عناصر الخطبة
1/ قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة 2/ نتائج الهجرة وثمراتها 3/ فضيلة التاريخ الهجري.اهداف الخطبة
اقتباس
حَدَثُ الْهِجْرَةِ حَدَثٌ عَظِيمٌ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ؛ إِذْ بِهِ أُسِّسَتْ دَوْلَةُ الْإِسْلَامِ، وَانْطَلَقَتْ مِنْهَا الدَّعْوَةُ وَالْجِهَادُ وَالْفُتُوحُ، وَيَكْفِي فِيهَا أَنَّ المُهَاجِرِينَ صَارُوا يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى بِلَا خَوْفٍ وَلَا أَذًى مِنَ المُشْرِكِينَ.
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحَمْدُ لِلهِ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) [الحشر: 18-19].
أَيُّهَا النَّاسُ: هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ طَوِيلٌ عَنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى المَدِينَةِ، رَوَتْهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فقَالَتْ: "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَرَفَيِ النَّهَارِ، بُكْرَةً وَعَشِيَّةً... وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْمُسْلِمِينَ: "إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ" وَهُمَا الحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ إِلَى المَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ المَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: "نَعَمْ" فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ وَهُوَ الخَبَطُ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.... قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَقَنِّعًا، فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَعَمْ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ -بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ- إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بِالثَّمَنِ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلاَمٌ شَابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلاَ يَسْمَعُ أَمْرًا، يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ، حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلاَمُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ العِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ، وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا، حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاَثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ، هَادِيَا خِرِّيتًا، وَالخِرِّيتُ المَاهِرُ بِالهِدَايَةِ، قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ العَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاَثٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ".
وفي رواية عن سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ قال:"جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ يَا سُرَاقَةُ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ، أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا، انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ لَبِثْتُ فِي المَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ، فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ البَيْتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأَرْضَ، وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ، حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الأَزْلاَمَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا: أَضُرُّهُمْ أَمْ لاَ، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَعَصَيْتُ الأَزْلاَمَ، تُقَرِّبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ لاَ يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الأَرْضِ، حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً، إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلاَمِ، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الحَبْسِ عَنْهُمْ، أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلاَنِي، إِلَّا أَنْ قَالَ: "أَخْفِ عَنَّا". فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّأْمِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ، وَسَمِعَ المُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الحَرَّةِ، فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ، أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ، لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ اليَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ العَرَبِ، هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ المُسْلِمُونَ إِلَى السِّلاَحِ، فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِظَهْرِ الحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الأَنْصَارِ - مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- - يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأُسِّسَ المَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ، لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: "هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ المَنْزِلُ". ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الغُلاَمَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ، لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالاَ: لاَ، بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ: "هَذَا الحِمَالُ لاَ حِمَالَ خَيْبَرْ، هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ"، وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ، فَارْحَمِ الأَنْصَارَ وَالمُهَاجِرَهْ" أَخْرَجَ كُلَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ) [البقرة: 223].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: حَدَثُ الْهِجْرَةِ حَدَثٌ عَظِيمٌ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ؛ إِذْ بِهِ أُسِّسَتْ دَوْلَةُ الْإِسْلَامِ، وَانْطَلَقَتْ مِنْهَا الدَّعْوَةُ وَالْجِهَادُ وَالْفُتُوحُ، وَيَكْفِي فِيهَا أَنَّ المُهَاجِرِينَ صَارُوا يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى بِلَا خَوْفٍ وَلَا أَذًى مِنَ المُشْرِكِينَ.
وَكَانَ عَدَدُ المُسْلِمِينَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ قَلِيلًا، وَزَادَ الْإِسْلَامُ بَعْدَهَا وَانْتَشَرَ؛ فَفِي بَدْرٍ كَانَ عَدَدُ المُسْلِمِينَ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَثَلَاثَ مِئَةٍ فَقَطْ، المُهَاجِرُونَ مِنْهُمْ بِضْعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، رَغْمَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَثَ يَدْعُو لِلْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا، وَبَعْدَ سِتِّ سَنَوَاتٍ فَقَطْ مِنْ بَدْرٍ سَارَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِفَتْحِ مَكَّةَ بِعَشَرَةِ آلَافِ مُسْلِمٍ، وَبَعْدَ الْفَتْحِ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ سَارَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى تَبُوكَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَقِيلَ: لَحِقَهُ فِي الطَّرِيقِ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، فَكَانُوا سَبْعِينَ أَلْفًا.
هَذِهِ الزِّيَادَةُ الْعَظِيمَةُ تَحَقَّقَتْ فِي سَنَوَاتٍ قَلِيلَةٍ جِدًّا لَا تَزِيدُ عَلَى سَبْعِ سَنَوَاتٍ، وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ سَبَبَ ذَلِكَ. ثُمَّ اتَّسَعَ الْإِسْلَامُ وَانْتَشَرَ، وَلَا يَزَالُ يَتَّسِعُ وَيَنْتَشِرُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا بِحَمْدِ اللهِ تَعَالَى، رَغْمَ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَمَكْرِ المَاكِرِينَ، وَصَدِّ الصَّادِّينَ، وَتَشْوِيهِ الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ.
وَمِنْ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى لِلصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَدِقَّةِ فِقْهِهِمْ وَفَهْمِهِمْ أَنَّهُمُ اعْتَمَدُوا بِدَايَةَ تَارِيخِ الْأُمَّةِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ لِفَضْلِهَا فِي الْإِسْلَامِ؛ وَلِكَوْنِهَا الْبِدَايَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لِتَكْوِينِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنِ اعْتِمَادِ الْهِجْرَةِ بِدَايَةً لِتَارِيخِ الْأُمَّةِ، وَانْتَزَعَ السُّهَيْلِيُّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة: 108] قال: فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ صِحّةُ مَا اتّفَقَ عَلَيْهِ الصّحَابَةُ مَعَ عُمَرَ حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي التّارِيخِ، فَاتّفَقَ رَأْيُهُمْ أَنْ يَكُونَ التّارِيخُ مِنْ عَامِ الْهِجْرَةِ؛ لِأَنّهُ الْوَقْتُ الَّذِي عَزَّ فِيهِ الْإِسْلَامُ، وَالَّذِي أُمِّرَ فِيهِ النّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَسَّسَ الْمَسَاجِدَ، وَعَبَدَ اللهَ آمِنًا كَمَا يُحِبُّ، فَوَافَقَ رَأْيَهُمْ هَذَا ظَاهِرُ التّنْزِيلِ، وَفَهِمْنَا الْآنَ بِفِعْلِهِمْ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ أَوَّلُ أَيَّامِ التَّارِيخِ الَّذِي يُؤَرَّخُ بِهِ الْآنَ.اهـ.
وَهَذَا التَّقْرِيرُ يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ التَّارِيخِ الْهِجْرِيِّ، وَوُجُوبِ مُحَافَظَةِ الْأُمَّةِ المُسْلِمَةِ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ التَّفْرِيطِ فِيهِ، وَاعْتِمَادِهِ فِي المَوَاعِيدِ وَالمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّهُ المَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ؛ وَلِارْتِبَاطِهِ بِالْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي عَزَّ بِهَا الْإِسْلَامُ؛ وَلِكَوْنِ مَوَاقِيتِ الْعِبَادَاتِ وَحَوْلِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ التَّوَارِيخِ؛ وِلَتَمَيُّزِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ الْكِتَابِيَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ اخْتَارَهُ لَهَا، وَلَا يَخْتَارُ اللهُ تَعَالَى لِخَيْرِ الْأُمَمِ إِلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ لَهَا (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ....
التعليقات