عناصر الخطبة
1/ فطرية بعض الأخلاق واكتساب بعضها 2/ العوامل المؤثرة سلباً في الأخلاق 3/ العلاج وطرق اكتساب الأخلاق الفاضلةاهداف الخطبة
اقتباس
أليست البرامج الهابطة المثيرة للغرائز سبباً في انتشار فواحش الزنا واللواط؟! أليست الصورة الفاتنة سبباً للسفور ودعوة لنزع الحجاب؟! أليست الثقافة المسمومة سبباً في الانحراف الفكري والتغريب الثقافي، وهكذا يتردى الناس في الفتن وتتلوث أخلاقهم وهم لا يشعرون؟! والفتنة أشد من القتل، والقتل -وإن كان بطيئاً- فهو أشد أثراً من ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له.
أيها المسلمون: قال رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أوصني فقال: "اتق الله حيث كنت" قال: زدني، قال: "أتبع السيئة الحسنة تمحها" قال: زدني، قال: "خالق الناس بخلق حسن".
وفي حديث آخر قال -عليه الصلاة والسلام-: "كرم المؤمن دينه، وحسبه حسن خلقه، ومروءته عقله". وقال الحسن: "من ساء خلقه عذب نفسه". وقال الفضيل: "لأن يصحبني فاجر حسن الخلق، أحب إلي من أن يصحبني عابد سيء الخلق". ومن وصايا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "خالطوا الناس بالأخلاق وزايلوهم بالأعمال".
وقال الجنيد: "أربع ترفع العبد إلى أعلى الدرجات -وإن قل عمله وعلمه- الحلم، والتواضع، والسخاء، وحسن الخلق، وهو كمال الإيمان".
إخوة الإيمان: وحيث مضى حديث عن فضل حسن الخلق وأثره، ونماذج من خلقه -صلى الله عليه وسلم- وإشارة إلى أصول الأخلاق الفاضلة. فحديث اليوم يرتكز على ثلاث نقاط أساسية:
1- فطرية بعض الأخلاق واكتساب بعضها.
2- العوامل المؤثرة سلباً في الأخلاق.
3- العلاج وطرق اكتساب الأخلاق الفاضلة.
أما فطرية الأخلاق وإمكانية تقويمها فقد ذهب بعض الباحثين والفلاسفة إلى أن الأخلاق غرائز في النفس الإنسانية لا تقبل تقويماً ولا تعديلاً، وهذه نظرة خاطئة، وقد استغلها من ثقلت عليه مجاهدة نفسه فراح يبرر لها ما هو مقيم عليه من ذميم الأخلاق، بأنه ليس في وسعه تغيير ما طبع عليه وجبل.
ولكن الصواب من القول أن من الأخلاق الكريمة ما يطبع عليه صاحبه فهذا يحمد الله على ما آتاه الله من فضله، ومن الأخلاق الكريمة ما ينال بالاكتساب والمجاهدة.
وفي حديث أشج عبدالقيس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة" قال: يا رسول الله قديماً كانا في أو حديثاً؟ قال: "قديماً" قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله.
قال ابن حجر في شرحه للحديث: "فترديده السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي وما هو مكتسب". ويقول القرطبي -مشيراً إلى ما في الخلق من جبلة وما يمكن أن يكتسب-: "الخلق جبلة في نوع الإنسان وهم فيه متفاوتون؛ فمن غلب عليه شيء منها إن كان محموداً، وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محموداً، وكذا إن كان ضعيفاً فيرتاض صاحبه حتى يقوى".
وفي حديث الغزالي في "الإحياء" عن الأخلاق، عقد فصلاً في بيان قبول الأخلاق للتغيير بطريق الرياضة، ومما قاله: "فلو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ، والتأديبات، وما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حسنوا أخلاقكم".
وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن؛ إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وكل ذلك تغيير للأخلاق.. إلخ كلامه الطويل.
عباد الله: ولو كان تقويم الأخلاق وتهذيبها غير مستطاع لكانت دعوة الشرائع إلى ذلك عبثاً لا طائل تحته، والشريعة الربانية تنزه عن هذا، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولا يحملها ما لا تطيق.
