عناصر الخطبة
1/حرص الإسلام على العفة وصيانته لها 2/فشو الزنا وأسبابه والتحذير منه 3/بعض القصص المأسوية الحاصلة في الأسواق وأسباب ذلك 4/واجب المجتمع تجاه الغفلات والآهات الحاصلة في الأسواقاقتباس
العفة ذلك الجمال الذي لا يراه إلا من امتحن كهذا فصبر، لا يحس به إلا يوسف -عليه السلام- ومن وضع في أتون الاختبار فعصمه الله باستعفافه. العفة عما حرم الله هي تاج الفضيلة، وسوار...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أكرم المؤمن بضياء الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعز من أطاعه بالتقوى، وأذل من أبى بالعصيان، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أيها الإخوة المؤمنون: إن ديننا حينما حرم على نسائنا أن يكشفن شيئًا من أجسادهن للأجانب، أو يخضعن لهم بالقول، أو أن لا يتحدثن معهم إلا من وراء حجاب، إنما كان يريد الحفاظ عليهن من نظرة خائنة قد تؤدي إلى فساد لا نهاية له، تفقد معه المرأة حياءها وعفتها، ويهون عليها بعد ذلك فقد كل شيء.
كل الحوادث مبدؤها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
لقد فشا الفساد في كثير من مجتمعات المسلمين من حولنا، حتى تحققت فيها مقولة رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا" (رواه البخاري).
ولقد سمعت من الثقات، وقابلت بعض التائبين، وباح لي بعض المستمرين في غفلاتهم، وبعض من لهم أصدقاء يصرحون لهم بمغامراتهم الوبيلة العواقب، واطلعت على حوارات مع الشباب والفتيات في الصحف والكتب، يحكون فيها ما يتناقض مع ما عُرف عن طبيعة مجتمعنا الطيب، ولكنه -مع محدوديته نسبة لمجتمعات أخرى- أصبح واقعًا يجب ألا نستمر في مجاملة أنفسنا في نفيه، كل ذلك جعلني أخاف –حقًّا- على هذا الأمن الوارف، والاستقرار العظيم الذي ننعم به: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال: 53]، فوالله ما عدت ألوم من يتضرم قلبه غيرة وحرقة حتى أصبح يخاف على عرضه ولو من نظرة بعيدة، أو مهاتفة خاطئة، فالأمر أكبر من أن يستهين به العقلاء ذوو المروءة والدين.
الزنا فاحشة لا يتخيل شناعتها إلا من تصور أن من يُزنى به حرمُه، وأن من يهتك عرضه هو أمه أو أخته أو زوجته، فما أشد البلاء، وما أقساه.
الزنا دَيْن ربما كان قصاصه من عرض الرجل الزاني، ولكم كانت المفاجأة مريرة لأحد الشباب الذي أُطلق بعد أن قُبض عليه لخلوة محرمة مع أجنبية، ثم تفاجأ حين دُعي مرة أخرى ليرى أخته في قضية شبيهة لقضيته مع شاب آخر، والحوادث أكثر من أن تُروى!
إن الزنا دين إذا أقرضته *** كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
وربما كان قِصاص الزنا من العافية والمال ومصدر الرزق، وقد قيل: "بشر الزاني بالفقر ولو بعد حين"، والقصص التي روتها الكتب كثيرة، ولكن هذه الحادثة أرويها ممن شاهدها، ولا يزال أشخاصها أحياء، هذا أحد الشباب رآه رجال الهيئة -سدد الله خطاهم ووفقهم للحكمة في معالجة عظائم ما يرون- رأوه أكثر من مرة يرفع صوت الموسيقى الصاخبة في سوق النساء، ويمشي مشية مريبة، فأوقفوه عدة مرات، وأخذوا عليه التعهدات والكفالات، ولكنه استمر في صنيعه، فأخذوه إلى المركز ليحققوا معه، فلاحظوا على وجهه علامات الكآبة واليأس من الحياة، فأخذوا يتحدثون معه بلطف ليبوح بما في خاطره، فإذا به ينفجر بقصة عجيبة، يقول: منذ سنتين كنت واقفًا أمام محل