الخطبة الأولى:

الحمد لله عالم كل شيء، كاتب كل شيء، يفعل ما يشاء، ويخلق ما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ وبعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 71-72].

إن مراتب الإسلام ثلاث: أولها: الإسلام، وأركانها خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا.

والمرتبة الثانية: الإيمان، وأركانها ستة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.

والمرتبة الثالثة وهي أعظمها وأعلاها، وهي: مرتبة الإحسان، وحديثنا في هذه الخطبة عن هذه المرتبة: مرتبة الإحسان.

والإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلـم، وله ركنان: أن تعبد الله كأنك تراه، أي تشتاق إليه وتحبه وتطلبه بقلبك، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أي تستشعر مراقبته لك في كل حركاتك وسكناتك مما يجعلك تخافه وتحسن العبادة، ولا ترتكب المعاصي خوفاً منه، بل تستحي منه سبحانه وتعالى، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[المجادلة: 7].

والمؤمن مطلوب منه الإحسان والإتقان في العبادات والمعاملات، قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الملك: 1-2]، ويقول تعالى: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)[النحل: 128].

ومن هذا المنطلق فإن الإيمان بأسماء الله وصفاته توصلك إلى مرتبة الإحسان، فإذا زاد إيمانك في أسماء الله -عز وجل- وصفاته بأنه سميع يسمع كلامك، وبصير يبصرك ويراك في أي مكان، ومن أسمائه سبحانه: أنه عليم، يعلم ما في الصدور، ويعلم سرك وجهرك وأعمالك، وأنه خبير، أي خبير بكل شيء عنك، فهذا يقودك إلى الحذر منه، والخوف منه سبحانه، وتحسب كل حساباتك وكل تصرفاتك وأقوالك وأفعالك في مراقبة الله -تعالى-.

والإحسان ليس في الدين فحسب، بل يكون في كل شيء، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" فالإحسان مطلوب في كل شيء، وهو الاتقان فمثلاً: الإحسان في العبادة فتأتي إلى الصلاة وتستشعر أن الله يراك، وأنه معك بعلمه مما يقودك إلى الخشوع في الصلاة واتقانها في أركانها وشروطها وتستشعر قرب الله منك، وأنه أقرب إليك من حبل الوريد: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[ق: 16] فتهتم في مراقبة الله لك وأنت تناجي الله في الصلاة بالفاتحة والدعاء والذكر في كل مراحل الصلاة، ولا تسترسل في وسوسة الشيطان الرجيم، بل تتعوذ بالله منه أثناء الصلاة، وعليك بمناجاة الله وحده، فإذا فعلت ذلك فأنت محسن في الصلاة، وبالتالي أصبحت الصلاة راحة كما  كانت الصلاة راحة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم تحسن في كل العبادات الأخرى، وتعلم أن الله معك ويراك، وكذلك تمتنع عن المحرمات؛ لأنك تعلم أن الله يراك إذا فعلت فاحشة أو ارتكبت كبيرة من كبائر الذنوب من ترك الصلوات أو فاحشة الزنا أو اللواط أو شرب الخمر أو الربا أو عقوق الوالدين أو غيرها من الكبائر، وهذا يقودك إلى الابتعاد عن المعاصي كبيرها وصغيرها.

أما الإحسان مع الناس فإنه يتأكد الإحسان والرفق مع الضعفاء من الناس والمساكين، فنبدأ الإحسان في التعامل مع الناس مع الأقربين منك، وهما الوالدين أولا، ثم الأقارب الأقرب فالأقرب، وكذلك الجيران، ثم الناس الأبعد فالأبعد حتى مع الكفار تتعامل معهم باحترام ما دام لم يعتدوا على الإسلام والمسلمين.

وكذلك الإحسان حتى مع البهائم، فإن الله -عز وجل- أدخل امرأة النار بسبب هرة حبستها لم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض، وفي نفس الوقت دخلت امرأة بغية زانية الجنة بسبب أنها أسقت كلبا ماء إحسانا إليه؛ لأنه بلغ مبلغا في العطش.

فالإسلام كتب الإحسان في العبادات مع الله -عز وجل-، وكذلك مع الناس جميعاً الأقرب فالأقرب، ثم الأبعد فالأبعد.

نسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا الإحسان في العبادات أولا مع الله -عز وجل-، وكذلك مع الناس الأقرب فالأقرب وفي كل شيء إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروا إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد.

كما سمعتم أن مرتبة الإحسان هي أعلى مراتب الإسلام، وهي تتمثل في استشعارك أن الله معك في كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، وأنه يسمعك ويراك، واستشعارك لهذا الأمر يجعلك تخاف الله وتهابه وتأنس به لقربه منك فتأمن، وهذا ينعكس على عبادتك وابتعادك عن الحرام قليلاً كان أو كثيراً.

اللهم وفقنا لدرجة الإحسان في كل شيء يا رب العالمين.

ثم صلوا على الرسول -عليه الصلاة والسلام- محمد فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك.

اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا عسرا إلا يسرته، ولا مريضا إلا شفيته.

اللهم وفق ولي أمرنا وأمور المسلمين لما يرضيك، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، وأبعد عنهم بطانة السوء الفاسدة يا رب العالمين.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم.