عناصر الخطبة
1/إثارة الشبهات والشكوك ضد الإسلام 2/إظهار الباطل بصورة الحق 3/الرد على شبهة منح الإسلام للإنسان الحرية في اعتناق أي دين 4/وصم الإسلام بالتشدد وعدم التيسير والرد على ذلك 5/شبهة المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة والرد على ذلكاهداف الخطبة
اقتباس
ها هنا يثير المشككون جملة من الشبه، يريدون من خلالها أن يفهموا نصوص الشريعة على غير مراد من أنزلها عز وجل، وارتضاها دينا لأوليائه، كما بينه رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، وكما فهمه الصحابة الكرام، وخيرة العلماء بعدهم. والخطير في الأمر: أنهم يلبسون شبههم لبوس الشرع نفسه، فيطلونها بطلاء القرآن والسنة، تلبيسا على المبتدئين، وتمويها على...
الخطبة الأولى:
وقفنا في الجمعة الماضية عند بعض أهم معاني الوسطية في الإسلام، وتبين لنا أن المقصود ما تميز به ديننا من اعتدال خير في كل شيء، بحيث لا يجنح إلى طرف على حساب طرف، فلا إفراط ولا تفريط، ولا مبالغة ولا تقصير، انطلاقا من قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143].
وأتينا على القول الجامع لابن القيم -رحمه الله-: "خير الناس النمط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرِّطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين".
وها هنا يثير المشككون جملة من الشبه، يريدون من خلالها أن يفهموا نصوص الشريعة على غير مراد من أنزلها عز وجل، وارتضاها دينا لأوليائه، كما بينه رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، وكما فهمه الصحابة الكرام، وخيرة العلماء بعدهم.
والخطير في الأمر: أنهم يلبسون شبههم لبوس الشرع نفسه، فيطلونها بطلاء القرآن والسنة، تلبيسا على المبتدئين، وتمويها على شباب المسلمين، كما قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: "لا تجد مبتدعاً ممن ينتسب إلى الملة، إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي، فينزله على ما وافق عقله وشهوته".
وقال ابن حجر -رحمه الله- في مثل هؤلاء الذين ينتزعون هذه النصوص، ويعطونها أبعادا غير مقصودة: "انتزعوها من القرآن، وحملوها على غير محملها".
ومن هذه الشبه:
1- استدلالهم بقول الله -تعالى-: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون: 6] على أن الإنسان مخير بين الأديان، يدين بأيها شاء، ويختار منها ما يوافق هواه، ويساوق مبتغاه، فلا حرج عندهم أن يكون الإنسان مسلماً، أو نصرانياً، أو بوذياً، أو سيخياً، أو مجوسيا.
قال ابن القيم -رحمه الله- معلقا على الآية: "معاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريراً لهم، أو إقراراً على دينهم أبداً، بل لم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول الأمر، وأشده عليه وعلى أصحابه، أشدّ على الإنكار عليهم، وعيب دينهم، وتقبيحه، والنهي عنه".
وقال شيخ الإسلام: "هذه كلمة تقتضي براءته من دينهم، ولا تقتضي رضاه بذلك".
ومثل ذلك قوله تعالى: (وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ)[يونس: 41].
قال ابن كثير: "وإن كذبك هؤلاء المشركون، فتبرأ منهم ومن عملهم".
وهو نظير قول إبراهيم -عليه السلام- وأتباعه لقومهم المشركين: (إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)[الممتحنة: 4].
ويعزز المشككون رأيهم بقول الله -تعالى-: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) [الكهف:29] أي: إن الإنسان في زعمهم يمكن أن يكون مسلما، ويرتد إلى النصرانية، أو اليهودية ولا حرج، ما دامت الآية تخير بين الأمرين.
مع أن الله -تعالى- ذكر حكم الردة صراحة، فقال: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة: 217].
ولماذا قاتل النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشا؟ وقاتل المسلمون فارس والروم، حتى انتشر الإسلام بساحتهم ولله الحمد؟
هل قالوا لهم: "فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ"؟.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي" [رواه أحمد، وحسنه في الإرواء].
وقال صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِي، فَلَهُ أَجْرَانِ"[متفق عليه].
وفي الحديث: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار"[رواه مسلم].
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بُعث محمد وهو حي ليؤمنن به، ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق: لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنُن به، ولينصرنُه" [صحيح السيرة النبوية].
أما توجيه الآية: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[الكهف: 29].