سماه باسمه، وإذا بفتاة متبرجة، بدأتني بنظرات مريضة، فبادلتها مثلها، ثم ابتسَمَتْ فابتسمتُ لها، وبعد وقفة طويلة كانت لغة العيون هي التي تتحدث، والعيون مصايد الشيطان كما يقول علي -رضي الله عنه-، قربت منها السيارة فسرعان ما ركبت معي، وسرعان ما أخذت أتبادل معها أحاديث الغرام، وكأني أعرفها وتعرفني منذ زمن، ولما أوصلتها تواعدنا مرة أخرى، بل مرات كثيرة، حتى توثقت بيننا العلاقات، وربما سافرنا وعدنا في اليوم نفسه، وأهلها -من غفلتهم- يظنون أنها في السوق، وفي يوم من الأيام الكالحة، دعتني إلى بيتها حين تأكدَتْ من سفر أهلها، فاستجبت فرحًا بذلك، وما تظن باثنين الشيطان ثالثهما، لقد وقعت عليها في غياب إيماني بمراقبة الله -تعالى-، نعم زنيت بها برغبتها ورضاها، وأنا غافل عن العواقب الوخيمة لفعلتي، غافل عن غضب الجبار -تعالى-، وعن شناعة ما صنعت بعرض -أخي المسلم- الغافل عن حرماته، ولكنها الشهوة الرعناء التي غطت عيني بصيرتي عن الحقيقة، وما هو إلا أن عرضت عليَّ الفتاة أن أتزوج منها، فسكتُّ؛ لعدم رغبتي في ذلك، فقامت في نفس اللحظة وضيفتني بشراب فشربتُه، وأخذت مني غترتي بأسلوب لطيف، ولم أجدني في اليوم التالي إلا وأنا أقف عند منزلها كالحارس الأمين، أقف فترة طويلة دون وعي، ثم أنصرف لا أدري لماذا، لقد علقتني بها دون أن أشعر، ومنذ سنتين وأنا كأني محبوس عليها، لا أعرف أمي ولا أبي، وراتبي أربعة آلاف ريال، أسلمه لها كله فتعطيني منه ثلاثمائة ريال فقط، وكأنها تتفضل به عليَّ، حتى الجوال قُطِعت حرارته بسبب كثرة المكالمات معها وعدم قدرتي على السداد، إنني لا أريدها ولكني أرغب في رؤيتها في الوقت نفسه، لقد قيدتني وأرهقتني، إنني الآن أحس بالعذاب الدائم. أنا لا أريد شيئًا من هذه الحياة.. فقط.. أريد أن أموت، أريد أن أستريح، لقد تدهورت صحتي، وتدهورت علاقتي بأسرتي ورؤسائي في العمل، أتجول في الأسواق كالمجنون، ومهما منعت فسوف أعود، وراح يبكي ويتوتر وتشنج ويشد ثوبه بعنف وكأنه يريد أن يمزقه من الألم، ومَن حَوله يرونه وهم يعتصرون لأجله ألمًا وحرقة، وهو يصيح بهم: ساعدوني ساعدوني، وبعد محاولة لعلاجه أخبر أحد الرقاة أنه مسحور ومربوط بتلك الفتاة المجرمة.
رأيت الهوى كالذئب يفتك بالفتى *** فحاذر من الحب الذي مثله الذئب
إذا المرء لم يردعه عن بعض غيـه *** حرام أما ينهاه عن غيه العـيب؟!
إننا -حين نسمع مثل هذه القصة الدامية ليس لنا أن نجرم الفتاة وحدها، فالشاب أيضًا له نصيب من الخطيئة كبير، لقد أطلق لعينيه النظر المحرم، وكرر النظر، وتمادى حتى وقع، يقول عيسى ابن مريم -عليه السلام-: "إياكم والنظرة بعد النظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بصاحبها فتنة".
أفلا فعل هذا الشاب مثل سلفه، شابٍ عابد ورع، كان ملازمًا للمسجد، حسن السمت وسيم الوجه، ممشوق القامة، نظرت إليه امرأة ذات جمال وحسب فشغفت به، وطال ذلك عليها، فوقفت له يومًا على طريقه أمام منزله، فقالت له: يا فتى! اسمع مني كلمات أكلمك بها، ثم اعمل ما شئت، فأطرق مليًّا وقال لها: هذا موضع تهمة، وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعًا. فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك، وأنتم معاشر العباد في مثال القوارير، أي شيء يعيبه، وجملة: ما أكلمك به أن جوارحي كلها مشغولة بك، فالله الله في أمري وأمرك.
فمضى الشاب إلى منزله، وأراد أن يصلي فلم يعقل كيف يصلي، فأخذ قرطاسًا وكتب كتابًا، ثم خرج من منزله، فإذا بالمرأة واقفة في موضعها، فألقى إليها الكتاب ورجع إلى منزله.
وكان الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم. اعلمي -أيتها المرأة- أن الله -تبارك وتعالى- إذا عُصِيَ حَلَم، فإذا عاود العبد المعصية ستره، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله -عز وجل- لنفسه غضبة تضيق منها السماوات والأرض والجبال والشجر والدواب فمن ذا يطيق غضبه؟
فإن كان ما رأيت باطلاً، فإني أذكرك يومًا تكون السماء كالمهل، وتصير الجبال كالعهن، وتجثو الأمم لصولة الجبار العظيم، وإني -والله- قد ضعفت عن إصلاح نفسي، فكيف بإصلاح غيري.
وإن كان ما ذكرت حقًّا، فإني أدلك على طبيب هو أولى بالكلوم المحرقة، والأوجاع الممرضة، ذلك رب العالمين، فاقصديه على صدق المسألة، فإني متشاغل عنك بقوله عز وجل: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 18 - 19]؛ فأين المهرب من هذه الآية؟ أين المهرب من هذه الآية؟
أوصيك بحفظ نفسك من نفسك، وأذكرك قوله -عز وجل-: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) [الأنعام: 60].
العفة -أيها الشباب والشابات- ذلك الجمال الذي لا يراه إلا من امتحن كهذا فصبر، لا يحس به إلا يوسف -عليه السلام- ومن وضع في أتون الاختبار فعصمه الله باستعفافه.
العفة عما حرم الله هي تاج الفضيلة، وسوار المروءة، وخاتم التقوى.
الموت خير من ركوب العار *** والعار خير من ركوب النار
والله من هذا وهذا جاري
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي -رضي الله عنه-: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن الأولى لك، والثانية عليك" (رواه أبو داود وحسنه الألباني).
وأما البائعون في السوق فإنهم ليسوا سواء، فمنهم الصالحون الأتقياء، ندعو الله لنا ولهم بالثبات على الإيمان، ونحذرهم من الفتن، وامتداد العين إلى محارم الله وعورات المسلمين، فربما زل التقي زلة تودي به إلى منكرات الفواحش، بسبب نظرة وغمزة.
ولقد عرفنا شبابًا جربوا البيع على النساء ما يخصهن من ملابس وزينة ونحوها، فلما رأى أحدهم من نفسه أنها لا تصبر على فتنتهن وتميعهن وخضوعهن بالحركة والقول ترك البيع لله -تعالى-.
أسأل الله أن يعوضهم خيرًا من ذلك سعةً في الرزق والأجل، وصحة في البدن، وصلاحًا في الأولاد.
وأما من لا خلاق لهم من البائعين، ومن نصبوا شراك الرذيلة لبنات المسلمين، فحري بالفاضلات إذا تعرضن لتحرشهم أن يبادروا إلى تبليغ هيئة السوق، كما فعلت إحدى الفتيات التي كان من عفتها أن كتبت طلباتها في ورقة وسلمتها للبائع ليحضرها بصمت، فكتب الذئب رقمه الجوال وسلمها طلباتها والورقة، فلما رأت رقمه في الورقة سلمتها لمحرمها الذي كان معها، فطار بها إلى هيئة السوق، فاتصلوا به وهم بالقرب منه فلما رن هاتفه وحادثوه للتأكد من ذلك، أخذوه ليلقى جزاء استهتاره بأعراض المسلمين.
ولو سكتت هذه الفتاة لراح هذا اللص يحاول العبث بعرض مصونة أخرى.
