عناصر الخطبة
1/وسطية الإسلام بين الروح والمادة 2/جانبا الإنسان المادي والروحي وتعامل الشرع معهما 3/العقل أهم ما يميز الإنسان عن غيره 4/من سمات توازن التشريعات الإسلامية بين الروح والمادة.اقتباس
الدين الإسلامي جاء بما يوافق الفطرة البشرية، مراعيًا حاجة الروح والجسد، ويهذب الغرائز؛ فنبي الله محمَّد -صلى الله عليه وسلم- جاء بوحي من عند الله يرشد إلى دينٍ يوافق الفطرة البشرية الطبيعية، ويراعي ما تحتاجه الروح...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: لقد شاء الله -عز وجل- أن تكون رسالة الدين الإسلامي هي خاتمة لجميع الرسالات الإلهية، وهي الناسخة لجميع الشرائع التي كانت قبلها، ولأجل دوام هذا التشريع الخاتم وبقائه سالمًا من عبث وتحريف البشر، ومصانًا عن كل الزيادة فيه، أو الانتقاص منه؛ فقد تكفل المولى -جل وعلا- بحفظه؛ فقال -جل وعلا-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9]، وذلك مثلما تفضل الله -تعالى- وتكرم على عباده بأن جعل لهم تشريعات الدين الإسلامي تراعي متطلبات الجسد المادية، وأشواق الروح، وتطلعات العقل، ولم يجعل على أحد في هذا الدين القويم من حرج؛ فاستحق هذا الدين العظيم عن جدارة أن يكون دينًا عالميًا، وصالحًا لجميع بني البشر وذلك عبر امتداد البقاع واختلاف الأزمان، وليس عجيبًا أن يحمل الدين الإسلامي هذه الميزة العظيمة؛ فهو ينتسب بأحكامه ونظمه إلى الله -سبحانه وتعالى-، والذي هو الأعلم بما هو صالح لسياسة حياة الناس، قال الله -عز وجل-: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك:14].
معاشر المسلمين: إنَّ الله -تعالى- حين خلق الإنسان ركبه من شيئين: هما: المادة والروح؛ فالمادة هي ما يتجسم في هيكله المكون من اللحم والدم، وأما الروح التي لا تتجسم في شيء محسوس هي المحرك لهذا الهيكل، والتي تضفي عليه حياته وحيويته ونشاطه، قال -تعالى-: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)[السجدة: 7 - 9].
فالجسم الإنساني إنما هو الوعاء الذي يحمل الروح ويحفظها، وقد دمج الله أحدهما في الآخر وارتبط وجود الأول بالثاني ارتباطًا وثيقًا ومتينا كليًّا حتى أنه لا يمكن أن يتصور وجود الروح بدون أن يوجد جسم، ولا يبقى للجسم أي معنى بعد أن تغادره وتفارقه الروح نهائيًا؛ فهذا الزواج الوثيق بين المادة والروح يجعلنا نتساءل ونطرح الاستفسارات عن مدى انسجامها وعن ما هو سر ترابطهما في شكل هذا الإنسان البشري؟!.
إنَّ الله خلق الإنسان من لحم ودم وركب فيه الشهوات؛ كشهوة الطعام والشراب وغيرها، وذلك لكي ينمو جسمه ويقدر على الحركة الملائمة لحياته على هذه البسيطة، فكان مضطرًا للبحث عن غذائه وما يشبع رغباته الذي لا مناص له منه ولا مفر، وأصبح بحكم ذلك مقيدًا مرتبطًا بالمادة يخضع لضرورتها، ويلتجئ إليها في حياته؛ سواء أحب ذلك أم كرهه.
إخوة الإيمان: إنَّ الله -تعالى- أراد أن يخلق هذا الإنسان البشري ضعيفًا غاية الضعف، مفتقرًا إلى ما يشبع رغباته المادية، مثله في ذلك مثل أي حيوان أعجم، لكن الله -تعالى- ميزه، ووهبه شيئًا جوهريًّا ميزه به عن الحيوان، ألا وهو العقل الذي أكرمه الله -تعالى- به، قال -عزَّ وجلَّ-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء: 70]، وما ذلك العقل إلا ميزان جعل رهن إشارة الإنسان من أجل أن يزن به الأمور ويفرق به بين الحق والباطل، ويمايز بين الصواب والخطأ، والخير والشر؛ فأصبح من المهم والمنطقي أن يحسن الإنسان استعمال هذا الميزان، وأن يجيد التصرف في الأمور بفضل ما وُهب من العقل حتى يتميز عن غيرها من عجماوات الحيوان، الذي لم يكرم بالعقل والذي لا يجيد التفريق بين الشيء وضده.
أيها المؤمنون: لقد أكرم الله الإنسان بأن بثَّ فيه الروح، وركبه من المادة الطاغية، وطلب من هذا الإنسان أن يجعل عقله هو الحكم بين جسمه وروحه في صراعهما القوي والعنيف المتسلسل ما بقي بشري على هذا الكوكب.
فهذه الرغبات، والشهوات والملذات والحاجات الملحة التي يدعو إليها الجسم المادي دومًا تحاول أن تكون هي المسيطرة على المرء وتريد أن تجعله ينصرف إليها وحدها، وتحاول جاهدة أن تخضعه لسلطانها وأن يزج بنفسه وجسده في خيارها الصاخب، دون أن يعير أي اهتمام للجوانب الروحية، وكأنه لم يخلق إلا من المادة فقط وللمادة وحسب، بينما هو ذلك المخلوق المركب من المادة والروح معا.
عباد الله: إن الوحي الإلهي الذي جاء به النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يمتاز بأحكام وتشريعات توافق الفطرة البشرية، وتُراعي أشواق وتطلعات الروح، وحاجات الجسد، وامتازت بكونها توازن بين العمل للمعاش في الدنيا والعمل للآخرة، حيث تظهر سمات ذلك التوازن في ما يأتي:
السمة الأولى: أنَّ الدين الإسلامي جاء بما يوافق الفطرة البشرية، مراعيًا حاجة الروح والجسد، ويهذب الغرائز؛ فنبي الله محمَّد -صلى الله عليه وسلم- جاء بوحي من عند الله يرشد إلى دينٍ يوافق الفطرة البشرية الطبيعية، ويراعي ما تحتاجه الروح وما يطلبه الجسد؛ كما أنه يُهذب غرائز الإنسان، ولا يتجاهل تلك الغرائز كما كان يحدث في كثير من الأمم التي سبقت والتي كانت غارقة في كثير من المثاليات المخالفة للفطرة البشرية مثل الرهبانية وغيرها، قال الله -تعالى-: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[القصص:77].
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالوها -أي رأوها قليلة بالنسبة لما ينبغي لهم-؛ فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا؛ وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر؛ وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا؛ فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما -والله- إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني"(رواه البخاري ومسلم).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد النّبي الأمي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
عباد الله: فإن من السمات التي يظهر فيها موازنة الإسلام بين الروح والمادة؛ أن الدين الإسلامي ينطلق من قاعدة أنَّ الله -عز وجل- الذي خلق جميع البشرية هو الأعلم بما يُصلح حال الناس، والأعرف بما ينسجم مع جبلتهم وطبيعتهم التي خلقهم عليها، وهو العليم الخبير -سبحانه وتعالى- بجميع مساوئ الإفراط أو التفريط في إشباع هذه الغرائز؛ لذا كان التشريع الحكيم يقوم دائمًا على هذا الفهم.
وكان هدي النبي الحكيم يُشكل نموذجًا يطبق هذا الاعتدال في التعامل مع جميع الغرائز البشرية، ومن ذلك أنّ رسول -صلى الله عليه وسلم- نهى من يبالغ في العبادة على حساب جسده وبيته وأهله وضيفه؛ فعن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: "دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: "ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟" قلت: بلى يا رسول الله! قال: "فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإنَّ لجسدك عليك حقا، وإنَّ لعينك عليك حقًا، وإنَّ لزوجك عليك حقًا؛ وإن لزورك عليك حقًا، وإنَّ بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام"، قال: فشددت؛ فشدد علي، قال: فقلت: يا رسول الله! إني أجد قوة، قال: "فصم من كل جمعة ثلاثة أيام"، قال: فشددت؛ فشدد علي، قال: فقلت: يا رسول الله! إنَّي أجد قوة، قال: "صم صوم نبي الله داود، ولا تزد عليه"، قلت: يا رسول الله! وما كان صيام داود؟ قال: "كان يصوم يوما ويفطر يومًا"(رواه البخاري).
السمة الثالثة: ومن السمات التي يظهر فيها موازنة الإسلام بين الروح والمادة؛ أنَّ على الإنسان أن يعرض كل شيء في حياته على تعاليم الشريعة الإسلامية وعلى هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن وجد بينهما توافقًا فهو خير، وإن رأى بينهما اختلافًا وعدم اتفاق فعليه أن يلتزم بشريعة الله، وأن يمتثل مستسلمًا لأمر ربه، وأن يتبع هدي نبيه محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام-.
السمة الرابعة: أن يعطي الإنسان نفسه ما تستحقه من الراحة والمباحات وألا يشق عليها، وألا يجعل حياته كلها في العبادة، بمعنى أن يوازن بين ما تطلبه روحه وما يريده جسده؛ امتثالًا لأمر الله -تعالى- وهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس معنى ذلك أن يقع في الحرام محتجًا أنَّه يرتاح من عناء وتعب العبادة، وهذه أيضًا من سمات الموازنة بين الروح والجسد في الإسلام، قال -تعالى-: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِب الْمُعْتَدِينَ)[المائدة:87].
فاشكروا الله –عباد الله- على إكرامه لكم بدين عظيم شملت عنايته بالأرواح والأجساد، وما يلبي احتياجاتها وما يساهم في صلاح أمرها في الدين والدنيا والآخرة. وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه؛ فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
التعليقات