عناصر الخطبة
1/إتهام الإسلام بأنه السبب في تخلف المسلمين والرد على ذلك 3/بعض مجالات تقدم المسلمين في الأندلس 4/إزدهار الحياة الاقتصادية أثناء الخلافة الإسلامية 5/السبب الحقيقي وراء تخلف المسلمين اليوماهداف الخطبة
اقتباس
لقد كان الغربيون في الأندلس عالة على المسلمين في كثير من العلوم، ففي الطب مثلا يعدون أبا القاسم الزهراوي إمامهم في الجراحة، فهو مؤلف الموسوعة الطبية المعنونة، بـ:"كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف في الطب العام وفي الصيدلة وفي الجراحة" في ثلاثين جزءا، الذي ظل قسم الجراحة منه بعد ترجمته إلى اللاتينية يدرّس في الجامعات الأوربية...
الخطبة الأولى:
لا يزال حديثنا عن وسطية الإسلام مستمرا، ولا زلنا مع شبهات هؤلاء المناوئين الذين يصلون الليل بالنهار ليغمزوا شريعة رب العالمين، ويستنقصوا سنة سيد المرسلين، وليقنعوا شبابنا بأن الإسلام تجاوزته المدنية الحديثة، والقوانين الدولية المستحدثة، التي في زعمهم تقدس الإنسان، وتجعله السيد في قراراته، والحر في اعتقاداته، والمستقل في رسم حياته، والتخطيط لأفكاره، وكأن هذا الإنسان أوجد نفسه بنفسه، وخلق الكون بإرادته، وترقى في مدارج العقل بمحض حيلته.
وموعدنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع إحدى أبرز هذه الشبه، التي ألقى بها غير المسلمين، وتلقفها هواة التبعية، وذوبان الشخصية، فجعلوها مشجب تهكمهم، وسبيل ازدرائهم، ونهج استنقاصهم، فلوحوا بها في منتدياتهم، وتمضمضوا بها في لقاءاتهم، وأشهروها في صحفهم ومجلاتهم، وهي: ادعاؤهم أن ما تعيشه اليوم كثير من المجتمعات الإسلامية، مما يعرف بالثالوث المدمر، وهو تفشي الفقر، وظهور الأمراض، وانتشار التخلف، إنما مرده إلى الدين الإسلامي، بدليل أن البلاد الغربية لما تنصلت من الدين، ارتقت وتفوقت، وصارت حضارتها قبلة العالمين، ومغناطيس المشدوهين المبهورين.
إن الناظر في تاريخ المسلمين، وتاريخ ما يسمى ب"النهضة الغربية الحديثة"، يتبدى له لأول وهلة: أن سبب تمكن ذلك الثالوث المرعب من بلاد المسلمين ليس مرجعه إلى دين الإسلام، وأن ما حققه الغرب من تفوق تكنلوجي وحضاري، لم يكن وليد العقل الغربي، بل اعتمد في قيامه على الحضارة الإسلامية نفسها، وعلى عقول المسلمين، وعلومهم، وثرواتهم بعد احتلال بلادهم.
لقد عرف المسلمون حين استضاؤوا بهدي شريعة الله قمة الحضارة، يوم كان الغرب يغط في نوم الجهالة، ويسدر في مهاوي التخلف.
تقول "لوسي لوبيز" أستاذة الأدب الإسباني والأدب المقارن متحدثة عن قرطبة، يوم كان يحكمها المسلمون: "كانت قرطبة مدينة معبّدة الطرقات، مضاءة بالمصابيح المعلّقة على جنبات الشوارع، وعلى مداخل البيوت، قبل سبعمائة عام من الوقت الذي امتلكت فيه مدينة لندن مصباحًا واحدًا يضيء الشارع فيها، وقبل قرون من الوقت الذي كان فيه سكان باريس يستطيعون المشي في الطرقات في يوم ماطر، دون أن يغوصوا إلى ركبهم في الطين".
ويُرجع قاضي طليطلة يومذاك ابنُ صاعد، المتوفي سنة 462هـ، سببَ تخلف الأوروبيين الشماليين إلى بعد الشمس عن رؤوسهم، يقول: "فإفراط بُعد الشمس عن مُسامَتَةِ رؤوسهم، بَرَّدَ هواءهم، وكثّف جوهم، فصارت لذلك أمزجتهم باردة، وأخلاطهم فجّة، فعظمت أبدانهم، وابيضّت ألوانهم، وانسدلت شعورهم، فعدموا بهذه دقة الأفهام، وثقوب الخواطر، وغلب عليهم الجهل والبلادة، وفشا فيهم العمى والغباوة".
لقد كان الغربيون في الأندلس عالة على المسلمين في كثير من العلوم، ففي الطب مثلا يعدون أبا القاسم الزهراوي إمامهم في الجراحة، فهو مؤلف الموسوعة الطبية المعنونة، بـ:"كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف في الطب العام وفي الصيدلة وفي الجراحة" في ثلاثين جزءا، الذي ظل قسم الجراحة منه بعد ترجمته إلى اللاتينية يدرّس في الجامعات الأوربية، حتى القرن السابع عشر الميلادي.
وقل مثل ذلك في علم الفلك، وعلم الرياضيات، فضلا عن العلوم الإنسانية، وغيرها.
أما على مستوى علاقة الحاكم بالمحكوم التي يتبجح الغربيون اليوم: أنهم رفعوا الحواجز عنها، فصار الرئيس يلتقي الناس، ويمشي بينهم ، فنذكر مثالا واحدا لحاكم مغربي لم ينصفه التاريخ، وهو السلطان يعقوب المنصور الموحدي، الذي آلى على نفسه أن يسير على نهج السابقين من الخلفاء الراشدين وغيرهم.
فقد ازدهرت الحياة الاقتصادية في عهده، واستتب الأمن في كثير من مناطق الدولة، وكانت أيامه كما يقول ابن أبي زرع :"أيام دَعَة، وأمن، ورخاء، ورفاهية، وبنية حسنة، صنع الله -عز وجل- في أيامه الأمن بالمشرق والمغرب والأندلس، وكانت الظعينة تخرج من بلاد "نول لمطة" حتى تصل "برقة" وحدها، لا ترى من يعارضها ولا من يكلمها".
وكان الدينار يقع من الرجل في الشارع العمومي، فيبقى ملقى لا يرفعه أحد عدة أيام، إلى أن يأخذه صاحبه، ويمكث القاضي الشهر وأكثر، لا يجد من يحكم عليه، لتناصف الناس، وارتفاع مستواهم الخلقي.
وذكر صاحب "المعجب" أنه كان: "مؤثرا للعدل، متحريا له.. وكان يتولى الإمامة بنفسه في الصلوات الخمس.. وكان يقعد للناس عامة، لا يحجب عنه أحد من كبير أو صغير، وكان إذا وفد عليه أهل بلد، فأول ما يسألهم عن عُمَّالهم، وقضاتهم، وولاتهم، فإذا أثنوا خيرا قال: اعلموا أنكم مسؤولون عن هذه الشهادة يوم القيامة، فلا يقولَن امرؤ منكم إلا حقا.. وكان كثير الصدقة.. وكان كلما دخلت السَّنة، يأمر أن يُكتب له الأيتام المنقطعون، فيُجمعون إلى موضع قريب من قصره، فيختنون، ويأمر لكل صبي بمثقال وثوب ورغيف ورمانة، وربما زاد على المثقال درهمين جديدين.
وبنى بمدينة مراكش "بيمارستانا"، ما أظن أن في الدنيا مثله.. فإذا نَقِهَ المريض، فإن كان فقيرا أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل، وإن كان غنيا دَفع إليه ماله وتركه وسبَبَه.. وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله، يعود المرضى، ويسأل عن أهلِ بيت أهلِ بيت يقول: كيف حالكم، وكيف القُوَمَةُ عليكم؟.. لم يزل مستمرا على هذا إلى أن مات رحمه الله ".
فمتى كان دين الإسلام سببا للفقر والتخلف؟ ومتى وقف في وجه العلوم والأخلاق؟.
قال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].
ورحم الله عمر بن الخطاب الذي قال: "إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به، أذلنا الله" [صحيح الترغيب].
هل تطلبون من المختار معجزة *** يكفيه شعب من الأجداث أحياه
هي الشريعة عين الله تكلؤها *** فكلما حاولوا تشويهها شاهوا
الخطبة الثانية:
إن ما آلت إليه كثير من بلاد المسلمين من تبعية وأمية وفقر، راجع إلى تنكب طريق شريعة الإسلام، والازورار عن سنة سيد الأنام -صلى الله عليه وسلم-، إذ كيف يعقل أن نوصم بالجهل، والتخلف، والأمية، ومن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق: 3- 5].
والله -تعالى- يأمرنا بالتأمل في آيات الآفاق والأنفس، ويقول:(أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ) [الأعراف: 185].
ويقول تعالى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 21]؟.
كل العجائب صنعة العقل الذي *** هو صنعة الله الذي سوَّاكا
والعقل ليس بمدرك شيئا إذا *** ما الله لم يكتب له الإدراكا
وكيف ينتشر الفقر بينناوالمال مال الله، جعله شركة بين كل المسلمين؟.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:"مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ".
قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-:"فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ، حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ"[مسلم].
ويقول تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[المعارج: 24- 25].
وكيف يكون بيننا فقير، وأحد أثرياء العرب تبلغ زكاة أمواله قرابة ثلاثة أرباع مليار دولار؟.
إن الداء ليس في شرع الله، حاشاه، وهو الذي أخرج الناس من ظلمات الجهل والفقر، إلى حياة النور والعدل والرحمة، إنما الخلل كامن في بعض المسلمين الذين تأولوا الدين على غير مراده، فصاروا يتساهلون في أحكام الشريعة تارة، ويضربون بعضها ببعض تارة أخرى، وينسبون الآراء والمواقف إلى الدين بغير علم، فطُلب العلم بغير إخلاص، وطلبت الوظيفة بغير إخلاص، وطلبت المسؤوليات بغير إخلاص إلا من رحم الله، فكيف لا نصير لقمة سائغة في أفواه هؤلاء الذين يلمزوننا بالضعف، ويرمون ديننا بالتخلف، وأهله بالتفرق؟.
تأبى الرماح اذا اجتمعن تكسراً *** واذا افترقن تكسرت آحادا
التعليقات