د. أحمد الخاني
الأمانة: ضد الخيانة. والأمانة: هي طاعة الله في السر والعلن.
إن كلمة (الأمانة) لتعجز الأقلام مهما كثرت عن أداء حقها كاملاً، وإنما تستطيع الأقلام أن تقتبس من مشكاة معانيها أموراً لا تحد ولا تعد.
فالأمانة تشمل الحياة كلها، ولنستمع إلى قول الله تعالى بهذا البيان المهيب الرهيب مبيناً شأن عظم الأمانة:
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب: 72].
فهل فهمت الآن على ما تدل الأمانة عليه؟ إنها أوسع من أن تكون محصورة في معنى واحد:
في المدلول اللغوي الأمانة: ضد الخيانة؛ إذا ائتمنك إنسان على مال أن ترده إليه، وإلا تفعل فهي الخيانة، وإذا أتمنت على سر ألا تفشيه وإلا فهي الخيانة.
والشارع الحكيم قد بين معنى الأمانة إجمالاً والحديث الشريف بين بعض مواقف الخيانة فقال -صلى الله عليه وسلم-: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان) متفق عليه. وفي رواية: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.
وفي حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدث أصحاب عن رفع الأمانة؛ أن الرجل ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه... فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال للرجل: ما أجلده إما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان. وهذه الأحاديث حضٌّ للمسلم على حفظ الأمانة.
والأمانة تبدأ من الفرد في نفسه وتكون في العبادات أن يقيم المسلم الشعائر على وجهها وتشتمل الرجل في أهل بيته والمرأة في بيت زوجها والخادم عند سيده والحاكم، والمحكوم، والقاضي والمتقاضي والبائع والمشتري، والمعلم والتلاميذ والمدير والمعلمين والعامل في معمله والمزارع في مزرعته...
إن الأمانة تشمل الحياة كلها. قال -صلى الله عليه وسلم-: (كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته).
ومن الأمانة إعطاء كل ذي حق حقه، ومن الأمانة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فلقد ورد أن رجلاً في دولة في المعسكر الشيوعي دعي إلى المحكمة بتهمة الخيانة، فلما مثل أمام القضاء قال له القاضي: لم توجه إليك التهمة بجرم مشهود وإنما وجهت إليك التهمة بآثار فعلك. قال المتهم: وكيف؟ قال القاضي: أنت مسؤول، وقد عينت الموظف في المكان غير المناسب. فقرر القاضي أن هذا المتهم (مذنب) واعترف المتهم أنه جاسوس.
والأمانة تشمل كل مكارم الأخلاق؛ تشمل الإخلاص والصدق والبر والعفة وحفظ السر وحفظ الوديعة، وحفظ الإيماء والإشارة حتى لا يكون صاحبها همازاً لمازاً...
فالأمانة هي مكارم الأخلاق.
ولقد كثرت الفتن في هذه الأيام، نتيجة انفتاح العالم على قنوات أكثرها ينقل: الإفساد العقائدي والانحطاط الخلقي.
الإفساد العقائدي:
هو المتعلق بالألوهية وأكثر ما يتجلى هذا في أفلام الأطفال، حيث يخيل أن السحاب يعطيه، وأن بابا نوبل يحقق له أحلامه، وفكرة هذه الألاعيب هي فعل الأفعال عن قدرة الخالق جل جلاله، وأن الأشياء بذاتها تؤثر دون مؤثر خارج عنها، ودون قوة غيبية تسير الكون، فترى أن السيارة تدعس الطفل حتى يصبح مثل الرغيف ثم يقوم ينفض يديه وكأن شيئاً لم يكن، أو تمر السيارة فتشطر الحيوان إلى شطرين، ثم يعود الشطران فيلتئمان تلقائياً، وكأن الموت والحياة بيد صاحب الجسم المنشطر.
أما الانحطاط الخلقي فيبدأ بعناوين الأفلام والمشاهد التي فيه مغرية جذابة من جمال الإخراج والموسيقا وجمال الممثلين والممثلات من فاتنات هوليود وباريس... وقد قال -صلى الله عليه وسلم- " إياكم وخضراء الدمن" قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء).
والدمنة في لغة العرب هي المزبلة، ينبت عليها نبات يتغذى على القاذورات، فتنبت خضراء زاهية. وما أكثر القصص التي تروي المآسي عن الانغماس في هذه الرذائل نتيجة ضعف الوازع الديني في نفس صاحبها، وما أكثر من يتلقى العقوبة العاجلة الطبيعية نتيجة هذا التلوث، وذلك بإصابة صاحبه بأمراض الإيدز والهربز وأمراض أخرى في النساء كالسيلان... إن كل هذه الأمراض والآفات عقوبات رادعة عسى أن ينتهي عنها أصحابها، لا يصاب بها الأتقياء الحافظون للأمانة يقول الله تعالى" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً".
فليست طاعة الله بحفظ الأمانة، إلا حفاظاً على المسلم أن يتردى في حمأة الهلاك، فالذي يقدم الطاعة يقدمها لنفسه، والذي يفعل المعصية إنما يجني بذلك على نفسه، فالله لا تضره معصية عبد ولا تنفعه طاعته، قال الله في الذين يقدمون النسك في الحج ويذبحون الأضاحي تقرباً إليه تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[الحج: 37].
فالعبد مرهون بفعله لنفسه يفعل الخير، وعليه يعود ضرر المعصية. قال الله تعالى (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)[الإسراء: 7]. وقال جل شأنه عن النفس الإنسانية: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)[البقرة: 286] فما أحرى المسلم أن ينتفع بما يسمع من الحكمة، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها.
والأمانة خلُق النبل، يحرص على هذا الخلق كل ذي دين، ولو لم يكن صاحب دين لوجب أن يحرص عليه، فالأمين محبوب، وهكذا كان -صلى الله عليه وسلم- قبل الرسالة وبعدها، ولم يكن اسمه في الجاهلية إلا الأمين، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].
(العوام يقْصرون الأمانة على حفظ الودائع، مع أن حقيقتها في دين الله أضخم وأثقل.
إنها الفريضة التي يتواصى به المسلمون برعايتها، ويستعينون بالله في حفظها حتى غنه عندما يكون أحدهما على أهبة السفر يقول له أخوه: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، عن أنس بن مالك ر-ضي الله عنه- قال: قلما خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له".
وقد سار الصحابة -رضوان الله عليهم- على المنهج وعلى حفظ الأسرار فروي عن أنس أنه تأخر على أمه ذات يوم فقالت: ما أبطأك؟ قلت: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حاجة، قالت: وما هي؟ قلت: إنها سر، فقالت المؤمنة الواعية الذكية البصيرة، لتعطي درساً للأمهات في تعليم الطفل حفظ الأسرار، قالت له: لا تخبرن بسر رسول الله أحداً.
والأمانة تشمل الدين والطاعة والفرائض والحدود إن قام بها الإنسان أثيب، وإن تركها عوقب، والأمانة خلق الأنبياء جميعاً والصالحين، فقد كانت هذه الصفة ملازمة للأنبياء قبل نبوتهم، والرسول -عليه الصلاة والسلام- كما نعرف سمي بالصادق الأمين قبل أن يرسل، وكذلك موسى -عليه السلام- قبل أن يرسل حين سقى لابنتي الرجل الصالح كان معهما عفيفاً أميناً قال تعالى (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[القصص: 26].
وللأمانة ثمرات عديدة منها:
1- الإنسان الأمين يحبه الله ورسوله.
2- أعد الله للأمين منزلة عظيمة في الآخرة وهي جنة الفردوس قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ)[المؤمنون: 8 - 12].
3- الأمانة توجد الثقة والطمأنينة بين أفراد المجتمع وتقوي أواصر المحبة والأخوة والتعاون بينهم)[1].
(ومن معاني الأمانة وضع الشيء في المكان الجدير به والأليق له، فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين). جاء رجل يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: متى الساعة؟ فقال له (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة[2]؛ فالأمانة تقضي بأن نصطفي للأعمال أحسن الناس قياماً بها، فإذا ملنا عنه إلى غيره لهوى أو رشوة أو قرابة، فقد ارتكبنا بتنحية القادر وتولية العاجز خيانة فادحة[3].
ومن الأمانة حفظ الجوارح، ومنها حفظ النظر، فلا تنظر العينان إلى محرم، ولا تستمع الأذنان إلى محرم من آلات اللهو والموسيقا وقد دخلت المعازف في كل القنوات الفضائية حتى مع الأخبار والبرامج المعرفية المفيدة، قال -صلى الله عليه وسلم- (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والمعازف والقيان) والسمع أمانة أن يصان عن الغيبة (فاكهة المجالس) نعوذ بالله تعالى، ومن الأمانة عدم الهمز واللمز والإشارة بالتنقص أو التحقير، ويكفي حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: حسبك من صفية - زوجته - وأشارت بيدها إلى قِصَرها. فقال -صلى الله عليه وسلم-: (قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته).
أما القلب؛ فله اعتبار خاص في الأمانة وحفظها. فهو سلطان الجوارح، يقبل ما يرد عليه أو ينفي، وهو المعني بالإثم الباطن، وهو التفكير في المحرم.
فالأمانة، من الألفاظ القرآنية المعجزة الدلالة، ولو ألفت في مجالاتها مجلدات ما وفتها حقها. ويكفي أن نقول: الأمانة حفظ ما حرم الله في السر والعلن.
التعليقات