بينما هناك فئة أخرى من الفتيات أهملتهن أسرهن، وغفلت عن تربيتهن، وألقت بهن في كل مكان ترغبن فيه دون أية رقابة أو سؤال، سواء مع السائق الأجنبي، أو بإيصالهن ثم تركهن يبحرن في أمواج الفتن وحدهن، فكان الحصاد من جنس الزرع، هذه فتاة كانت بين أب مشغول بدنياه، وأم لاهية في نزهاتها وأعمالها، فانغمست في مشاهدة الأفلام التي كانت تتبادلها مع البنات في المدرسة، وأغرمت بالغناء، والغناء بريد الفاحشة، وأدمنت على مهاترات الفضائيات -وليس أسوأ من الفضائيات إلا مواقع الفساد في الإنترنت حين تغلق الفتاة على نفسها باب غرفتها، وتفتح مع الفاسدين غرف الدعارة صوتًا وصورة، وأهلها في سباتهم غافلون- فجاشت شهوات هذه الشابة الفارغة، وتململت وهي بين جدران غرفتها المصمتة، فتطلعت لتقيم علاقة حقيقة برجل غريب، وخاصة أنها لا ترى عيون الأهل تراقبها، بل ترى كل يوم عشرات العلاقات التلفازية الجنسية المغرية، وفي السوق يسهل التطبيق وتصديق الرغبات، رأت أحد البائعين أنيقًا في مظهره، يضع المحسنات على وجهه، ملامحه تدل على أنه من بلد عربي آخر، فهامت به:
وكنت متى أرسلت طرفك *** رائدًا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر *** عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وبعد ملاطفة عذبة من البائع بادلته الكلام الخاص بالسلعة ولكن في إطار مخالفة قوله تعالى: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) [الأحزاب: 32]، وخرجت وقد وقع الشاب المتبرج في قلبها الخالي فتمكن منه:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
فأحست برغبة عارمة للعودة إليه، فعادت بعد أيام لتبادله أحاديث موسعة وصلت إلى عبارات الحب والغرام، وراحت تكثر من زيارة المحل، وأخذ يفصح لها عن حبه لها ويعدها بالزواج منها، وذات يوم وفي غمرة المشاعر المحتدمة والأحلام الوردية، أدخلها من باب خفي في المحل التجاري إلى غرفة صغيرة؛ لتقع الكارثة الكبرى برضاها، وتفقد شارة العفة ودليل الشرف في لحظة من لحظات الضعف والاستهانة بمراقبة من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وبدأت بعد ذلك سلسلة من الزيارات الموبوءة، التي ترخص فيها هذه المبتلاة كل مرة لعشيقها إيمانها، وتذل له عفتها، وتمزق بين يديه شرف أهلها، وذات يوم أتته وهو يتحدث مع متسوقات أخريات، وإن شئت ضحايا جددًا، فنادته فغلظ لها الكلام فتعجبت من تعامله الجديد، ولكنها أخبرته بأنها تحمل خبرًا هو أكبر من كل ذلك، وهي ترتجف خوفًا، قالت له: أنا حامل فتمعر وجهه خشية الفضيحة والعقوبة، فقالت له: ألم تعدني أن تتزوج مني، فقال لها كيف وأنا لست من أهل هذه البلاد، فقالت: أنا أدبر الأمر مع أهلي.. سوف أبكي حتى يوافقوا..، المهم أن تتقدم لخطبتي واترك الباقي عليَّ، فصرفها ليفكر، واستشار أحد أصدقائه في مخرج من هذه الأزمة، فضحك منه صديقه، وقال له: هذا أمر يسير وقد خرجت منه مع أربع فتيات من قبل، حيث أذهب إلى عجوز أجنبية ماهرة تجهضهن أمامي. ففرح المجرم بهذا المخرج، وجاءت الفتاة وهي تنتظر قرار الزواج فأخبرها بالمخرج المقترح فرضيت مرغمة ذليلة، وركبت مع الذئبين وحيدة فريدة، وحين وصلوا إلى بيت العجوز أخبرهم الجيران أن رجال الأمن وفقهم الله قد قبضوا عليها، فارتجف الذئب خوفًا، ولكن صديقه المتمرس في الخطيئة طمأنه بأنه رأى الأمر أربع مرات بعينيه، وهو على استعداد تام أن يقوم بالإجهاض بنفسه، والفتاة المغلوبة على أمرها تسمع الكلام وقد استسلمت بكل حسرة لما يريدون.. المهم أن تتخلص من هذه النطفة القذرة، والعذاب المهين، وليس وراء معصية الله إلا العذاب، واشترى المجرم أدوات الإجهاض، وهتكت الفتاة سترها مرة أخرى أمام الذئبين، وراح مدعي الخبرة النكراء يجري العملية وكأنه يتعامل مع حجر لا بشر، والفتاة تصرخ بين يديه من الألم، حتى إذا أخرج ما تخلق في رحمها، إذا بها تصرخ صرخة قوية سكتت بعدها، فأخذا يوقظانها، فلم يتمكنا.. إذ إنها حينها فارقت الحياة في أتعس خاتمة.. فلما رأيا أنهما قد تورطا بها، ذهبا بجثتها إلى كومة من المخلفات ودفناها تحتها، وراح الأهل -بعد أن صحوا من غفوتهم- يبحثون عن فتاتهم، وأبلغوا الشرطة، وبعد فترة إذا بأحد الذاهبين لصلاة الفجر في المسجد القريب من مكانها يكتشفها بالرائحة المتعفنة، وبعد البحث والتحقيق والتفتيش انكشفت الأوراق، وظهر المجرمان، لينالا عقوباتهم التي تليق بأمثالهم... وهكذا تتطور النزوة المجردة أمام الشاشة إلى محاولة جريئة للتطبيق العملي في السوق.. إلى فاحشة وقتل وفضيحة في الدنيا قبل الآخرة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تفنى اللذاذة ممن ذاق صفوتها *** من الحرام ويبقى الوزر والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النـار
يا أولياء الأمور: لقد استمعت لهموم رجال الهيئة، وسألت بعض الشباب المتسكع في الأسواق لغرض المغازلة، وصارحت البائعين فوجدتهم يتفقون على كلمة سواء، وهي أن المرأة التي تذهب بدون محرم تكون أكثر من غيرها عُرضة لمضايقات الشباب وطمعهم، وأن من أسباب إقدام الفتاة أو حتى المرأة المتزوجة أو الشاب على ربط العلاقات بالآخرين، هو ضعف الإيمان أولاً حيث قال بذلك ما نسبته أكثر من ثمانية وسبعين في المائة من الشباب والشابات؛ حين تهمل تربيتهم على الصلاة والقرآن، ويستهين الوالدان بمظاهر التفسخ والتعري في البدايات؛ لأنهما -للأسف الشديد- تعودا أن يريا ما هو أكبر وأشد في الأفلام والمسلسلات الهابطة، وفي المقابل توفر لهم وسائل الشحن الجنسي من فضائيات خليعة وإنترنت مفتوح على كل ملاهي العالم وخماراته، وسائق وخادمة من بيئات منحلة دون مراقبة لهما، وما هم إلا لحم ودم فلماذا تستبعد أن يقع منهم ما تسمعه عن الآخرين، إذا قد وفرت كل أسباب الفواحش في دارك، ثم ما يشعر به أحيانًا هؤلاء الشباب والفتيات من نقص في عواطفكم تجاههم وحنانكم عليهم، لا تقل لي كيف يقل حبهم في فؤادي وهم أبنائي وبناتي وزوجتي، لأني سأقول لك وكيف سيعرفون حبك لهم وعواطفك تجاههم، وأنت لم تمنحهم الوقت الذي يشعرون فيه بذلك، ولم تصارحهم بهذا الحب والحنان، وقد رأوك تفضل جلسات أصدقائك على مجالستهم، إن الأمر خطير جدًّا.
فتدارك أسرتك قبل فوات الأوان، فالسعيد من وُعظ بغيره.
واعلم أن المال يجب أن لا يكثر في أيديهم فيجمع حولهم رفقاء السوء، ويخططوا به للفساد، وأن لا يقل فينحرفوا ليحصلوا عليه.
والفراغ هو الداء الوبيل، فهو للشاب مفسدة، وهو للفتاة غلمة، وهو يمثل نسبة أكثر من ثمانين في المائة من أسباب المعاكسات في الأسواق، فخطط لحياتهم ومستقبلهم، وأنفق بسخاء على شغل أوقاتهم بالخير، وإياك والثقة المفرطة فهي التي ضيعت بيوتًا محافظة، وأفسدت قلوبًا كانت نقية، ولا تطل الغياب عن زوجتك وأولادك، فقد ذكر ذلك ما نسبته خمسة وثلاثون في المائة من المعاكسين والمعاكسات، واحذر من اختلاط نسائك مع الأجانب، فلا قريب ولا بعيد، ولا شقيق ولا خال، ولا سائق ولا خادم، ولا عربي ولا أعجمي، فالجميع رجال، والحمو الموت، ومن يدخل البيت دون حذر أخطر من غيره، واحرص على تزويج أولادك ذكورًا وإناثًا زواجًا مبكرًا دون شروط مادية؛ لترتاح نفوسهم من التطلع إلى خارج أسوار الفضيلة، وتقر عينك وعيونهم بهم وبأولادهم.
واتقوا الله -أيها الأولياء- في أولادكم من الشباب الذين بدلاً من أن تصحبوهم معكم ليتعلموا الحياة من معين رجولتكم تركتموهم يقفون في مواطن التهم في الأسواق، فمهما برأوا ساحتهم أمام المجتمع بحجج شتى فهم متهمون، ولا سيما إذا بدوا في نوع من الزينة والتجمل المبالغ فيهما، وراحوا يطلقون سهامهم دون رعي لحرمات الله ومحارم خلقه.
وربما صحبوا ذلك بتعاطي الدخان، أو تناول بعض المرطبات والوجبات الخفيفة، مما يشير بوضوح إلى أنهم جاؤوا لهدف آخر غير التسوق.
ألم يعلموا بأن النظرة سهم مسموم؛ كما قال حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-؟ ومعنى ذلك أنه يرتد على نفس صاحبه في مقتل من مقاتل الفضيلة والحشمة كما يصنع السم في البدن.
ولا تقولوا -أيها الأولياء- لقد اشتط بك الحديث، وشككتنا في أعز الناس علينا، وأولاهم بثقتنا، فأقول: نعم هم إن شاء الله كذلك، ولكن من الغفلة أن تكون الثقة عمياء، لا تبصر حتى تحس بلفح الجمر في أجفانها.
أناشدكم الله: أليس هؤلاء الشباب الذين وقعوا في أحابيل الشيطان من أبناء مجتمعنا؟ أليس هؤلاء النسوة المتبرجات في الأسواق من بنات جلدتنا؟ ومَن أصحاب هذه القصص المبكية؟ أليسوا قطعًا من أفئدتنا؟
فاتقوا الله فيمن استرعاكم الله عليكم، وكفاكم غفلة، فإنكم إذا وثقتم في أبنائكم أو بناتكم وزوجاتكم أو أقربائكم الذين يدخلون دوركم، فلا تثقوا في الشيطان الذي أخذ العهد على نفسه أن يسول لهم ولكم.
كيف وقد تجرأ وأسرف كثيرون في الثقة فتركوا السائق الغريب يذهب بزوجاتهم وبناتهم هنا وهناك دون محرم، بحجة الانشغال عنهم، هذه الثقة التي راحت تنزف فضيحة وألما في كثير من البيوت إلى الأبد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور: 30 - 31].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والبيان.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
اللهم ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد عز جاهك وتقدست أسماؤك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده أمر السماوات والأرض، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: وكما في السوق غفلات وآهات ففي السوق إنابة وتوبات، وصحو بعد سبات، هذه نوال بعد أن اكتوت بتجربتها تقول بكل أسف: كان دافعي وراء هذه المغامرة الجريئة هي مراهقتي المتمردة، في ظل إهمال أهلي لتربيتي، وشدتهم في تعاملهم معي، واحتقارهم لشخصيتي؛ فحاولت إثبات شخصيتي، منفردة برأيي، وحين تعلقت بأحد الشباب وجدت منه اهتمامًا بالغًا كنت في حاجة ماسة إليه، وسؤاله في كل وقت عن حالي وراحتي، أتلقى منه الهدايا الثمينة والأشعار الجميلة، ولم أكن أنظر إلى كل هذه التصرفات إلا أنها سلوكيات تافهة، حقيرة، مع استمراري فيها، وهي في الوقت نفسه فترة رعب وخوخ وقلق، وأنا الآن أفضل حالاً، وأكثر راحة، بعد أن تخلصت من كل ذكريات الماضي معه، ولن تتكرر التجربة أبدًا إن شاء الله، ثم تنهدت وقالت: كان همًّا وكابوسًا مزعجًا وانزاح.
وتقول فاتن بحسرة وألم: إن المعاكسات هواية تبدأ فيها الفتاة بنشوة الصعود إلى أعلى، إلا أن تلك النشوة سرعان ما تزول، وتهوي الفتاة من الأعلى على رأسها، ومعي تجارب عدة دفعني إليها الفراغ الشديد بعد انقطاعي عن الدراسة، واستيقظت وقد عاقبني الله -عز وجل-، بل قدم عقوبتي في الدنيا، فكانت علاقاتي بغيره هي نصيبي من الحياة الزوجية فقد فاتني قطار الزواج.