فقد قال ابن كثير: "هذا من باب التهديد والوعيد الشديد؛ ولهذا قال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا) أي: أرصدنا: (لِلظَّالِمِينَ) وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه: (نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)[الكهف: 29] أي: سورها".
2 - ومن شبههم: اعتقادهم أن ما يقرره العلماء من أحكام دينية منبثقة عن الكتاب والسنة فيه تشدد وتزمت وإلزام، ولا يراعي التيسير على الناس، ويستدلون بقول الله -تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة: 185].
وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا الدين يسر".
ويقولون إنه بعث معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن وأوصاهما قائلا: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا" [متفق عليه].
ويجعلون لازم هذه النصوص أن يُطلَق العِنان للناس أن يعبوا مما تشتهيه النفوس من حلال وحرام؛ فالربا لا بأس به؛ لأنه ضرورة اقتصادية، فالدين يسر، والتدخين عادة عمت بها البلوى، فلا إثم فيها، فالدين يسر، والعطر الخفيف للمرأة لاستقبال الضيوف لا بأس به؛ لأن الإيمان في القلب، والنظر إلى المتبرجات مما جرت به العادة، فالدين يسر.
وقد يسوغون كل ذلك بكونه من ضرورات العصر التي لا فكاك منها، ولا محيد عن اقترافها، ويقولون: "إن الضرورات تبيح المحظورات".
ويستندون إلى قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[البقرة: 173].
وينسون قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ"[متفق عليه].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله فَرَضَ فرائِضَ، فَلا تُضَيِّعُوها، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدوها، وحَرَّمَ أَشْياءَ، فلا تَنتهكوها، وسَكَتَ عنْ أشياءَ رَحْمةً لكُم غَيْرَ نِسيانٍ، فلا تَبحَثوا عَنْها" [رواه الدارقطني، وهو حديث حسن].
إن اليسر المذكور: أن يخفف الله على العباد ما يرهقهم، ويضنيهم، وما يعنتهم، ويشق عليهم، فذلك مما رفع فيه الحرج، وحكم فيه التيسير، حتى لا تنقلب المصلحة مفسدة، إذ الشريعة كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "مبناها وأساسها على مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها، و مصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة".
عَنْ عَائِشَةَ -رضى الله عنها- قَالَتْ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الشَّهْرِ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ".
وَكَانَ يَقُولُ: "خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا".
وَكَانَ يَقُولُ: "أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ" [مسلم].
فكان من اليسر: تقصير الصلاة في السفر، والإفطار في رمضان في السفر، وجمع الصلاة في السفر أو المرض، أو عند المطر، والمسح على الجوربين للمقيم يوما وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وغير ذلك مما هو مظنة المشقة، حتى قال علماء الأصول: "المشقة تجلب التيسير".
قال ابن حجر: "لا يتعمقْ أحد في الأعمال الدينيَّة، ويتركِ الرفق، إلا عجز وانقطع، فَيُغْلَب".
ومما عمق هذا الفكر المناوئ: ظهور فتاوى غريبة، تخرج على الناس من حين إلى آخر، تجعل من المتدينين مسخرة لمثل هؤلاء الذي يهتبلون كل شاذ، ليتهموا به الشريعة الغراء، ويمالِئوا به أهل الأهواء.
الخطبة الثانية:
3 - ومن شبههم المعاصرة: استدلالهم بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما النساء شقائق الرجال"[صحيح سنن أبي داود].
على ضرورة المساواة التامة بين الرجل والمرأة، ويزعمون أن المرأة في هذا الزمان صارت تزاحم الرجال في طلب العلم، وطلب الوظيفة، وتتقلد فيه المناصب العليا، فالزمان في زعمهم قد تغير، والفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، فلا حاجة للجمود على أحكام القرآن والسنة، فقد تجاوزهما العصر.
ولقد استهوت هذه الشبهة المغرضة كثيراً من النساء، فخرجن يطالبن بالمساواة في الإرث، ومنعِ التعدد، والحق في الطلاق، والتخلص من المحرم في السفر، والتملص من الوصاية، حتى وإن كانت من طرف الأب، وطالبن بأن يكن مثل الرجال سواء بسواء، فإذا نصحهن الغيور عليهن بأن هذا مخالف لشرع الله، صرخن، وقلن: "النساء شقائق الرجال".
وَدَعَوتَني وَزَعَمتَ أَنَّكَ ناصِحٌ *** فلَقَد صَدَقتَ وَكُنتَ قبلُ أَمينا
وَعَرَضتَ ديناً قَد عَلِمتُ بأَنَّهُ *** مِن خَيرِ أَدي إنِ البَرِيَّةِ دينا
التعليقات