عناصر الخطبة
1/ معنى اسم الله المحصي 2/ ما يُحصيه الله للعباد وعليهم 3/ دقة إحصاء الرب سبحانه مقارنة بإحصاء العبد 4/ حظ المؤمن من اسم الله المحصي.اقتباس
إن الله -عز وجل- قد أحاط وأحصى بعلمه كل المخلوقات يستوى عنده الدقيق منها والعظيم وما يكون منها في البر أو في البحر أو في السماء أو في الأرض، ويحيط ويحصي بجميع أحوالها وشئونها، ومن ذلك؛ إحصاء الأعمال الصالحة والطالحة على أصحابها: فقد وكل المحصي -سبحانه- بكل إنسان ملكان يكتبان...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: قد يعرف الواحد منا عدد أولاده وعدد إخوته وعدد عماته وخالاته، لكن هل من الممكن أن يعلم كم عدد الخطوات التي خطاها منذ تعلم المشي إلى الآن؟! أم كم عدد الكلمات التي نطق بها منذ أطلق بها الله لسانه إلى يومنا هذا؟! أو كم عدد الحروف التي خطتها أنامله على صفحات الأوراق مذ كان يتعلم الكتابة؟! أو كم عدد الأنفاس التي تنفسها وكمية الهواء التي حواها صدره منذ أن نزل من بطن أمه؟! وكم مشهد رأته عيناه؟! وكم جملة سمعتها أذناه؟! وكم إنسانًا قابل؟! وكم خاطرة خطرت بباله؟! وكم طريقًا قطع؟! وكم ذرة تراب وطأها؟! وكم جرثومة أو بكتريا صادفها؟! إنه لا يعلمها ويستحيل على كل مخلوق أن يعلمها؛ لكن واحد لا سواه قد عدَّها عدًّا وأحصاها إحصاءً وأحاط بكميتها وكثرتها وخواصها إحاطة؛ إنه المحصي -سبحانه وتعالى-.
أيها المسلمون: إن المحصي من أسماء الله -عز وجل-، ومعناه الذي أحاط وعدَّ وأحصى كل شيء من مخلوقاته بعلمه؛ فلا يعزب عنه دقيقها ولا جليلها، وهو العليم بدقائق الأمور، والمحيط بجميع الأحوال جملة وتفصيلًا.
فليس معنى المحصي مجرد علم عدد الأشياء كما يصنع البشر -مثلًا- في الإحصاء السكاني لمعرفة عدد مواطني دولة ما، بل المحصي -عز وجل- يحيط بكل الأشياء جملة وتفصيلًا؛ فيعلم أعدادها وأحوالها وصفاتها ومميزاتها وعيوبها... لا يخفى عليه شيء من أمرها، قال -تعالى-: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59]، وقال -جل وعلا-: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود: 6]؛ لذا فقد عطف الله -جل وعلا- العدِّ على الإحصاء في قوله -تعالى-: (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) [مريم: 93-94]، والعطف يقتضي المغايرة.
هذا، وقد يأتي الإحصاء بمعنى التضييق، وليس هذا المعنى هو المراد هنا، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: "لا تحصي فيحصي الله عليك" (متفق عليه)؛ أي: لا تحصي ما تنفقين في سبيل الله فتستكثريه، ومن ثم تنقطعي عن الإنفاق، فيقلل الله رزقك بقطع البركة أو بحبس مادته ويمنع عنك مزيد نعمته (انظر: التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي).
ولم يرد اسم الله "المحصي" في القرآن الكريم بلفظه الصريح, وإنما ورد بصيغة الفعل، كقوله -تعالى-: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس: 12]، وكقوله: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) [الجن: 28]، وكقوله -عز من قائل-: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) [النبأ: 29].
أيها المؤمنون: إن الله -عز وجل- قد أحاط وأحصى بعلمه كل المخلوقات يستوى عنده الدقيق منها والعظيم وما يكون منها في البر أو في البحر أو في السماء أو في الأرض، ويحيط ويحصي بجميع أحوالها وشئونها، ومنها:
أولًا: إحصاء الأعمال الصالحة والطالحة على أصحابها؛ فقد وكَّل المحصي -سبحانه- بكل إنسان ملكان يكتبان أعماله ويحصيانها عليه، قال -تعالى-: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار: 10-12]، وقال -سبحانه وتعالى-: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف: 80]؛ فهما ملازمان للإنسان لإحصاء أعماله له أو عليه حتى مجرد الكلمات يكتبانها، قال -جل وعلا-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]؛ "أي: ما يتكلم بكلمة إلا ولها من يراقبها ويكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة" (انظر: تفسير ابن كثير).
وتُكتب هذه الأعمال وتُحصى في كتاب بيد الملكين، قال -عز من قائل-: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس: 12].
وإنما يحصي المحصي -عز وجل- هذه الأعمال؛ ليواجه بها العبد يوم القيامة ويجازيه على أساسها، قال -تعالى-: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 13-14].
وعندها يفاجئ الإنسان بما أحصاه المحصي -عز وجل- عليه من أعمال قد نساها أو أعمال احتقرها ولم يتوقع خطورتها، قال -تعالى-: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة: 6].