وقد حثت الشريعة على كريم الأخلاق، كما أنه صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه". وفي هذا دليل على إمكانية اكتساب الأخلاق الفاضلة، وترويض النفس عليها.
إخوة الإسلام: وقبل أن أعرض للطرق المعينة على اكتساب الأخلاق الفاضلة، أقف عند العوامل المؤثرة على سوء الأخلاق، وكيف تتأثر القيم، وتنحدر الطباع.
ومن أقوى العوامل المؤثرة على سوء الخلق: ضعف الإيمان بالله، وضعف اليقين بجزاء الآخرة، وهذا الصنف لا يهمه حسنت أخلاقه أم ساءت، أما الذين يرجون لقاء ربهم فيدللون على ذلك بعملهم الصالحات، والأخلاق جانب مهم منها.
والمتقون لو ضعفوا ومسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، ولا يتورع المجرمون والمفلسون عن ضرب هذا، وشتم هذه، وأكل مال هذا، والتطاول على عرض ذاك، وهكذا تتراكم سوءات الأخلاق لمن لا خلاق لهم ولا يرجون لقاء ربهم ولا يطمعون في رفيع الدرجات.
ومن العوامل: القرين، فله أثره على قرينه.
ومن العوامل كذلك: حب الدنيا، والطمع فيها والجشع، وكل ذلك يعمي صاحبه من معالي الأمور والتعامل مع الناس بالحسنى، وكم وقع بين الناس بسبب ذلك من قطيعة وخصومة وتنافر وشحناء، ولربما تسابقوا في سوء الخلق ورديء الكلام؟! وأين هذا من السخاء والكرم، والصبر والحلم والتواضع والصفح، والتعاون على الخير وغيرها من خلال كريمة لا يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم؟! ولو هانت الدنيا في قلوبهم لحسنت أخلاقهم، وساد الود والوئام بينهم، وإلى الله المشتكى.
ثالثاً: ومن عوامل ضعف الأخلاق: ضعف الرادع، وغياب العقوبة أو ضعفها أحياناً؛ إذ في النفوس من لا تردعها إلا العقوبة وسلطان الجزاء، وسواء كانت العقوبة حسية أم معنوية؛ فكل ذلك وازع ومهذب للنفس، ويزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وعذاب الدنيا عند الجهلة أخوف من عذاب الآخرة.
وقد تؤدي العقوبة المعنوية مثل أو أعظم مما تؤديه العقوبة الحسية، وهاكم نموذجاً من هديه -صلى الله عليه وسلم- في علاج رديء الأخلاق، أخرج الإمام أحمد في "مسنده" من حديث عائشة -رضي الله عنه- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة.
وهذا أسلوب تربوي في علاج الأخطاء على المربين أن يتأملوه ويعملوا به: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت:5-6].
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، يحب الصابرين والمحسنين، ويجزي المتصدقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالتقوى والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوه، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صحاباً بالأسواق، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المؤمنون: أما السبب الرابع من أسباب تلوث الأخلاق ورداءتها فهو: ذلك الركام الهائل الذي تبثه وسائل الإعلام وتدمر به الأخلاق وتهدم القيم.
إنها لحرب أعنف وأمضى أثراً من الحروب العسكرية؛ إذ كانت الحرب فيما مضى قصراً على الرجال المحاربين، أما هذه الحرب الإعلامية فهي شاملة للنساء والأطفال، والشيوخ والشباب، وكنا في حروبنا مع أعدائنا -فيما مضى- ندافعهم حتى يسقط آخر سهم بأيدينا، أما الآن فنحن نستجلب من الوسائل ما يدمرنا، ونفتعل حروباً مدمرة لأهلينا وأولادنا، داخل بيوتنا.
