما تجمل بالصبر والحلم سويعات محاولةً في استصلاح زوجته، ثم تأتي الحماقة والغضب متسارعين فيَحْطِمان كل محاولة.
وقد يأتي فشلُ المحاولات من جهة الزوجة، حين تكون مستعصية على كل إصلاح بسبب طبيعةٍ خاصةٍ رُكبت فيها، أو بسبب قصور في تربيتها وتأهيلها، أو بسبب بغضها الشديد لزوجها فهي تستميت في مفارقته ومراغمته.
وحينئذ يكون شأنُ وسائلِ الإصلاح هذه كشأن وسائل الدعوة التي أمر الله بها في قوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) فقد يأخذ بها الداعي فلا يلقى بها قَبولاً لدى المدعو؛ فليس بالضرورة أن يكون السببُ في قصور أسلوب الدعوة، فقد يكون السببُ فيما رُكِّب في المدعو من كِبْر نفسِه واستعلائها وتأبيها على الانقياد.
أيها المسلمون: تلك المحاولات الإصلاحية حين لا يستعلن النشوز، فأما إذا كان قد استعلن وتفارط عِقد الإصلاح من داخل البيت، فهو إذن صراعٌ وحربٌ بين خصمين يستدعي تدخلاً من أطرافٍ أخرى خارج البيت؛ ولكنه متصلة به بواصلة الرحم، (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً ).
إنها دعوة لأهل الزوج والزوجة ألا يقفوا من المشكلة المتفاقمة وقفة المتفرج الذي يتطلع من باب الفضول وحب الاستطلاع لا من باب الحرص على رأب الصدع.
فيتعين أن بُبعث حكمٌ من أهلها ترتضيه ، وحكم من أهله يرتضيه . يجتمعان في هدوء؛ بعيدين عن الانفعالات النفسية التي كدّرت صفو العلاقات بين الزوجين، متجردين من هذه المؤثرات التي تفسد جو الحياة، وتعقد الأمور، حريصين على سمعة الأسرتين، مشفقين على الأطفال الصغار. بريئين من الرغبة في غلبة أحدهما على الآخر، وفي الوقت ذاته هما مؤتمنان على أسرار الزوجين؛ لأنهما من أهلهما : لا خوف من أن يُفشيا هذه الأسرار؛ إذ لا مصلحة لهما في التشهير بها ، بل مصلحتهما في دفنها ومداراتها!
يجتمع الحكمان لمحاولة الإصلاح . فإن كان في نفس الزوجين رغبة حقيقية في الإصلاح ، وكان الغضب فقط هو الذي يحجب هذه الرغبة، فإنه بمساعدة الرغبة القوية في نفس الحكمين، يقدر الله الصلاح بينهما والتوفيق: (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما) . .
وهذا من أعظم إصلاحِ ذات البين التي وعد الله عليها بالأجر العظيم..
التعليقات