ويفاجئون -أيضًا- بأن هذا الكتاب ما ترك شيئًا إلا وأحصاه؛ الصغائر والكبائر، فيا حسرة الظالمين يوم القيامة، يقول الله: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
ثانيًا: إحصاء أعداد المخلوقات وصفاتها وأحوالها؛ فإن المحصي -عز وجل- قد أحصى أفراد مخلوقاته وأجزاءها وصفاتها وخصائها، فهو الذي زودها بكل ذلك، يقول -تعالى-: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) [مريم:93-94].
ثالثًا: الإحصاء العام لكل شيء؛ فالمحصي -عز وجل- يعلم عدد حبات الرمال وأوراق الأشجار ونجوم السماء وأمواج البحار وقطرات الأمطار والزبد فوق المياه، ويحصي -عز وجل- مواقع الأقدام وخطرات النفوس ووساوس الصدور وكل زفير وشهيق وكل متحرك وساكن وكل مؤمن وكافر، يقول الجليل -سبحانه وتعالى-: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) [النبأ: 29].
عباد الله: إن الفرق بين إحصاء العبد وإحصاء الرب؛ كالفرق بين المخلوق والخالق، وكالفرق بين علم الله -عز وجل- وعلم من سواه، وكالفرق بين ملك الله -سبحانه- وملك سواه، يقول الغزالي: "والعبد وإن أمكنه أن يحصي بعلمه بعض المعلومات فإنه يعجز عن حصر أكثرها؛ فمدخله في هذا الاسم ضعيف كمدخله في أصل العلم".
إن إحصاء العبد قاصر ضعيف سطحي، وهو مكتسب موهوب له من الله -سبحانه وتعالى-، أما إحصاء الله فشامل ودقيق ومحيط؛ فإنه -عز وجل- يحصي ما خلق ومن خلق، قال -عز من قائل-: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
وإحصاء الله -تعالى- على سبيل اليقين والقطع؛ بينما إحصاء البشر فظني ومحدود؛ فلو نظرت إلى الطبيب -مثلًا- قد يحصي أيام الجنين في بطن أمه عن طريق الحاسوب والأشعة التليفزيونية، لكنه لا يستطيع أن يجزم -أبدًا- متى حصل الحمل به على وجه الدقة واليقين، ولا متى تكون الولادة على وجه الدقة واليقين -أيضًا-، حتى وإن تقدم العلم التجريبي واستطاعوا أن يحصوا ذلك على وجه الدقة؛ فلن يستطيعوا الجزم بوقت حدوث حمل مستقبلي لم يحدث، وسيظل إحصاء العبيد جزئيًا قاصرًا احتماليًا، وستظل النسبة بين إحصاء الإنسان وإحصاء المحصي -عز وجل-؛ كالنسبة بين قدْر ملك الملوك وبين قدْر العبد العاجز المملوك.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها المؤمنون: على المؤمن واجبات كثيرة تجاه اسم الله المحصي، هي حظه من هذا الاسم، ومنها ما يلي:
أن يراقب العبد ربه -عز وجل- في سره وعلانيته ويبتعد عن المعاصي ويحصي على نفسه أعمالها؛ لعلمه أن كل ما يفعله يحصيه عليه المحصي -عز وجل- ثم يجازبه به يوم القيامة، قال الله -تعالى-: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة: 6]، ويحذر أن يكون ممن قال الله فيهم: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر: 47].
ومنها: أن يحصي المؤمن أيام عمره ويهتم لفواتها ويوقن أن كل يوم يمر عليه هو نقصان من أجله وقرب له إلى نهايته؛ فيعتبر بمرور الساعات والدقائق ويجد في اغتنامها بالأعمال الصالحات والقربات؛ فإن ما يمر منها لا يعود إلى يوم القيامة الذي لا تزال تُحصى عليه أعماله حتى يفضي إليه، قال -تعالى-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
ومنها: أن يحاول إحصاء نِعَمَ الله عليه التي عمته وشملته وأغرقته؛ وذلك ليؤدي شكرها بالقلب وباللسان وباستخدامها فيما يرضي الله -عز وجل-، مع يقينه أنه مهما حاول أن يحصيها فلن يستطيع أبدًا لغزارتها وتنوعها، وهذا ما قرره الله في كتابه حين قال: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34].
ومنها: أن يحصي المسلم ما يتأتى به إقامه شرائع الدين؛ فيحصي عدد الشهور وأيامها ليتأتي له صوم رمضان -مثلًا- والفطر منه؛ كقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" (متفق عليه)، وفي القرآن: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) [البقرة: 185]؛ أي: عدد أيام رمضان، أو عدد الأيام التي أفطر المسلم فيها لعذر السفر أو المرض أو الحيض؛ ليقضيها بعددها، وهذا كله يستلزم العد والإحصاء.
وكذا إحصاء أيام عدة المطلقة؛ كما أمر الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) [الطلاق: 1].
ومنها: إحصاء ما تقوم به أسس الدولة الإسلامية؛ فعن حذيفة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس".
وعند مسلم: "أحصوا لي كم يلفظ الإسلام"- قال: فقلنا: يا رسول الله، أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: "إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا"، قال: "فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرًا" (متفق عليه)؛ فالحفاظ على قوام الدولة الإسلامية واجب، ولا يتأتى ذلك إلا بإحصاءات كثيرة توضح نقاط القوة ونقاط الضعف، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
اللهم يا من تحصي علينا أعمالنا استرنا واغفرها لنا، واجزنا الجميل جميلًا وتجاوز عن قبيحنا...
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
التعليقات