عباد الله: أليست البرامج الهابطة المثيرة للغرائز سبباً في انتشار فواحش الزنا واللواط؟! أليست الصورة الفاتنة سبباً للسفور ودعوة لنزع الحجاب؟! أليست الثقافة المسمومة سبباً في الانحراف الفكري والتغريب الثقافي، وهكذا يتردى الناس في الفتن وتتلوث أخلاقهم وهم لا يشعرون؟! والفتنة أشد من القتل، والقتل -وإن كان بطيئاً- فهو أشد أثراً من الجراح في معركة يتقابل فيها المتحاربون.
ألا فانتبهوا -عباد الله- لأثر هذه الوسائل المدمرة، وحصنوا أنفسكم ومن تحت أيديكم من آثارها، ومن استرعاه الله رعية فمات وهو غاش لها لم يرح رائحة الجبنة.
أيها المسلمون: ولئن سألتم عن العلاج وطرق اكتساب الأخلاق الفاضلة، فهي كثيرة، ولكنها محتاجة إلى صدق ويقين وحزم وعزم ومجاهدة للنفس وترويض لها.
وهذه أولى القواعد، وهي منطلقة من قاعدة: "إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم"، وكم أفلح المروضون لأنفسهم والمزكون لها: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:9-10].
ولا بد -ثانياً- من انتزاع معوقات اكتساب الأخلاق الفاضلة من النفس، فإذا كان الطمع والخوف من أهم هذه المعوقات فيمكن استبعادهما بالثقة بما عند الله والتوكل عليه وحده. وهكذا ينبغي أن ينتزع من النفس كل خلق رديء يعوق عن اكتساب الخلق الحسن.
ومن الأمور المعينة على اكتساب الأخلاق الفاضلة: تقدير الأمور العامة في التربية والتأكيد عليها؛ فالأبوان -مثلاً- عنصر مهم في التربية، وللعلماء دور في قيادة الأمة وتوجيهها، ويوم أن تسقط هيبة الوالدين عند الأولاد أو يقل تقدير العامة لأهل العلم فإن مؤشر الأخلاق ينحدر، وتحطم الحواجز، ويقود السفينة غير ربانها.
وقراءة السير وتراجم النبلاء طريق من طرق اكتساب الأخلاق، ويقال: تراجم الرجال مدارس الأجيال، ومعلوم أن الخير مفرق بين الناس – قديماً وحديثاً – فهذا حليم، وهذا شجاع، وذاك كريم، ورابع يضرب المثل بصبره… وهكذا، والإطلاع على هذه في تراجم أصحابها يدعو الأجيال اللاحقة لمحاكاتها، فتتحسن أخلاقهم، وتتهذب سلوكياتهم، ويتصل أواخر هذه الأمة بأوائلها.
وتقدير مشاعر الآخرين طريق لاكتساب الخلق الفاضل، ومن جليل الحكم: "وآت للناس الذي تحب أن يؤتى إليك" ، "وأحب للناس ما تحبه لنفسك". وصاحب هذا الشعور كلما هم بخلق سيئ للآخرين تذكر كرهه هو لإساءة الآخرين له فأقلع عما هم به.
والشكر والاعتراف بما أنعم الله به عليك طريق مهم لاكتساب الأخلاق الفاضلة، ذلك أن في النفس شرهاً وكفراناً للنعم لا تستقيم معه الأخلاق الفاضلة، وتقييدها بلجام الشكر لله على كل نعمة، وسؤاله المزيد من فضله، وتذكر من هو أقل منه، أو من حرم النعمة التي أوتيها كل ذلك يهذب النفس من جانب، ويدعو لمزيد من النعم: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [ابراهيم:7].
ولا بد من الاعتدال والتوازن لمن يريد اكتساب الأخلاق الفاضلة، والحد الوسط في الاعتدال كما قيل: "أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه، وحد الجور: أن تأخذه ولا تعطيه".
وثمة أمر مهم لاكتساب الخلق الفاضل: ألا وهو الدعاء، فلا تجعل بينك وبين الله وسائط في سؤال أي نعمة، ومنها الخلق الحسن، وقد كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- في استفتاح الصلاة: "واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت".
فإن كان هذا دعاء من قيل له: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]؛ فكيف يزهد غيره بالدعاء عامة وفي حسن الخلق خاصة؟!
التعليقات