ولن يمر بمحطتي أبدًا، فلتحذر جميع الفتيات من هدر مشاعرهن وقلوبهن؛ لأنها أمانة لديهن لا تكون إلا لصاحبها، وليتقين الله. ما أحقر وما أتعس حياة المعاكسات، وما أشد الندم بعد انقضاء الملذات.
وهذا أحد الشباب يقف على رصيف الشارع، وقد أتى بغرض المغازلات والتسكع، فينتهي إلى سمعه صوت أحد الدعاة من شريط مسجل، تذيعه هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقترب ويقترب حتى يجلس أكثر من ساعة وهو يحس بأنه يغتسل بهذه الموعظة المتدفقة، ويتخلص شيئًا فشيئًا من سوابقه السيئة، وينتهي به الأمر أن يدخل إلى رجال الهيئة في اليوم الثاني بجميع أشرطة الغناء ليعلن بين أيدهم توبته من الغنا والخنا والمعاكسات والفحش وأسبابه.
وفتيات كثيرات يتوافدن على هذه المراكز التي تقف شامخة تدافع عن أعراضنا، وتحمي شرفنا من أن تمتد إليه مخالب المكر، يتوافدن ليأخذن مطوية فتاوى، أو كتاب فقه، أو شريط دعوة، فيأتين بعد فترة قصيرة بمئات الأشرطة من الفيديو والكاسيت مما حرم الله سماعه ورؤيته، ويتخلصن منها.
وهذه امرأة أخرى تركب في إحدى السيارات بطريقة مريبة فيوقفها رجال الحسبة، ويأخذوا الشاب معهم إلى المركز، فتنفجر باكية، وتصيح بهم إنني -والله- امرأة عفيفة، وهذه المرة الأولى التي تزل فيها قدمي، والحمد لله الذي سترني بكم، وما ركبت إلا لأفرغ همي من جراء غياب زوجي عني كثيرًا، وعدم اهتمامه بي، إنه لا يكاد يتكلم معي، وكنت أريد أن أتحدث مع من يسمعني وحسب، فأرجوكم أن تستروا علي، فنصحوها، وستروا عليها.
أيها الشباب الأطهار: إياكم أن تصغوا إلى نواقيس الرذيلة حين تدق أبواب أحاسيسكم.
ويا أيها الفتيات: احذرن أن تكن ضحية اللحظات المسعورة، التي ليس بعدها غير الندم، وربما العار والنار.
ويا أيها الأولياء: احذروا على كنزكم الثمين من لصوص الأعراض، واعلموا أن التربية الإيمانية المتكاملة المتوازنة للبنين والبنات هي الدرع القوية الواقية، والتحصين الدائم -بإذن الله-.
ويا إعلاميي الأمة: قوموا بدوركم في بناء المجتمع النظيف، الآمن أهله على أعراضهم قبل أموالهم، فلقد منحكم الناس أعناقهم وقلوبهم ليل نهار؛ لتشكلوا حياتهم وفق ما تذيعون وتزينون، فاتقوا الله في مستقبل هذه الأمة، بل في مستقبل الإنسان في هذه الأرض التي تنتظر دور المسلم المنقذ لها مما تردت فيه من مهاوي الخنا، فإن معظم الفساد يبدأ بمشهد خليع، أو أغنية ماجنة، أو كلمة مغرية، أو صورة فاتنة.
ويا رجال التعليم ويا مربيات الأجيال: لقد وضعنا فلذات أكبادنا بين أيديكم، فأحبوكم، وتلقوا منكم، فلا تغفلوا عن تأديبهم وأنتم تلقنونهم العلم، فإن الأدب مقدم على العلم.
إن كل فرد في الأمة مسؤول عن جزء من المحنة الأخلاقية التي تمر بها، وإذا لم يقم كل منا بمسؤوليته، فلن نأمن أن نؤتى من ثغره.
أسأل الله –تعالى- أن يحمينا جميعًا من مضلات الهوى، وأن ينقذنا من شراك الشيطان وحزبه إنه سميع الدعاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون: 1- 7].
حفظنا الله وإياكم من كل سوء وفاحشة ومكروه. وغسل ذنوبك وخطاياك كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
ثم صلوا وسلموا على خير الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصادق المصدوق الذي أمرنا الله -جل وعلا- بالصلاة والسلام عليه فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبد ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، أخص منهم الخلفاء الراشدين المهديين من بعده؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات